خبر جديد في عالم فيزياء الكم يأتينا من هولندا ليدق المسمار الأخير في نعش النماذج الذرية التي حاولت إثبات وجود واقع مادي ثابت كامن خلف عشوائية العالم الكمي على المستوى شديد الصِغَر، وهو خبر سيء لأينشتاين كما عودتنا تجارب الكم الخاصة بظاهرة التشابك الكمي Quantum Entanglement، والتي لم يقتنع بها أينشتاين كما شرحتها نظرية الكم، كما أنه خبر سيء للمهووسين بالاختراق وفك الشفرات، إذ إن التجربة تثبت أن الأكواد المبنية على نفس الظاهرة يستحيل اختراقها تحت أي ظرف.
ما هو التشابك الكمي أصلًا؟ هو ظاهرة أثبتت التجارب الفيزيائية وجودها على مستوى الجسيمات، وتنطوي على وجود جُسيَمَين “متشابكين”، حتى إذا ما قمنا بالتلاعب بواحد منهما يتأثر الآخر تلقائيًا وفورًا دون تأخير ولو لجزء من الثانية، فنظرية الكم تقول لنا إن الجسيمات في هذا العالم الضئيل تتميز بسمات يستحيل أن نجدها للأجسام الكبيرة، مثل الوجود في مكانين في نفس الوقت، وأن تلك السمات تتحلل تلقائيًا إذا ما قررنا رصدها، لنجد الجسيم في مكان واحد فقط وكأنه يحاول ألا يراه أحد وهو يمارس طقوسه الكمّية الغريبة تلك.
في سياق البحث عن دليل يُثبت التشابك الكمي، كان العلماء يقومون ببساطة بنفس التجارب الكمية التقليدية، والتي يفتحون فيها نافذة لاختراق خصوصية جسيم ما، وهو جسيم يكون متشابكًا مع جسيم آخر، حتى إذا ما أفسدوا السمات الكمية الغريبة برصدهم، وجدوا أن الجسيم الآخر الذي لم يتعرض لأي محاولات رصد قد حذا حذو قرينه، في دليل دامغ على وجود ظاهرة التشابك الكمي.
أينشتاين يعترض وجون بِل يواجه
لماذا أرقت مسألة التشابك هذه أينشتاين؟ لأنها ببساطة تقضي بحدوث التشابك بشكل فوري، مما يعني أن الأثر في الجسيم الأول ينتقل للجسيم الثاني في “لا وقت”، وأن معلومة ما في الكون قد سافرت من مكان لآخر بأسرع من سرعة الضوء، والتي تقول النظرية النسبية لأينشتاين إن أي جسم لا يمكن له أن يجتازها.
تباعًا، اقترح أينشتاين أن هناك مجموعة من الخصائص الثابتة للجسيمات حتى قبل أن نقوم بقياسها، وأنها هي الطبيعة الثابتة الكامنة خلف تلك العشوائية التي نظن أنها تتحلل عند النظر إليها فقط، في حين أنها موجودة طوال الوقت ولكن يستحيل الوصول إليها، وأن تلك الخصائص هي التي تُملي على الجسيمات المتشابكة التصرف بهذا الشكل، بدلًا من الإقرار بأن المعلومة تنتقل بالفعل من واحد لآخر.
كيف يمكن إذن التأكد من أطروحة أينشتاين، وما إذا كانت هناك خصائص خفية ثابتة أم أن الطبيعة بالفعل عشوائية؟ هذا هو ما نجح في الإجابة عليه الفيزيائي الأيرلندي جون بل في ستينيات القرن الماضي، حين اقترح تجربة يمكن لها أن تفرق بين الحالتين، إذ قال بأن الخصائص الخفية إذا وُجدَت يمكن لها أن تفسر التشابك في حدود معيّنة، أما إذا تجاوزت درجة التشابك ذلك الحد فإن نموذج أينشتاين يكون خاطئًا حينئذ.
بالفعل، تم إجراء أول نسخة من تلك التجربة في معهد البصريات باليزيو في فرنسا عام 1982، حيث قام فريق الفيزيائي ألين أسبيكت بإثبات عدم وجود خصائص ثابتة كامنة، ليعلن انتصار عشوائية الكم على الرغبة في فرض نسق منظم على الطبيعة المادية كما أراد أينشتاين، وعلى الرُغم من أنه واحد ممن كسروا أحد ملامح الفيزياء الكلاسيكية الصلبة تلك بنفسه حين وضع أسس النظرية النسبية، إلا أن شبح الفيزياء القديمة تلك لم يغادر نظرته للكون على ما يبدو.
الفيزيائي الأيرلندي جون بِل
في العقود التالية، تم إجراء تجربة “بِل” هذه بأشكال مختلفة مرات عدة، ولكن فيزيائيين كُثُر دومًا ما أشاروا لفجوات في التجارب يمكن لرؤية أينشتاين أن تنفذ من خلالها لتثبت نفسها من جديد يومًا ما، والفجوة الأبرز كانت أن معظم هذه التجارب تستخدم فوتونات الضوء التي يتم إنتاجها أثناء التجربة دون القدرة على التقاطها كلها في النهاية، وهو أمر صعب إذ إن حوالي 80% منها يُفقَد مع نهاية التجربة، لتبقى نسبة ضئيلة يعتمد عليها إثبات التشابك الكمي، وهو ما يخلق فجوة في التجارب تُعرَف بفجوة الكشف Detection Loophole.
كيف لنا أن نتأكد إذن أن تلك النسبة الضئيلة تعبر بالفعل عن الغالبية التي لم نرصدها؟ ولماذا لا تكون تلك الفوتونات القليلة ذات خصائص معيّنة في حين يمكن للمجموعة الكبيرة المفقودة أن تفيدنا برؤية مختلفة؟ هذا هو السؤال الذي لم يجب عليه الكثير من العلماء مفترضين الفوتونات المرصودة مماثلة للمفقودة، غير أن هذا لم يمنع البعض من محاولة استخدام الذرات بدلًا من الفوتونات لغلق باب الجدل وحسم الخلاف لصالح نظرية الكم.
مرة أخرى، تبرز هنا معضلة لتحل محل أزمة الفوتونات المفقودة، وهي لا تتعلق بفقدان أي ذرات هذه المرة، ولكن بأن وضع الذرات أثناء التجربة على بُعد مسافة طويلة أمر صعب لأنه يفسد التشابك من الأصل في أغلب الأحوال، وفي حال تم وضعهما على مسافة قصيرة مناسبة فإن المعلومات التي ستنتقل لن تحتاج في هذه الحالة إلى تجاوز سرعة الضوء والتي ستتيح لها التواصل الفوري تقريبًا عبر تلك المسافة القصيرة، وهي فجوة التواصل كما تُعرَف Communication Loophole.
التجربة الهولندية
موقعا الإلكترونين في جامعة دِلفت A وB وموقع الفوتونَين C
في التجربة الأخيرة التي تم رفعها في ورقة بحثية على موقع أركايف العلمي المعروف أواخر أغسطس الماضي، قام فريق من جامعة دِلفت للتكنولوجيا في هولندا بقيادة الفيزيائي رونالد هانسون بإجراء أول تجربة بِل تتجاوز الفجوتين، وذلك باستخدام مميزات إجراء التجربة بالضوء والمادة العادية معًا، حيث قام الفريق بوضع إلكترونَين غير متاشبكين في البداية على بعد 1.3 كيلومتر بمعملين مختلفين في الجامعة، ثم جلبا فوتونَين وأحدثا حالة تشابك بين كل فوتون وإلكترون.
تباعًا، تم نقل الفوتونين إلى موقع ثالث حيث وُجِدَت حالة تشابك بينهما، وهو ما يعني تشابك بين الإلكترونين المرتبطين بِهما، وليتجاوز الفريق بذلك عقبتي الكشف والتواصل، فالإلكترونين يمكن رصدهما بسهولة على عكس الفوتونات التي تُفقَد كثيرًا، وفي نفس الوقت فإن المسافة بينهما كبيرة نظرًا لعدم تشابكهما في بداية التجربة، “إنها تجربة عبقرية وبديعة،” هكذا وصفها أنطون تسايلينغر الفيزيائي بمركز فيينا لعلوم وتكنولوجيا الكم.
كما هو متوقع أثبتت التجربة مرة أخرى الرؤية الكمية للكون، لتحقق بذلك انتصارًا حاسمًا على اعتراضات أينشتاين خاليًا من الفجوات – حتى الآن – وهو حدث جلل في عالم الفيزياء اليوم كما يقول ماثيو لايفر عالم فيزياء الكم بمعهد بِريميتر للفيزياء النظرية في واترلو بمدينة أونتاريو الكندية، “لن أستغرب إذا ما حصل واحد من مؤلفي هذه الورقة على نوبل في السنوات المقبلة.”
يقول لايفر إن أهمية التجربة، بعيدًا عن السجالات الفلسفية حيال الكون، تكمن في تبعاتها على التبطيق الأبرز للتشابك، وهو التشفير الكمي الذي تحاول شركات عديدة تطويره لابتكار أنظمة عصية على الاختراق، وهو أمر لا يمكن الالتفاف حوله نظرًا لقواعد فيزياء الكم، إذ إن التشفير سيعني وجود فوتونَين متشابكين بين اثنين من المستخدمين، في حين سيقضي دخول أي طرف ثالث لسرقة المعلومات بتغيّرها في الحال نظرًا لتغيّر الجسيمات المتشابكة الفوري والتلقائي إذا ما تعرّضت لمحاولة رصدها، وهو تغيّر سيكون بمثابة جرس إنذار.
***
هل من فجوات أخرى إذن؟ في الحقيقة قد تتبقى لدينا واحدة أشار لها جون بِل نفسه، وهي ليست فجوة تقنية ولكن فلسفية، إذ يظل هناك احتمال بأن الخصائص الخفية موجودة ولكنها تتلاعب باختيارات القائمين على التجارب ليحصلوا في النهاية على نتائج تؤكد لهم الرؤية الكمية للكون، وهي مُعضلة كما يقول تسايلينغر، إذ إن ذلك يعني أننا لسنا أحرارًا في أية تجارب نجريها إذن، وأن تلك الخصائص التي تشكلت مع الانفجار الكبير تُملي علينا كل شيء.
“معظم الفيزيائيين لا يبالون كثيرًا بتلك المسألة، والتي لا يمكن أن نثبتها على أي حال”، هكذا يقول تسايلينغر مطمئنًا إيانا، ومؤكدًا مرة أخرى على أن حسم أي جدال علمي وإن كان يتعلق بأعمق مسائل الكون، يظل صعب التحول لحقيقة مُطلقة، ولكن في أفضل الأحوال واقعًا مؤكدًا وساريًا عبر الكون الذي نعرفه على الأقل، وهو ما يكفينا في الفيزياء بشكل أو آخر، ويكفي العاكفين على تطوير التشفير بالطبع، والذين تستحوذ عليهم هواجس تجسس أوباما على ميركل أو ميركل على أوباما، وليس سيطرة الخصائص الخفية إن وُجدِت على عالمنا.