رغم أن توني بلير استطاع إعادة حزب العمال البريطاني إلى قلب السياسة في البلاد نهاية تسعينات القرن الماضي، لم يستطع الرجل التخلص من الجناح اليساري في حزبه، ظل هذا الجناح نشطًا بشكل نسبي في النقابات العمالية وفي نقاشات البارات مع العمال والموظفين وفي السجالات الداخلية في الحزب.
ورغم أن حزب العمال من المفترض أنه حزب يساري بطبعه، يدافع عن العمال ويدعم المساواة، إلا أن الحزب منذ فوزه في انتخابات 1997 لم يعد يهتم بالأمر، لم يعد الحزب حتى يذكر عدم المساواة كمشكلة يجب حلها في أدبياته وبرامجه.
اليوم، أعلن الجناح اليساري عن انتصار ساحق في الانتخابات الداخلية لحزب العمال، إذ فاز مرشحه الكاريزمي جيريمي كوربين برئاسة الحزب من الجولة الأولى بنسبة تقارب 60% من أصوات الناخبين.
وحصل كوربين على أكثر من 250 ألف صوت متقدمًا بفارق 40% عن ثاني منافسيه، الذي حصل على 19% من الأصوات.
واستطاع كوربين البالغ من العمر 66 عامًا، هزيمة بعض الذين أيدوا دخوله الانتخابات لإثراء النقاش السياسي من دون أن يتوقعوا فوزه، ومن ضمنهم وزيرين سابقين من حزب العمال هما إيفيت كوبر وآندي برنام، كما هزم ليز كندال التي تعتبر ممثلة للسياسات التي يؤيدها رئيس الوزراء السابق توني بلير.
وكوربين يساري وبرلماني محنك له باع طويل من التصويت ضد مشروعات قوانين طرحها حزبه، وقد فاز بزعامة الحزب بناء على وعود بزيادة الاستثمارات الحكومية من خلال طبع الأموال وإعادة تأميم قطاعات واسعة من الاقتصاد.
وطرح برنامج كوربين تحت عنوان الاقتصاد فى 2020 عدة مفاصل لسياسة اقتصادية جديدة، منها التأميم وزيادة الضرائب على المداخيل العالية والثروة، واستحداث مصرف للاستثمار العام، وغيرها من السياسات التي تطيح ما اتفق عليه العمال الجدد والمحافظون في الثلاثين سنة الماضية.
العديد من المتابعين قلقون من تبعات انتخاب كوربين، فالمحرر السياسي بهيئة الإذاعة البريطانية جيمس لانديل كتب يقول إن العمال انتخبوا أكثر قادتهم يسارية، وثورية، وقلة خبرة على الإطلاق، وتساءل لانديل عما إذا كان انتخاب كوربين سيعني بداية حرب أهلية داخل حزب العمال قد تفضي إلى انشقاقه.
وعادة ما يتم التعليق على مجموعة الانحيازات السياسية التي التزم بها كوربين طوال حياته كنائب برلماني بكونها طوباوية أو خيالية كآرائه فيما يخص تأميم الشركات وحماية القطاع العام وأنظمة التكافل الاجتماعي ودولة الرفاه، وأيضًا آرائه المعادية للناتو والتسليح النووي والمناصرة للقضية الفلسطينية، وتظل هذه التعليقات هي عصب الهجوم الهستيري الذي تقوم به عدد من المنصات الإعلامية البريطانية على شخص كوربين قبل مشروعه، وعلى رأس هذه المنصات كلًا من جريدة التليغراف المعروفة بتحيزها لسياسات حزب المحافظين، ومجلة الإيكونومست رسول الاقتصاد النيوليبرالي للعالم.
اعتمدت هذه المنصات بجانب المنشورات التحريرية المعتادة على مجموعة من مقالات الرأي لقيادات سابقة للحزب، من ضمن هذه القيادات كان توني بلير وغوردون براون آخر رئيسي حكومة من حزب العمال، كان عنوان مقال بلير في الجارديان يشبه سياسات كوربين بـ “فانتازيا أليس في بلاد العجائب”، بينما حذر براون أن انتخاب كوربين كفيل بتحويل الحزب إلى كيان لا يجيد سوى الاعتراض، وهو ما حذرت منه الإيكونوميست التي ذكر أحد تقاريرها أن انتخاب كوربين سيعني أن الحزب لم يعد قابلاً للانتخاب مرة أخرى قائلة “السيد كوربين ليس قابلاً للانتخاب، والأسوأ من ذلك، أنه ممل”.
سياسته الخارجية، مصدر تهديد آخر للساسة في بريطانيا، ذلك أنه يمكن أن يعكس كل ما يخالف مبادئ السياسة الخارجية البريطانية المنتهجة منذ عقود طويلة.
هو مُعارِض لاجتياح العراق، وعد منذ فترة بالاعتذار عن “الخداع” الذي سبق الحرب، وبعدم الخوض في أي تدخل عسكري لا طائل منه، ورغم الضغوط، لم يخجل كوربن من توضيح الوصف الذي أطلقه على “أصدقائه من حزب الله وحركة حماس” في مقابلة مع القناة الرابعة، قال إنه رحّب بأعضاء من حزب الله في اجتماع في البرلمان “لمناقشة الأزمة في الشرق الأوسط”، وإنه كان يريد أن تكون حركة “حماس” جزءًا من النقاش، أمس، أكمل تحديه لكل “الموروثات” السياسية القائمة و”الإنجازات” التي يفاخِر بها الغرب، فقال إنه “كان يجب محاكمة بن لادن لا اغتياله”.
آراء كوربين كانت دومًا سابقة سياسات بلاده، فقد عارض الرجل الحرب على أفغانستان والحرب على العراق، وطالب بفتح حوار مع الجيش الجمهوري الإيرلندي (الآي آر إيه) قبل سنوات طويلة من تحول ذلك إلى سياسة رسمية، وتعرض للسخرية والانتقاص بسبب تحدثه إلى كل من حماس وحزب الله، والآن من المفارقات العجيبة أن يكون طوني بلير منهمكًا في محادثات مع خالد مشعل رئيس حركة حماس، وبدعم كامل من رئيس الوزراء المحافظ دافيد كاميرون.
الكثيرون يتوقعون ألا تظل السياسة في بريطانيا على حالها مع انتخاب كوربين زعيمًا لحزب العمال، كوربين نفسه يقدم نفسه كمعاد للأمر الواقع، ويبدو أن قول كوربين “إن هدفنا ليس إصلاح الرأسمالية بل إنهاء الرأسمالية”، لن يكون أمنية فحسب، لكنه قد يسم الصراعات في السياسة البريطانية لسنين قادمة.