ترجمة وتحرير نون بوست
كتبت يلينا غوستلي وإدمي فان راين
خلف معظم التقارير الإخبارية التي يقدمها المراسلون الأجانب من قطاع غزة يوجد منسق، وهؤلاء المنسقين قد يكونون في بعض الأحيان من الصحفيين المحليين، أو ببساطة أشخاص يلمون باللغة الإنجليزية ويتمتعون باتصالات جيدة ومعرفة ملائمة.
عندما بدأت أميرة أحمد حرودة العمل كمنسقة صحفية في غزة في عام 2005، كانت أول امرأة تدخل في عالم مخصص للرجال، ومنذ ذلك الحين، اطردت أعداد النساء اللواتي انخرطن في هذه المهنة، بدافع الاختيار أو بدافع الضرورة أو لكليهما، هؤلاء النساء هم شابات ناطقات باللغة الإنجليزية، متعلمات وطموحات، في مجتمع يتمتع خُمس سكانه بمؤهلات تعليمية عالية، بالتلازم مع نسبة بطالة وصلت بين الشباب إلى 60%، مما يخفض حظوظ النساء بالعثور على عمل بعد فراغهن من دراستهن الجامعية.
نظرًا لتطلب حكومة حماس وجود مرافق محلي مع المراسلين الأجانب الذي يدخلون القطاع، أصبح المنسقون مسؤولين عن عمل الصحفيين الأجانب الذين عادة ما يستأجرونهم لبضعة أيام في كل مرة، ولكنهم يبقون بعيدين عن الأضواء، ولا تتم الإشارة إليهم في المواد الصحفية، وفي معظم الأوقات يعملون بدون أي تأمين أو حماية.
في سن الـ23، كانت ولاء الغصين العضو الوحيد الذي يكسب أموالًا ضمن عائلتها الكبيرة خلال فترة الحرب على غزة العام الماضي، وحينها كانت لارا أبو رمضان تبث أحداث الحرب على الهواء مباشرة من شرفة منزلها، متوجهة بحديثها مباشرة إلى الجمهور العالمي.
هؤلاء النساء (أميرة، ولاء، ولارا) هن ثلاثة من أصل العديد من النساء اللواتي ساعدن في نشر رواية غزة خلال حرب الـ52 يومًا، والتي أسفرت، وفق إحصائيات الأمم المتحدة، عن مقتل 2139 فلسطينيًا بينهم أكثر من 500 طفل، و 72 إسرائيليًا بينهم 66 جنديًا، هؤلاء النساء الثلاث من بين مئات المنسقين من النساء والرجال، اضطررن للبقاء في غزة بعد أن غادرها الصحفيون.
“يقولون بأني بلا أخلاق، ولا أحترم التقاليد”
أميرة أحمد حرودة تقول بأنها عندما بدأت تعمل كمسقة للصحفيين لم يكن يوجد نساء غيرها يعملن بهذا الاختصاص
هاتف أميرة، البالغة من العمر 32 عامًا، لا يتوقف عن الرنين بتاتًا، وعندما لا يكون على الجانب الآخر من الخط أحد السياسيين المحليين الذي يتصل بها ليؤمن لها لقاء مع صحفي معين، أو أحد الأمهات اللواتي كانت أميرة تحاول تعقبهن لإجراء مقابلة، تكون ابنتها البالغة من العمر ثماني سنوات، ليان، هي من يحدثها.
أميرة تعرف القطاع، الذي تبلغ مساحته 360 كم مربع، كما تعرف كف يدها، ولا يصعب عليها الوصول إلى أي شخص ضمنه، “إذا كنت أواجه أي مشكلة في أي مكان، يمكنني العثور على شخص قادر على مساعدتي، ويكن لي الاحترام، وأستطيع الوثوق به”، تقول أميرة.
ولكن الأمر لم يكن دائمًا على هذا النحو، فعندما بدأت تعمل كمنسقة صحفية في عام 2005، لم يكن يوجد نساء غيرها يعملن بهذا الاختصاص ضمن قطاع غزة، وتتذكر أميرة كيف حاول بعض زملائها من الرجال خلال أيامها الأولى ثنيها عن الخوض في غمار هذا المجال من خلال تصعيب الأمور وتهويلها.
“عندما كنت أحاول ترتيب لقاء مع شخص ما ليروي لي قصة معينة، كانوا يخبرون هذا الشخص لتجنب تحديد موعد معي، من خلال إقناعه بأنني سألفق وأكتب شيئًا ما يضره” تقول أميرة، وتضيف “وآخرون كانوا يقولون بأني بلا أخلاق، وبلا احترام للتقاليد، لأنني أبقى في الميدان حتى وقت متأخر مع الغرباء والأجانب، فكما تعلمون، غزة مكان صغير، والناس لا يتوقفون عن الكلام”.
“في البداية كان الموضوع يشكل نوعًا من التحدي بيني وبينهم، متمثلًا إلى أي مدى سأستطيع البقاء في هذا المجال”، تقول أميرة مع ابتسامة صغيرة تعلو محياها، ولكنها وجدت أخيرًا مصدرًا للدعم في والدها، حيث تقول “عندما كنت طفلة، انتقلنا إلى غزة من ليبيا، وكنا نناضل من أجل التكيف مع هذا المجتمع، أبي أيضًا كان ينتقدني بالبداية لسماحه لي بالعمل وحدي، وعندما باشرت بالعمل، كان في بعض الأحيان يأتي ليرافقني أثناء الأعمال الميدانية”.
في عام 2005، كانت إسرائيل تقوم بإجلاء آلاف المستوطنين وسحب قواتها من قطاع غزة، وهي الخطوة التي كانت الحكومة الإسرائيلية تزعم بأنها ستنهي من خلالها رسميًا احتلالها للقطاع الساحلي، وحينها تقدمت مراسلة ألمانية، كانت تعمل لصالح صحيفة دير شبيغل لتغطية الانسحاب الإسرائيلي من قطاع غزة، من شركة الإنتاج التي تعمل بها أميرة، وطالبت التعامل مع امرأة تستطيع الوصول بشكل أفضل إلى النساء في بعض قطاعات المجتمع الغزي.
كانت أميرة حينئذ تصنع شهرتها في مجال التلفزيون والإذاعة، حيث كانت تعمل كمقدمة لبرنامج أطفال تلفزيوني يُعرض على التلفزيون الفلسطيني التابع للحكومة، وتشير أميرة بأنها لا تزال تحتفظ بكاسيت واحد فقط يذكرها بعملها السابق، كون باقي المحفوظات تم تدميرها جرّاء الاقتتال الداخلي بين حركتي فتح وحماس في غزة، بعد فوز الأخيرة الكاسح في الانتخابات الفلسطينية لعام 2006، مما أدى إلى استيلائها بشكل لاحق على كامل القطاع.
ومنذ ذلك الحين، بدأت أميرة تغطي كل حرب وعملية عسكرية إسرائيلية كبيرة في غزة، كالتوغلات البرية، الغارات الجوية، وعمليات الاغتيال الاستهدافية، التي تركت الآلاف من المدنيين بين قتيل وجريح.
أميرة أثناء عملها مع المراسلة الهولندية مونيك فان هوخستراتين خلال زيارة إلى المنطقة الحدودية
الحصار المفروض على القطاع أدى إلى تقليص الواردات والصادرات بشكل كبير، كما أدى إلى الحد من حرية التنقل، محطمًا بذلك اقتصاد غزة، وتاركًا سكانها بلا موارد لكسب الدخل.
خلال عملية الرصاص المصبوب بين عامي 2008 و2009، كانت ابنة أميرة ليان تبلغ من العمر ستة أشهر فقط،”لم يكن من السهل بالنسبة لي أن أتركها في المنزل” تقول أميرة، وتضيف “ولكن زوجي، الذي يعمل في مجال التصوير، لم يحصل على فرصة عمل منتظم لمدة عامين بعد أن تزوجنا، وكانت فرص العمل التي يحصل عليها تقتصر على بعض العقود قصيرة الأجل”.
أميرة قد تحصل على عمل لبضعة أيام في الشهر، أو قد تمضي كامل الشهر بدون أي عمل على الإطلاق، والأمان هو حلم بعيد المنال لهذه العائلة الفتية، التي انضم إليها لاحقًا آدم، البالغ من العمر خمس سنوات، ولكن مع ذلك، استطاعت أميرة وزوجها ادخار ما يكفي من المال لشراء قطعة أرض، تقع على بعد كيلومترين من الحدود مع إسرائيل، بالقرب من بيت حانون، وهي المدينة التي تعرضت لعدة عمليات عسكرية، وهناك، وعلى بعد أقل من 100 متر يوجد برج مراقبة عسكري إسرائيلي، ولكن لشراء عقار في هذه المدينة “يجب أن تكون مليونيرًا”، تقول أميرة وهي تهز كتفيها.
المنزل يضم بستانًا صغيرًا تزرع ضمنه العائلة الفاكهة والخضروات والنباتات، كما بنت العائلة لنفسها منطقة جلوس مريحة تحت مأوى خشبي، ومرحاض ومطبخ صغير.
يبدو هذا المنزل وكأنه عالم بعيد عن السوق المزدحم في حي الشجاعية، الذي استهدفته قذائف الدبابات الإسرائيلية في حرب الصيف الماضي، وحينها كانت أميرة موجودة في الحي، وتستطيع تذكر جميع تفاصيل الانفجار الذي أسفر عن مقتل 17 شخصًا وجرح 200 آخرين، تتذكر الرائحة، وأشلاء الأجساد المنتشرة في كل مكان، وتقول “كنت أحاول فهم ما يجري، لماذا يوجد هذا العدد الكبير من الأشخاص على الأرض، ومن ثمّ حاولت أن أنظر للسيارة التي كانت تقلني، ولكنني لم أستطع العثور عليها”، وتضيف مستذكرة “كنت أرتدي سترة واقية من الرصاص، وهاتفي في يدي كالعادة، ثم قال لي أحدهم بأن السائق الذي كان معي نقل شخصين أو ثلاثة أشخاص في السيارة معه، والمراسلة التي كانت معي كانت تجهش بالبكاء، والمصور يتابع التصوير، لا أتذكر حقيقة كيف خرجنا من هناك”.
شراء قطعة الأرض قرب بيت حانون كان خطوة استثمارية محفوفة بالمخاطر، ولكنها مع ذلك أصبحت مكانًا تأوي إليه أسرة أميرة عندما يضطرون للفرار والهرب، “بعيدًا عن المدينة، وعن الازدحامات، وعن كل شيء، يمكن للأطفال هنا أن يمارسوا حياتهم ويلعبوا بحرية؛ لا يوجد حدود، وما يحكم معيشنا هنا الحرية والهواء النقي فقط”، تقول أميرة.
أميرة مع ولديها ليان وآدم أثناء حضور إحدى حفلات أعياد الميلاد
تقول ولاء الغصين بأن المنسقين الصحفيين هم الذين يبقون في الساحة عندما يغادرها الزملاء من الصحفيين الأجانب
“هل ذكرت كلمة (محبط) كثيرًا؟” تسأل ولاء، 23 عامًا، مع ابتسامة لطيفة، من المسلم به، بأنها استخدمت هذه الكلمة عدة مرات بينما كانت تتحدث عن حياتها خلال الأشهر القليلة الماضية.
قامت ولاء بقص شعرها الأسود الطويل وصبغته بعد ذلك باللون الأحمر، حيث تعد ولاء من بين أقلية من النساء اللواتي لا يرتدين الحجاب في قطاع غزة، رغم أن ذلك يعني، كما تقول، بأن الجميع سيعرفها ويتحدث عنها، بل حتى سيراقبون تحركاتها.
تخفي ولاء خلف لامبالاتها ضعفًا ملحوظًا، حيث تشعر بالقلق إزاء امتحاناتها الجامعية، وقدرتها على إنهاء تعليمها، فتقول “أنا مقصرّة للغاية، وهذه سنتي الخامسة في الجامعة، لقد كنت طالبة كسولة”.
حصلت ولاء على أول وظيفة لها كمس صحفية في العام الماضي، خلال عملية الجرف الواقي، عندما أخبرها صديق كان يعمل مع الصحفيين الأجانب بأنهم بحاجة إلى شخص يتقن اللغة الإنجليزية، وبعد وقف إطلاق النار، حصلت ولاء على عدد قليل من المهام التي تغطي من خلالها عملية إعادة الإعمار وما أعقبها، وبقيت مشغولة بممارسة بعض النشاطات الحرة وحضور المؤتمرات؛ مما أدى إلى تراجع أولوية دراستها للغة الإنجليزية في جامعة الأزهر إلى الدرك الأسفل من قائمة أولوياتها.
عندما بدأت الحرب، غادرت ولاء وعائلتها حي التوام الخطر الواقع في شمال غزة، ولجأوا إلى شقة عمتها المؤلفة من أربع غرف قرب الميناء، وانتهى الأمر بلجوء 50 فردًا من أعضاء أسرة ولاء إلى ذاك المنزل.
“لم أستطع البقاء في مكان متوتر مع هذا العدد الكبير من الناس”، تقول ولاء، وتتابع “لا أحد منهم كان قد تهيأ للحرب، وفي تلك المرحلة، كنت الوحيدة التي تكسب المال في العائلة”.
كانت ولاء تستيقظ في غرفة في منزل عمتها، تعيش فيها مع والديها وشقيقاتها الأربع وشقيقها، فإذا كانت مرتبطة بعمل ما، وهو ما كان يحدث في معظم الأيام، كانت تخرج من المنزل في وقت مبكر، بدون أن تحصل سوى على ساعتين أو ثلاث ساعات من النوم، “كنت لا أنام إلا عندما يحل النهار، لأن جميع أنواع الرعب تحدث عادة في الليل”، تتذكر ولاء.
في أيام العمل المتشابهة التي تعيشها، تأتي سيارة لتقل ولاء للقاء أحد الصحفيين في مقر إقامته، لترافقهم إلى الأحياء والقرى التي تعرضت لهجمات في الليلة السابقة، أو إلى مستشفى الشفاء، حيث يتم نقل معظم الجرحى، أو إلى مدارس الأونروا المكتظة.
بشكل اعتيادي، كانت ولاء تعود إلى المنزل في وقت الإفطار في شهر رمضان، وفي حال لم يكن عملها يتطلب منها الخروج مرة أخرى، تجلس في غرفة ضيقة حيث كانت تعيش مع عائلتها، وتقضي كامل الليلة تتابع الأخبار والتحديثات على وسائل الإعلام الاجتماعية، وفي الأيام الهادئة، تبقى ولاء مستيقظة حتى شروق الشمس منغمسة في مشاهدة أحد المسلسلات التلفزيونية المصرية التي تتمتع بشعبية عارمة بين الفلسطينيين خلال شهر رمضان، في محاولة للحاق بركب الحلقات التي ضيّعتها.
تروي ولاء إحدى التجارب التي مرت بها قائلة “في إحدى المرات ذهبنا إلى خان يونس لتغطية العيد، حيث سمعنا حينها بأنه تم عقد هدنة احتفاءً بالعيد والاحتفالات، ذهبت مع صحافية إسبانية مستقلة لإعداد مقال حول ذلك، وعلى الطريق اكتشفنا بأنه لا يوجد عيد، وأثناء مرورنا هناك بالسيارة، شاهدنا الأطفال في الشوارع وهم يرتدون ملابسهم الجديدة، لقد تم خرق الهدنة، ومع ذلك كان الأطفال يملأون الشوارع”، وتستطرد قائلة “ثم سقطت قذيفة بمكان ليس ببعيد عنا، وقمت بالإشارة إليها، وشاهدت الأطفال يفعلون الشيء ذاته، حتى إن بعضهم ركض نحوها، واستدرت لأرى الصحافية تمتقع رعبًا، وتظن بأن هذا ليس أمرًا طبيعيًا، وأن رد فعلنا ليس طبيعيًا أيضًا”.
ولاء تعمل مع صديق ضمن مشروع تطوعي
“أتذكر أنه خلال الحرب الأولى كنا نختبئ طوال الوقت، ولم أكن أتخيل أن أغادر منزلي، ولكن بعد ذلك وقعت حرب أخرى، وحرب أخرى على إثرها”، تقول ولاء، التي لا ترتدي سترة واقية وخوذة حين كانت تعمل على الأرض أثناء حرب الصيف الماضي، وكانت تتعاقد في بعض الأحيان مع صحفيين مستقلين هم ذاتهم يتمتعون بضمانات شحيحة.
“في بعض الأحيان يعمد الأشخاص الذين أعمل معهم لاقتراض السترات الواقية من الرصاص من مكان ما، أما بالنسبة للصحفيين المحليين، فما لم يكونوا موظفين لدى الوكالات الدولية، فالقليل منهم يتم تزويده بالستر الواقية، أو قد يعملون بمعدات قديمة جدًا فقدت فعاليتها، لأن العدة المطلوبة تكلف حوالي 2000 دولار أو أكثر، والصحفيون المحليون لا يمكنهم تحمل هذه التكلفة”، تقول ولاء.
من بين الـ16 إعلاميًا الذين قُتلوا في قطاع غزة خلال الحرب العام الماضي، كان 15 إعلاميًا من الفلسطينيين، وواحد فقط يحمل الجنسية الإيطالية.
“يتنوع الصحفيون الأجانب، فمنهم من يأتي إلى هنا ليصبح بطلًا، ولكسب المال، ومن ثم يغادر”، تقول ولاء، وتتابع “البعض الآخر من الصحفيين لا يبالون لحقيقة أن منسقيهم هم الذين ستفسد حياتهم عندما يغادرون”.
“لا أستطيع القول بأني أصبحت صديقة مع الصحفيين الذين عملت معهم، ولكنني أميل للعمل مع الأشخاص الذين يعجبونني، وفي بعض الأحيان، وأثناء فترات الراحة، نثرثر أنا والصحفيات اللواتي أعمل معهن حول أمور الفتيات، ولكن بعدها يغادرن، وأتابعهن على وسائل الإعلام الاجتماعية، هن يتزوجن، أو تتزوجين أنتِ، أو أيًا يكن، هن يغادرن، وأنا أبقى هنا”.
“الأمر لا يتعلق بالصحفيين فقط”، تقول ولاء، التي سافرت مؤخرًا إلى رام الله في الضفة الغربية للمرة الأولى في حياتها، واستطاعت تأمين تصريح المغادرة رغم كل المصاعب، وذلك بفضل دعوتها لحضور مؤتمر رفيع المستوى، وتضيف شارحة “حتى عندما غادرت، كان عليّ أن أخفي ذلك عن الكثير من الأشخاص، فالأمر لا يتعلق بالأجانب فقط، الناس هنا يحسدون جميع من يغادر القطاع”.
ولاء تلتقط صورًا لعملية إعادة الإعمار
لارا أبو رمضان: “أتخيل نفسي في مكان آخر، وفي جسد إنسان آخر”
رغم أنها ترعرعت ضمن عائلة من الصحفيين، تقول لارا أبو رمضان، بأنها لو كانت تعيش في مكان آخر، لفضلت أن تعمل بمهنة مختلفة
“دائمًا ما أقول لو لم أكن في غزة، فلن أكون صحفية، لأنني أود أن أعمل في مجال أكثر حرية، أود أن أعمل بعمل يمثلني، يمثل لارا، كأن أرسم، أو أصنع المجوهرات، أو قد أحاول العمل في مجالات جديدة لا أعرفها هنا في غزة، أنا أتخيل نفسي في مكان آخر، وفي جسد إنسان آخر”، تقول لارا البالغة من العمر 23 عامًا، أثناء نفخها لدخان شيشة بطعم معسل التفاح ضمن شقتها في مدينة غزة، ولا تجد لارا راحتها حتى يختفي مسجل الصوت عن نظرها، وتتحول المحادثة بعيدًا عن موضوع حرب العام الماضي.
ترعرعت لارا داخل أسرة من الصحفيين، حيث كان والداها يعملان لصالح عدة وكالات أنباء عالمية، وطريقها في هذا المجال لم يكن محددًا سلفًا بالضرورة، ولكن في غزة ربما كان هذا الطريق قضاءً لا مفر منه؛ فعندما كانت في الـ20 من عمرها، وبينما كانت لا تزال طالبة في اختصاص اللغة الإنجليزية والترجمة، ساعدت لارا والدها في مهامه أثناء تغطيته لعواقب الهجوم الإسرائيلي عام 2012، وسرعان ما نشرت مقالات للرأي في وسائل الاعلام الدولية مثل النيويورك تايمز.
كالكثيرين ممن هم في سنها، ولدت لارا لتشهد فترة عدم الاستقرار التي امتدت لـ20 عام بعد اتفاقية أوسلو، وعانت من جميع نواحي التدهورات في الظروف الاقتصادية والاجتماعية والسياسية في غزة.
“خصوصًا بعد الحرب الأخيرة، الجميع أصبح يرغب في السفر والهجرة، نحن في بقعة صغيرة، وكل شيء مغلق من حولنا”، تقول لارا.
ما يقوله الناس في هذه الأيام في غزة هو أن الهجوم الأخير قضى على أي أمل بأن هذه الحرب ستكون الأخيرة، أو بأن الأمور ستتجه نحو الأفضل، “هذا الوضع يجعلك تشعر بأنك لا تستطيع البقاء هنا غارقًا في يأسك وعجزك، عليك أن تفعل أي شيء لتخبر الناس ما الذي يحدث، أو للتعبير عن نفسك بأي شكل من الأشكال، وهذا الأمر قد يساعدك على تحرير نفسك من الطاقة السلبية التي تعتريك أيضًا”، تقول لارا.
وتتابع موضحة “طفولتي كانت طبيعية للغاية، وأذكر بأننا كنا نذهب إلى القدس، نعم، الأمر لم يكن سهلًا، ولكن على الأقل كان يمكننا أن نخرج من غزة، ومن ثم، وفي عام 2000، سمعت صوت أول قنبلة خلال الانتفاضة الثانية”.
لارا خلال استراحتها في حي الشجاعية
بعد 14 عامًا، قامت لارا وزوجها جهاد، وهو أيضًا صحفي شاب مستقل، بمباشرة بث مباشر ينقلان من خلاله بشكل حي لجمهور العالم استهدافات القنابل الإسرائيلية، حيث استخدما مولدًا كهربائيًا خاصًا سمح لهما بالاستمرار في العمل في ظل الانقطاعات الكهربائية الطويلة والمنتظمة، وكانا يثبتان الكمبيوتر المحمول على شرفة شقتهما كل مساء، ويديرانه ليواجه المدينة، ويستمران بتحديث جمهورهما بالمواقع الدقيقة لاستهدافات القصف، في الوقت الذي يتحدثان فيه عن عدد القتلى والجرحى الذين سقطوا في ذلك اليوم، وبالمحصلة، استقطبت إذاعتهما نصف مليون شخص خلال بثها أثناء الحرب.
يتذكر الأشخاص الذين عملوا مع لارا خلال حرب العام الماضي، كيف كانت تتستر بسلوكها وتصرفاتها حول أي إجهاد أو توتر قد تعانيه، واستمرت بهذا النهج، كما يقول زملاؤها، حتى عندما هُدد البناء الذي تعيش ضمنه بالتعرض للقصف.
“خلال الحرب كان هناك فترات لوقف إطلاق النار، ولا أتذكر حقًا متى حصل ذلك بالضبط، لأن جميع الأيام كانت متشابهة بالنسبة لنا، وكان يوجد مؤسسة لمساعدة الأشخاص الذين نزحوا داخليًا، دعوني لالتقاط صورًا للأشخاص الذين يتلقون المساعدات الطبية أو المواد الغذائية، وكان ذلك يتم ضمن مدرسة من مدارس الأونروا، كما طلبوا مني مساعدتهم لتسليم هذه الأشياء للناس المحتاجة”، تتذكر لارا.
وتضيف مستذكرة تجربتها تلك “الأشخاص كانوا يملأون المكان، لقد كان أشبه بحي وليس بمدرسة، وكان أصعب شيء عانيته في ذاك الوقت، هو أن الأشخاص كانوا يظنون بأننا قادرين على تحسين حياتهم، أو منحهم المال لإعادة البناء، وحينها شعرت باليأس، لأنني لم أكن أستطيع أن أفعل أي شيء لمساعدتهم، لم أكن أعرف ماذا أقول، لذلك التزمت الصمت”.
ولكن قصص لارا المفضلة هي تلك التي تظهر أنه حتى وسط الأنقاض، مازالت غزة ملجئًا للحياة.
في بعض الأحيان، تشير لارا بأن جنسها كامرأة يصبح ميزة جيدة، وتشرح ذلك بقولها “من السهل بالنسبة لي الذهاب للأماكن التي لا يسمح للرجال بدخولها، لأكتب عما تفعله النساء، أو لأحملهن على التحدث عن أنفسهن وعملهن وأسرتهن، وحتى الآن، لم أر أي مشكلة واضحة بكوني امرأة أعمل في الميدان”.
على جدار غرفة معيشتها البسيط والخالي من الزخارف، تعلق لارا لوحة قامت برسمها، لامرأة بظلال أرجوانية وصفراء وحمراء، المرأة في اللوحة تظهر وكأنها على وشك عبور باب من نوع ما، أو كأنها تقف وهي ترنو إليه فقط، “رسمت هذه اللوحة منذ فترة طويلة، إنني لا أرسم إلا كل سنتين أو نحو ذلك، ولكنني أعتقد بأنني أرسم نفسي”، تقول لارا، وتضيف “أو ربما، أرسم الأمل”.
لارا في حي الزيتون في غزة
المصدر: الجزيرة الإنجليزية