عن المُؤلِّف
باتريك هايني باحث سويسري في العلوم الاجتماعية، حائز على جائزة أفضل أطروحة عن العالم العربي باللغة الفرنسية عام 2001، عمل في مركز الدراسات والوثائق الاقتصادية والقانونية والاجتماعية (السيداج) بالقاهرة، ومُنتَدَب عن وزارة البحث العلمي الفرنسية ومَرصَد الأديان بسويسرا، تعلّم اللغة العربية وتعرّف على الإسلاميين، قضى وقت طويل مُتنقلاً في البلاد العربية وأقام في مصر لفترة طويلة ومن ثم إندونيسيا وتركيا .
عن الكتاب
أُصدرت الطبعة الأولى من الكتاب باللغة الفرنسية سنة 2005، يُمكن تصنيف الكتاب على أنّه واقع ما بين “الاجتماع الديني” و”الفكر الإسلامي” وقد قامت الجزائرية عومرية سُلطاني الباحثة في العلوم السياسية وحركات الإسلام السياسي بنقل الكتاب إلى العربية في ترجمة مُتسقة ورصينة المَبنى، وقد نُشر الكتاب لأول مرة بالعربية بواسطة مدارات للأبحاث والنشر مطلع عام 2015 .
المقصود بـ “إسلام السوق”
يُمكن القول أنّ أنسب تعريف لإسلام السوق هو ذلك الذي يصفه مُؤلِّف الكتاب نفسه بقوله : “الربط بين أنماط مُعيّنة من التديّن الإسلامي والأسس الفلسفية للسوق (مثل: النزعة الفردية، الانفتاح وأولوية الشأن الخاص على العام) والتخلّي عن السرديات الأيدولوجية الكُبرى“.
ومن باب الدقة الإشارة إلى أنّ “إسلام السوق” لا يُقصَد به دين جديد وإنّما “نمط تديّن” جديد كما يذكر المُؤلف.
أما أهم خصائص مفهوم “إسلام السوق” فهي تتلخص في:
– الانفتاح على العالَم على حِساب الهوية.
– النزعة الفرادنية ونزع القداسة عن الالتزام التنظيمي.
– إعادة النظر في فكرة شمولية الإسلام لجميع مناحي الحياة وسيولة المبادئ.
– عدم إيلاء مسألة الدولة والقضايا السياسية والمرتبطة بالطبقة الاجتماعية أي اهتمام.
– التخلّي عن السرديات الكُبرى مثل: إحياء الخلافة، الحاكمية، وشعارات مثل “الإسلام هو الحل”.
مضمون الكتاب
يُشير الكاتب أنّ “إسلام السوق” يتوسّع بسرعة منذ النصف الثاني من التسعينيات نتيجة لأربعة نماذج تُشكِّل مباحث الكِتاب، وهي:
- تَبلوُّر التديُّن الفردي المستقل عن المشاريع الجماعية الكبرى.
- إعادة صياغة مظاهر التدين الإسلامي وفق مفردات السوق.
- التأكيد على روح المؤسسة داخل مساحة الديني والهوس بنظريات المَنجمِنت.
- إعادة تسييس الديني على أسس نيوليبرالية، إذ لم يعد الهدف الخلافة وإنّما مجتمع مدني مزدهر.
يستند الكاتب في جزء غير قليل من ملاحظاته المُستخلصَة على عدد من المقالات والاستشارات الواردة في موقع إسلام أون لاين الذي يُقدِّم نفسه كمنصة نقاشية في الأوساط الإسلامية والموقع مُدار تحت إشراف الدكتور يوسف القرضاوي – المعروف بتوجهه الإخواني – بالإضافة لعدد من الصحفيين انتمى معظمهم فيما سبق لحركة الإخوان المسلمين.
مفاهيم الكِتاب
تجاوُز الإسلاموية
يُلاحَظ التراجع الذي أصاب التنظيمات الإسلامية الكبرى في نزع القداسة عن الالتزام التنظيمي وتآكل مِصداقية التنظيم نتيجة جمود خطابه ومثاليته المُفرِطة، وتزايد حالات الانخراط في هياكل أخرى خارج الإطار الإسلامي، ويُدلل الكاتب على هذا من خلال مجموعة مقالات في قسم الاستشارات النفسية بموقع إسلام أون لاين، حيث “تظهر إعادة التفكُّر في معنى الالتزام الجماعي باعتباره خطوة إجبارية”.
أحد الأمثلة التي يذككرها المُؤلِّف، مقالة شاب إخواني مستاء من سياسة حركة الإخوان فيما يتعلّق بالمُقدّس داخل الحركة ويصف قياديي الحركة بأنّهم ضعيفو التعليم وغير قابلين للحوار، هذا الشاب غير قابل لتقبّل فكرة “الأخ بين يدي مُرشده كالميّت بين يدي مُغسّله يُقلّبه كيف يشاء“، هذه المقالة التي علّق عليها “فتحي يكن” أحد أهم قياديي الحركة الإسلامية والأمين العام السابق للحركة في لبنان والمعروف بحرصه الشديد على أهمية الالتزام التنظيمي وخاصة حتى سنوات الثمانينات في كتابه المعروف “ماذا يعني انتمائي للإسلام؟”، يُعلّق فتحي يكن على مقالة الشاب مؤيّدًا إيّاه: “إذا كان الإسلام مُنزّهًا عن الخطأ فإن التنظيمات تُخطئ وتُصيب وأن الخطأ في التربية الدينية يدفع ضمنًا أولوية التنظيم على الولاء للإسلام“، ويُعقِّب باتريك هايني (مُؤلّف الكتاب) على ما سبق: إن تطوّر القيادي الإسلامي اللبناني هذا لافتٌ للنظر ، خاصة بما عُرف عنه من خُلاصِة كتاباته وأفكاره بأن الانتماء للإسلام يعني بشكل منطقي الانتماء إلى جماعة الإخوان المسلمين، وأهمية الانخراط بالتنظيم واحترامه.
الإسلاموي الناقِم
في ظل هذا الخطاب الجامد والذي فقد بريقه، يتوالد على تخوم الحركة الإسلامية اتجاه يعبر عنه باتريك بـ “الإسلاموي الناقم” وهو إسلامي غير راضٍ عن طريقة عمل التنظيمات التي يناضل ضمنها، ويحافظ في الوقت نفسه على تدينه العميق ولا يهتم بتقديم بديل إسلامي كوني بقدر استيراد مكونات تنتمي للثقافة الغربية وإعادة صياغتها إسلاميًا، مثل: “النضال الإسلامي لحماية البيئة” و”النسوية الإسلامية”، وبالتالي يمتاز الإسلاموي الناقم بالانفتاح على الخارج ورفض الانغلاق الهُويّاتي والتخلّي عن السرديات الكبرى.
الجهاد المدنـــــــي
نتيجة لذلك وفي ظل معطيات السوق، تصيب السيولة عدد من المفاهيم لعل أبرزها السيولة التي أصابت مفهوم صريح وواضح مثل “الجِهاد”، إذ يذكر المؤلِّف عدد من إجابات قدمها فريق (قسم مشاكل وحلول الشباب) لتساؤلات شباب يعانون من حالة ارتباك نتيجة صراع داخلي في الخروج وتلبية الجهاد مع صفوف المجاهدين في مناطق مختلفة، لتكون إجابة موقع إسلام أون لاين متنوعة ومنزوعة السياسة ومقتلَعة تمامًا من فضاء الفقه الإسلامي، بإجابات مثل: “جهاد النهضة” و”الجهاد المدني” والجهاد المقصود هنا: السعي لتطوير المجتمع المدني في العالم العربي والعمل التطوعي، إجابة أخرى يعرضها الموقع في موضع آخر ليجيب بفضائل “الجهاد الإلكتروني” فينقل المعركة من الميدان إلى عالم الإنترنت الافتراضي، بل والعجيب أن يذكر الموقع فضائل هذا الجهاد (الإلكتروني) من فوائد مثل التنفيس وشفاء الصدور (كما في الجِهاد الفعلي) .
النشيد الإسلامي
إذا كان النشيد الإسلامي قد ظهر في في بداية السبعينيات حيث ابتكرته الجماعات الإسلامية داخل حرم الجامعات، وخاصة مع الحِقبة الناصرية كـ فن نضالي للإشادة بالجهاد والشهيد والمثابرة على الصبر من خلال “أدب الغربة” (لفظة الغربة مستوحاة من نصوص نبوية، من مثل: بدأ الإسلام غريبًا وسيعود غريبًا، فطوبى للغرباء) للتعبير عن شعورهم بالاغتراب داخل مجتمع لم يَعد في تصورهم مسلمًا أو مجتمع بعيد عن الله.
يظهر النشيد الموسيقي الإسلامي في نسخته الحديثة كمصالحة بين الإسلام مع الموسيقى متجاوزًا الأصل السلفي بتحريم الموسيقى على الخلاف الفقهي للقضية، وكتوفيق ضمني بين الإسلام والغرب وتعبيرًا عن الانفتاح الثقافي، يظهر النشيد الإسلامي الحديث وفق نمط إسلام السوق بمضامين مغايرة عن نشيد الحركة الإسلامية، ليتحدث عن أمور مثل النجاح والسعادة والحب والسلام الداخلي والشِعِر من خلال أدوات موسيقية متنوعة وبجودة عالية، وبالتالي يصبح منتَج قابل للاستخدام من قِبل غير المسلم، إذ إن الشعارات النضالية وآلام الأمة غير مناسبة للحفلات والمناسبات ويُظهر في النشيد الإسلامي الجديد توسع في سلم الأدوات الموسيقة المستخدمة ويضرب الكاتب أمثلة من مثل حركات راب غربية مختلفة ومثل سامي يوسف وغيره.
الزي الإسلامـــــــي
إذا كان الأصل الإسلامي للحجاب مرتبط بمفاهيم الستر وتربية النَفس ويرفض مفاهيم مثل الإغراء والتبذير، فإن الحجاب في سياقه الاستهلاكي منصهر بقيم السوق ومعاييره ومحكوم بمبدأ موضة الأزياء والماركات التجارية، حيث ستعتمد مبادئ التسويق مع التخفف من تربية النفس، مقابل تلبية رغباتها، إذ وعلى حد تعبير باتريك من الممكن أن يصاب الإنسان بدوار تحت أضواء متجر الألبسة الشرعية من شدة تنوع الماركات والعرض الاستهلاكي للزي الإسلامي والحجاب، فهناك حجاب أنيق على نموذج Vieille France وآخر على منوال قبعة Beret gavaroche وغيرها من “الستايلات” المستوردة، إذ يظهر في هذا كله ما يشير له باتريك من قول لناشطة إسلاموية سابقة، مفهوم المحجبة الليبرالية، التي تحلم بأمريكا وتتكلم مع أولادها بالإنجليزية.
أما القطيعة النهائية مع الأصل الإسلامي للحجاب فستظهر مع الجيل الثالث من تراكيب الملابس التي يجسِّدها “الستريت وير الإسلامي” المشتق تمامًا من تجربة الإسلام بالغرب في فرنسا مع علامات تجارية مثل: “دعوة وير” و”مسلم بالطبيعة” و”مسلم كلاسيك”.
التسويق الإسلامي
التطبيقات متعددة حول إعادة صياغة مظاهر التدين الإسلامي وفق مفردات السوق وفلسفته، مثل الأشرطة الإسلامية المعدة باحتراف وشكل تسويقي جذّاب ومثل الصودا الإسلامية “مكة كولا” والتي تظهر بشعارات تسويقية بطابع ديني مثل “لا شرب كالأحمق، اشرب ملتزمًا”.
أما واحدة من أكثر التطبيقات الملفتة التي يضربها المؤلِّف حول إعادة إنتاج العرض الديني وفق معطيات السوق فهو: “الخط الإسلامي الساخن” الذي يتيح الإجابة على فتاوى مستعجَلة ومباشرة في أي وقت من خلال 20 مستشارًا يخضعون إلى “امتحان قدرات” متعدد المجالات ويتم الاختيار من بينهم على أساس “نبرة الصوت” وأسس أيدولوجية أخرى.
يقدّم “الخط الإسلامي” في رمضان خدمات إضافية مثل “الاستماع للقرآن الكريم” من خلال أرقام خاصة، الغريب والملفت بهذا المنتَج التسويقي أن الشريك التجاري لـ “الخط الإسلامي” هو مالك شركة موبينيل وهو رجل أعمال مسيحي، قام بالترويج بحملة إعلانية ذات نطاق واسع تحمل شعار “قريبًا إن شاء الله سنغطي القدس” بملصق إعلاني يظهر فيه شيخ يرافقه طفل يحمل القرآن.
الدعـــــــــــــاة الجــــــدد
في ظل ظاهرة إسلام السوق، وكل ما سبق من أسباب توالد هذا النمط التديني الجديد، يولد “الدعاة الجدد” كما يصفها باتريك ويضرب مثالَيّ: عمرو خالد وعبدالله جمنستيار كأبرز مثالين على الدعاة الجدد، أما أهم مظاهر الدعاة الجدد فيتمثل في:
1. اللحية الحليقة، مع استخدام اللغات الدارجة وليس العربية الفصحى.
2. ملابس عادية ومريحة، قمصان وتي شيرت أو ملابس رياضية,
3. التنصل من السياسة والنفور منها.
4. سن صغير نسبيًا يكسر النمط التقليدي بين الوظيفة الدينية وسن الداعية.
5. احتراف التعامل مع وسائل الإعلام الجماهيرية عبر فن الإثارة وفن الخطابة والإعجاب.
هذا النمط المستورد من أساليب المبشرين الإنجيليين الأمركيين، والداعي إلى الترغيب بمحبة الله وحب الله لعباده، بدل الخوف منه، أو كما يقول عمرو خالد “كفانا إخلاصًا لله خوفًا منه”، ويذكر باتريك أن عمرو خالد استقى أسلوبه من متابعة المحطات المسيحية والأمريكية، في حين أن جمنستيار اكتسب ذلك من خلال مستشاره عبدالرحمن أوسنبي وهو واعظ سابق في الكنيسة المشيخية كان ماهرًا بجذب الجماهير باستخدام تقنيات التسويق.
أما أكثر ما يلفت النظر بالدعاة الجدد أن خطابهم يتحول لمنتَج استهلاكي، لا يقتصر عرضه على إذاعات أو قنوات دينية، إذ من الممكن عرضه ضمن قنوات أو إذاعات من توجهات – غير دينية – ضمن مجموع ما تعرضه من برامج طوال اليوم، طالما أن هذا المنتَج يحقق الربح المادي، ولعل أبرز الأمثلة على هذا قيام محطةLBC اللبنانية وهي محطة مسيحية، بشراء حقوق بث برنامج “ونلقى الأحبة” الذي يقدمه عمرو خالد، في شهر رمضان سنة 2003.
اليوتوبيا الإدارية
من الظواهر الرئيسية التي يتمحور حولها كتاب “إسلام السوق” تصاعد فلسفة الإدارة Management كخطاب مهيمن على الخطاب الديني المتمثل بالدعاة الجدد من جهة وأبناء الحركة الإسلامية أنفسهم من جهة أخرى.
يتمركز الدعاة الجدد حول مفاهيم النجاح والتوازن الداخلي، وخاصة بما يتعلق بما هو اقتصادي، إذ يقول جمنستيار في إحدى دروسه: “يعلِمنا الإسلام أن نكون أغنياء، لقد كان رسول الله غنيًا، وكذلك كان صحابته”.
في حين يشير عمرو خالد لأهمية الثروة المالية لتحقيق السمو الديني، وتقديم نموذج ناجح يحتدى به للعالم، فيقول مشيرًا لذلك في درس له: “حتى ينظر الناس إليّ ويقولون: انظروا هذا متدين غني، وسوف يحبّون لله عبر ثروتي”.
أما عن أبناء الحركة الإسلامية الذين تحول خطابهم من الخطاب التقليدي إلى خطاب المنجمنت، فيضرب باتريك المثل الأبرز لذلك بـ طارق سويدان، ومحمد أحمد الراشد وشركة “سلسبيل” للقيادي الإخواني خيرت الشاطر، بالإضافة لأمثلة إقليمية لحركات منجمنت وأعمال متدينة لكنها منفتحة على ثقافة السوق الرأسمالي: مثل جمعية الموصياد MUSIAD التركية وحركة فتح الله غولن ISHAD.
تعقيبات وتساؤلات
تعقيب هبة رؤوف عزت
في تعقيب مهم ومثير للتساؤلات، تتساءل الدكتورة هبة رؤوف عزت الحاصلة على درجة دكتوراة الفلسفة في العلوم السياسية وباحثة متخصصة بالإسلام السياسي:
هل كل تدين فردي هو تدين علماني سائل؟ أم أننا سنشهد في ظل حرب شرسة وتنكيل دموي بالإخوان المسلمين، صعودًا لتدين فردي أكثر صلابة ووفاءً ووعيًا بشفرة الحداثة؟ أو ربما تدين شعبي أكثر تماسكًا واتساقًا !
وتشير الأستاذة هبة لأهمية فهم الحداثة وفك شفرتها لكي نتجنب مآزقها وابتلاعها لقيّمنا، إذ تقول :الأزمة الأكبر في الحقيقة الصحوة لم تتكن من فك شفرة الحداثة والرؤية الغربية ليفهمها الناس ويتجنبوا مآزقها، ولعلّ هذا ما سعى الدكتور عبدالوهاب المسيري – رحمه الله – أن يفعله، فلم يفهم البعض أهمية ما يقوم به وأهملوه.
أخيرًا تورد الأستاذة هبة التساؤل التالي :ما الذي يمكِن أن يكون تجديدًا في الخطاب الإسلامي وما الذي يمثل السيولة والعلمنة فيه، ما هو المعيار؟
وتجيب الدكتورة هبة: لا حل في تقديري إلّا من خلال عرض الأمر على الفقه، وأقصد هنا فقه الشرع وفقه العقل المسلم في فهم الحداثة .