في حضور أكثر من ألف من أعضاء الحزب بإحدى المجمّعات الرياضية، جرت بالأمس أعمال الكونجرس الخاص بحزب العدالة والتنمية لانتخاب رئيس الحزب وهيئته التنفيذية، وهو كونجرس يتم لأول مرة بدون رجب طيب أردوغان، الذي استقال رسميًا من الحزب ليتجه لقصر الرئاسة، تاركًا أمانة الحزب في يد أحمد داوود أوغلو الذي انتُخِب رئيسًا له في الكونجرس الماضي.
قد يظن البعض أن خسارة الحزب لثلاثة ملايين صوت في انتخابات يونيو الماضي وغياب أردوغان قد أتاحا نوعًا من التغيير هذه المرة، بيد أن الحزب لم يتزحزح عن مواقفه، كما أن أردوغان لم يكن غائبًا في الحقيقة، حيث ظهر في بداية الكونجرس أثناء عرض فيلمَين تسجيليًّين أنتجهما الحزب خصيصًا لاستعراض إنجازات الحزب ومسيرة أردوغان السياسية، لتعلو الهتافات في القاعة من أنصاره: “رجب طيب أردوغان.”
لم يظهر أردوغان فقط في التسجيل، بل وكانت بصمته واضحة على قرارات الكونجرس الذي تمسك بقيادة داوود أوغلو للحزب مرة ثانية مانحًا إياه 1353 صوت، دون أن يكون هناك أي منافِس له، ووعد بعودة قوية للسلطة في انتخابات الأول من نوفمبر المقبل المبكرة التي تم إعلانها بعد فشل تشكيل ائتلاف مع حزب الشعب الجمهوري العلماني على مدار الأشهر التي تلت انتخابات يونيو الماضية، وحدد أعضاء هيئته التنفيذية التي تضم ثلاثة مستشارين من قصر الرئاسة.
“هيا يا أناضول” هي الأغنية التي كان يتغنى بها أنصار الحزب حين ظهر على الساحة خلال العقد المنصرم، و”هيا بسم الله” هي الأغنية الجديدة التي قرر بها خوض انتخابات نوفمبر، وهو تحوّل يوضّح لنا ربما الخط الجديد للحزب الذي يتبناه منذ ثلاث سنوات تقريبًا بالإفصاح عن هويته المسلمة المحافظة بشكل أكبر، بعد أن أصبح شبه مستحيل أن يقوم الجيش بانقلاب ضده وصارت النُخَب العلمانية محيّدة تمامًا داخل الدولة.
لم يكن غريبًا إذن حضور ممثلي حزب السعادة، الذي استمر على خط الزعيم الإسلامي السابق نجم الدين أربكان بعد أن انشق عنه أردوغان وعبد الله غُل عام 2000، إلى جانب حزبي تركيا الكبيرين، الجمهوري والقومي، والذي تقول الكثير من الأخبار أنه يتفاوض مع حزب العدالة والتنمية الآن لتشكيل تحالف انتخابي في نوفمبر، في خطوة غير مسبوقة من الحزب سيكون هدفها بالطبع حشد كافة الأصوات الإسلامية المحافظة في جميع أنحاء تركيا، لا سيما أن أصوات حزب السعادة القليلة قد تساعده على استعادة أغلبيته البرلمانية.
بالإضافة لذلك، أعلن داوود أوغلو عن تشكيل هيئة للفضيلة والأخلاق السياسية داخل الحزب، لتكون مسؤولة عما يخص حقوق الإنسان والبيئة والثقافة وحماية المدن، وهي خطوات قال بأنها تأتي للجمع بين القوة السياسية والأخلاق، في نفس الوقت الذي قرر فيه إلغاء قرار الحزب السابق بتحديد عدد مرات انتخاب أي عضو له بالبرلمان بثلاث فترات فقط، معللًا ذلك بأن الفترة بين انتخابات يونيو ونوفمبر كانت قصيرة، وأعطت الفرصة لكل من لم يترشح في يونيو ملتزمًا بالقرار بالنزول لثلاث فترات جديدة بدءًا من نوفمبر على أي حال.
مصطفى كمالاق رئيس حزب السعادة يعلن عن بدء مفاوضات الدخول في تحالف انتخابي مع العدالة والتنمية
لم يكن عبد الله غُل غائبًا أيضًا نظرًا لأهمية هذا الكونجرس، فقد ظهر في تسجيل عبر فيه عن فخره بعبور الحزب بنجاح في كافة الانتخابات التي دخلها، وأن الحزب سيظل منصة لحل مشاكل تركيا كافة رُغم المرحلة العصيبة التي تمر بها البلاد الآن، وهي المرحلة التي ستجتازها تركيا “بالمنطق لا بالتخلي عن القواعد وحقوق الإنسان” على حد قوله، وهي لفتة توضّح استمرار ولائه للحزب وعلاقته الجيدة بأحمد داوود أوغلو، وترسل رسالة مفادها أنه يرفض في نفس الوقت أي تحركات فوق القانون، في إشارة لتوجهات البعض من المنتمين لمعسكر أردوغان.
الهيئة التنفيذية للحزب التي تم اختيار أعضائها هي واحدة من أهم الفعاليات التي سلطت الضوء على استمرار هيمنة أردوغان، فقد كانت هناك أخبار تفيد برغبة داوود أوغلو في وضع السياسي المخضرم ونائب رئيس الوزراء بولنت أرِنتش في الهيئة مع وزير الاقتصاد الأسبق على باباجان، وهما اسمان رفضهما أردوغان كما قيل، في مقابل الرغبة بتمرير الأسماء القريبة منه مثل بن علي يلدرم ونور الدين تشانيكيلي اللذين لم تضمهما قائمة داوود أوغلو الأولية.
في النهاية ضمت القائمة الاسمين الأخيرين، ولم تضم باباجان أو أرِنتش، إذ قالت المصادر المقربة من الرئاسة بأن القائمة إن لم تضم الأسماء التي أرادها أردوغان واحتوت على أسماء لا يريدها في اللحظات الأخيرة، فإن القصر سيقدم قائمة بديلة مفاجئة ولو كانت الأصلية قد ذهبت للطباعة وتم إعلانها، وقد ضمت القائمة كذلك برات البايراق، زوج ابنة أردوغان والنائب عن إسطنبول، وجميل تشيتشَك رئيس البرلمان السابق المعروف، ونائب رئيس الوزراء نعمان قورتلموش الذي انتقل منذ سنوات من حزب السعادة إلى العدالة والتنمية، والنائب البرلماني عبد الرحيم بويونقالِن الذي أطلق تصريحات نارية أمام جريدة حريت العلمانية منذ أيام قائلًا أنه سيعمل على إعطاء أردوغان صلاحيات رئاسية كاملة ولو خسر الحزب.
صلاح الدين دميرطاش رئيس حزب الشعوب الديمقراطي الكردي
بينما يتمسك الحزب بخطه “الأردوغاني” إن جاز القول، ويعزز من هويته كحزب مسلم، يبدو أن الاستقطاب الهوياتي سيكون السيّد في هذه الانتخابات، حيث تسري أخبار الآن باحتمال دخول حزب الحركة القومية التركي في ائتلاف مع حزب الاتحاد الكبير، وهو حزب قومي محافظ أيضًا، وكان الحزب الأخير والصغير قد ائتلف مع حزب السعادة الانتخابات الماضية دون أن يحقق النتيجة المرجوة، وإن كان السعادة بالأساس حزبًا يميل للشق الديني من الهوية التركية، فإن الاتحاد الكبير يركز بالأساس على القومية التركية.
على الناحية الأخرى، من المتوقع أن يرتفع رصيد حزب الشعوب الديمقراطي الكردي في جنوبي شرقي البلاد بشكل يفوق اكتساحه في انتخابات يونيو الماضي، وذلك نتيجة سياسات الحكومة الأخيرة التي قلبت الطاولة على حزب العمال الكردستاني وبدأت حملة مواجهته عسكريًا في الداخل والخارج لأول مرة بعد أكثر من عامين من وقف إطلاق النار وبدء عملية السلام بين الطرفين، وهي سياسة أدت لفرض حظر التجول في ولايات كردية عدة، وعرقلة الحياة اليومية، ومقتل العشرات ممن تقول الدولة أنهم منتمين لحزب العمال الكردستاني.
من ناحيته، صرح دميرطاش بأنه يتحدي أن يكون المقتولون كلهم من “الإرهابين”، مشيرًا إلى ما جرى في مدينة جيزره الكردية مؤخرًا من وقوع ضحايا من المدنيين، وعشوائية إطلاق النيران التي وصل بعضها للمنازل، وبل واستقرت إحداها في قدم طفل صغير، في اتجاه أكد دميرطاش على أنه سيزيد الطين بلة ويعزز من رصيد حزب العمال الكردستاني في نهاية المطاف، بإعطاء الأكراد رسالة مفادها أن العنف هو الطريق الوحيد، وهو طريق يحرص حزب الشعوب الآن ربما أكثر من سواه على تجنبه نظرًا لأهمية مشاركة الأكراد في العملية السياسية بالنسبة له كحزب.
مواطنون أكراد يتجولون في مدينة جيزرة بعد انتهاء حظر التجول
من ناحيته، وفي خطابه بالكونجرس الخاص بحزب العدالة والتنمية، أكد رئيس الوزراء التركي أحمد داوود أوغلو بأن دولة الأكراد ستظل هي تركيا، بعد أن أشار إلى الأحاديث المنتشرة بكثرة مؤخرًا عن “دولة الأكراد” والتي يود البعض إقامتها في شمال سوريا حيث يتمدد حزب العمال الكردستاني ويشكل حزامًا في الحدود مع تركيا، “يسألون هم أين دولة الأكراد؟ دولة الأكراد والعلويين مثلهم مثل الأتراك هي الجمهورية التركية.”
في المُجمَل، يبدو أن الحزب المتضرر من تضاؤل قواعده الانتخابية في الأناضول سيشدد من قبضته في الجنوب الشرقي بينما يعزز من خطابه الهوياتي الإسلامي، في محاولة لحشد أصوات المحافظين واستعادة بعض الأصوات القومية التي ذهبت للحركة القومية في يونيو، وهي استراتيجية ينتوي بعدها على ما يبدو أن يعود للتهدئة مع الأكراد الذين يدرك أنه قد خسر أصواتهم في كل الأحوال في المرحلة الراهنة نتيجة الأحداث في شمال سوريا.
السؤال هو هل سيظل الحزب يمتلك السلطة منفردًا بعد نوفمبر؟ وهل سينجح في استعادة ثقة الأكراد للعودة للمفاوضات بعد التوتر الكبير بينه وبينهم مؤخرًا؟ وهل ستؤتي استراتيجية الحشد والخطاب الهوياتي تلك ثمارها في صندوق الانتخابات؟ أم أن داوود أوغلو سيجد نفسه جالسًا مرة أخرى مع رئيس حزب الشعب العلماني كمال قلجدار أوغلو لتشكيل ائتلاف كما حدث في يونيو؟ كل تلك الأسئلة سنعرف إجاباتها في الأول من نوفمبر القادم.