معاناة مسلمي الروهينجا لا تنتهي بتغير الحكومات، هذا ما أكده ميا أونغ، الحاكم الجديد لولاية أراكان المعين مؤخرًا من قِبل الحكومة، عندما قال إنه سيمضي على نفس سياسة سلفه، لمونغ مونغ أوهن، الذي سيخلفه في الحكم حتى مطلع العام المقبل إلى أن تنتهي الانتخابات ويتم تعيين رئيس وزراء جديد للبلاد، وذلك بشأن التعامل مع قضية أقلية الروهينغا، التي تتم وفقًا لقانون المواطنة الذي على أساسه انتزعت الجنسية من مسلمي الروهينغا، ورغم كل التمييز العنصري الذي يلقاه مسلمو الروهينغا والتأكيدات على السير على نفس هذا النهج إلا أن الرجل حاول في حوار صحفي أجراه قبل أيام مع صحيفة أيراوادي إنكار العنف الطائفي الممارس ضد المسلمين رغم أن السلطة ماضية في سحب الجنسيات من مسلمي الروهينغا.
أما عن السياسة المتبعة فهي في أبشع صورها مع المسلمين بولاية أراكان التي تحمل اسم راخين أيضًا والتي تقع غربي جمهورية اتحاد ميانمار الواقعة جنوب شرق أسيا المعروفة أيضًا باسم بورما، تلك السياسة التي تكذب أي محاولات للظهور بصفة الملائكية من جانب السلطات هناك، فالمسلمون البالغ عددهم نحو 1.3 مليون نسمة يعيشون حياة بدائية في مخميات وبيوت بسيطة، محرومون من حق المواطنة والحصول على الجنسية الميانمارية بحجة أنهم مهاجرون بنغاليون غير شرعيين، موضوعون بين خيارين أحلاهما مر فإما القبول بهذا التوصيف الذي يبخثهم حقهم في الأرض والعرق ويتم توطينهم على هذا الأساس أو مواجهة بطش الدولة والبوذيين معًا.
المسلمون بالأراضي الميانمارية لا يحظون بحق تملك عقاراتهم وأراضيهم، ويضيق عليهم في ممارسة أعمال التجارة خاصتهم، وتقوم الحكومة بمصادرة أراضيهم وممتلكاتهم وقوارب الصيد خاصتهم دون سبب، كما تمنعهم من تطوير مشاريعهم الزراعية، ويحرمون من تقلد وظائف بهيئات حكومية وكذا الجيش، كما يحرمون من حق التصويت في الانتخابات؛ فوجودهم في ميانمار كعدمه بالنسبة للدولة بل يبدو إنها تفضل عدمه، وبالطبع حق تكوين وتأسيس المنظمات أو ممارسة الأنشطة السياسية ليس من نصيب هؤلاء، فيعيشون كالسجناء في مخيمات أو قرى معزولة مقيديين الحركة منها وإليها.
بينما تعكف السلطات الميانمارية على تقليل أعداد المسلمين بشتى الطرق، فغير الاضطهاد والقتل والتهجير، يتم فرض بعض القوانين الخاصة بتحديد النسل وأخرى تضع ضوابط وشروط للزواج لتصعيبه على المسلمين، كما أن تراثهم التاريخي يتم تدميره مع منع طباعة الكتب التاريخية والإسلامية، حتى أن إظهار الرجل أو المرأة لهيأتهم الإسلامية ممنوع فإطلاق اللحى والالتزام بزي إسلامي مُجرَم، كما أن فريضة الحج ممنوعة هي الأخرى، وممتلكات الأوقاف تصادر واحدة تلو الأخرى، حتى أن المقابر المخصصة لدفن المسلمين صودرت هي أيضَا، أما المساجد فتضيق ذرعًا بالمسلمين بتضييقات الدولة عليها فلا مكبرات صوت تستخدم ولا يسمح بإعادة ترميمها وإعمارها، بل وأحيانًا تمنع أداء بعض الشعائر بها.
الأرض التي يحيا عليها مسلمو الروهينغا ليست بها ناطحات سحاب ومصانع وأبراج عالية لتلقى كل هذا الاهتمام من الدولة في إخلائها وتطهيرها العرقي، فالمناطق التي يحيا بها مسلمو الروهينغا تفتقر لأدنى مقومات الحياة وذلك بنقصان المياه الصالحة للشرب، حتى اضطر بعض السكان لاستخدام مياه البحر المالحة للشرب وقضاء حوائجهم، بالإضافة إلى أنها تعاني نقصًا في المؤن الغذائية والأدوية، فيما يعيش أغلب سكانها في مساكن بالية رثة أو في بعض الخيام.
قوانين تُكرس التمييز العنصري
إقرار الدولة لعدد من القوانين المثيرة للجدل تظهر اضطهادًا واضحًا للمسلمين هناك كانت من ضمن سبل الدولة للقضاء على الأقلية المسلمة بها، وهي سياسة ممنهجة عند النظم التي عُرف عنها العنصرية، فلا تتوقف عن سن القوانين التي تساعدها في ممارسة جرائمها بسلاسة، واستهدفت تلك القوانين أمر التحول الديني، فيمنع أي شخص دون سن 18 عامًا من التحول إلى دين آخر، ويلزم البالغ الذي يسعى لتغيير ديانته بالحصول على تصريح من الدولة بذلك، ووكذلك قوانين لتقييد الزواج بين أتباع الديانات، وآخرى لمنع المسلمين من الترشح للانتخابات البرلمانية، واقترحت قوانين غيرها من شأنها أن تزيد تهميش الشعائر الإسلامية أكثر، كمطالبات البوذيين بمنع المسلمات المحجبات من الذهاب إلى المدارس، أو حظر النقاب بالمؤسسات الرسمية، ومنع المسلمين من ذبح الأضاحي في عيدهم.
الحكومة الميانمارية تعتبر مسلمي الروهينغا دخلاء ولا تعتبرهم عرقية أصيلة في البلاد، فتمنحهم بطاقات خضراء بدل الهوية الوطنية التي منعوا من اقتنائها منذ فرض قانون المواطنة في العام 1982، والذي بموجبه انتزعت الجنسية من مسلمي الروهينغا، البطاقات الخضراء الصالحة مدة عامين فقط كتب عليها أن حملها لا يعني المواطنة، وأنه يمكن أن يخضع للتحقيق في هويته، ومن لا يحملها مهدد بالطرد كما يمنع من التنقل بين الأحياء والقرى المجاورة، وتحاول السلطات بتلك الهويات أن تسحب اعتراف من حامليها أنهم محض دخلاء غير شرعيين.
كما أن البطاقات الخضراء تساعد الدولة أكثر في اتخاذ قوانين وإجراءات خاصة مع حامليها الذين لم تمنحهم الدولة إياها إلا بعد ضغوطات دولية لاسيما بعد أزمة النزوح الجماعي عبر البحر التي اشتدت خلال شهري أبريل ومايو الماضيين، خاصةً مع زيادة وطأة التضييق واجتياح فيضانات وسيول لمنطقة غرب ميانمار لتلحق أضرارًا وخسائر مادية وبشرية كبيرة والتي تضرر منها أقليم أراكان بشكل أكبر من غيره بحسب إعلان الحكومة، وتضرر منها كذلك مسلمو الروهينغا الذين يعيشون في مخيمات مكشوفة على الساحل.
نهاية الشهر الماضي منعت اللجنة العليا للانتخابات بميانمار نائب مسلم يدعى “شوي مونغ” من الترشح عن ولاية أراكان في الانتخابات البرلمانية المقرر إجرائها نوفمبر القادم، وجاء هذا المنع تحت ذريعة عدم امتلاك عائلته للجنسية الميانمارية، الرجل الذي انتخب سابقًا في العام 2010 عن حزب الاتحاد والتضامن والتنمية نفى تلك المزاعم مؤكدًا أن والداه حصلا على الجنسية في العام 1957.
أما عن الزواج فهو يتطلب تصريحًا رسميًا من الحكومة، ومن يضبط متزوجًا دون هذا التصريح يتم سجنه وتغريمه غرامة مالية ضخمة، فقبل أسابيع قليلة اعتقلت السلطات شابًا من الروهينغا بقرية بصّارة جنوب مدينة منغدو لعدة أيام وأفرجت عنه بعد فرض غرامة مالية قدرها ثمانمائة ألف كيات، وقد كانت تهمته هي الزواج دون الحصول على تصريح رسمي من الحكومة، أما الراغبون في الزواج من دينين مختلفين فعليهم تسجيل اعتزامهم الزواج لدى السلطات المحلية التي بدورها تنشر إشعارًا عامًا عن الخطبة، وإن لم يعترض أي مواطن عليه يتم الزواج، وهو أمر من المستبعد ألا يوجد معارضين له، ما يعني استحالة تمام الأمر، وقوانين أخرى لتحديد النسل وسن الزواج وغيرها تحرم المرأة المطلقة أو الأرملة من الزواج، وتمنع تعدد الزوجات.
بدايات العنف ضد مسلمي الروهينغا
ميانماراستقلت باسم بورما في العام 1948 عن الاستعمار البريطاني بعد جولات من الاستقلال والغزو استمرت 11 عامًا قبل الاستقلال النهائي، ليأتي الاستقلال بحكم شيوعي يتلوه آخرعسكري، واستمر الأخير نحو 49 عامًا حتى انتهى في العام 2011 قبل نشأة الحكم الحالي، ورغم اختلاف فترات الحكم وتعاقبها إلا أن الاضطهاد للأقلية المسلمة كان موجودًا في كل العهود، وهو الذي اضطر مئات الآلاف للنزوح بسببه خلال تلك الفترات، لكن بعد عام من تولي حكومة رئيس ميانمار “ثين سين” زمام السلطة في البلاد عام 2011 اشتعل هذا الاضطهاد بشكل كبير حتى وصل حد التطهير العرقي العلني من قِبل الدولة.
تحديدًا في يونيو من العام 2012 بدأت شرارة العنف العنصري ضد مسلمي الروهنيغا، واشتدت أعمال العنف البوذي من أقلية الراخين البوذية ضد مسلمي الروهينغا ما أوقع نحو 280 قتيل غالبيتهم مسلمين، فيما نزح أكثر من 140 ألف ليعيشوا في الدول المجاورة التي نزحوا إليها في مخيمات بالية وظروف صعبة، وأعقب ذاك إعلان من الحكومة بإغلاق المئات من مساجد الروهينغا، ومنعهم من أداء الشعائر الدينية، وظلت السلطات من حينها ترفض منح مسلمي الروهينغا تراخيص لإعادة بناء مساجدهم، حتى تلك التي تتضرر من الفيضانات التي تشهدها البلاد مؤخرًا، ويكون مصير من يحاول ترميمها الملاحقة الأمنية من السلطات.
النزوح طوق للنجاة أم طريق آخر للموت
عكف عشرات الآلاف من مسلمي الروهينغا على ترك منازلهم لتأكلها نيران العنف، والهجرة إلى دول مجاورة هربًا من الاضطهاد وأعمال العنف والعنصرية وذلك على مدار عشرات السنوات، ففي العام 1962 هاجر نحو 300 ألف مسلم روهينغي إلى بنغلاديش، أعقبهم نحو 500 ألف في العام 1978 وفي رحلة الهرب من الموت تلك نتج عنها موت قرابة 40 ألفًا من المهجّرين، وبعد عشرة أعوام من التاريخ الأخير هاجر 150 ألفًا غيرهم، تلاهم 500 ألف آخرين هاجروا في العام 1991، لم يعبأ خلالها النازحون بالمشي في المستنقعات والخوض في بحيرات طينية والركوب في مراكب صغيرة بالية وخوض غمار تلك الرحلة التي يمكن أن تنتهي بالموت أيضًا قدر ما عبئوا بالهرب من بطش السلطة الطائفية بهم.
عملية مغادرة المسلمين في أراكان عن طريق البحر تتم بواسطة زوارق متهالكة مكتظة بالأعداد متجهة إلى الدول المجاورة، وتكون دولة ماليزيا قبلة رحلات المهجّرين بشكل أساسي، تسارعت وتيرة النزوح في أكتوبر من العام الماضي بعد تسرب معلومات عن خطة أعدتها اللحكومة لإرغام الروهينغا على العيش في مخيمات، وهو ما اعتبروه تهجيرًا قسريًا من مناطق عيشهم.
النازحون يقعون في شرك تجار البشر خلال رحلات الموت
حملات النزوح الجماعية أوقعت الآلاف في قبضة تجار البشر الجشعين، الذين لا يأبهون كثيرًا لحياة النازحين ولا تأخذهم بهم رحمة بقدر اهتمامهم بالمال الذين يتقاضونه مقابل تهريب المسلمين، فيفر مسلمو الروهينغا من الاضطهاد في ميانمار ليقعوا في أيدي المتاجرين في رحلاتهم والمبتزين لهم، ويتكبدون في تلك الرحلات المشاق، فيعانون من الإساءة والابتزاز والجوع، كما يمكن أن يتركهم المهربون عالقين وسط البحر تتقاذفهم مياهه حتى يلقوا حتفهم ويبتلعهم المحيط، فتشير تقديرات إلى وفاة أكثر من 1000 نازح غرقًا خلال تلك الرحلات غير المؤمنة، خاصة إذا اشتدت ضدهم الحملات البحرية عليهم.
ويمكن كذلك أن يتركوهم ليواجهوا الموت على البر أو يقتلوهم لبيع أعضائهم ويدفنوهم في مقابر جماعية بالغابات، وقد أعلنت ماليزيا مؤخرًا عن اكتشافها لنحو 139 مقبرة جماعية بداخل مخيمات لتهريب البشر قرب الحدود مع تايلند، ورجحت أن الجثث لمهاجرين من مسلمي الروهينغا، وحتى أن المهربين يبعيون أحيانًا المسلمين في سوق أشبه بالنخاسة وأعمال السخرة إذا لم يستيطعوا دفع باقي ثمن الرحلة التي تكلف آلاف الدولارات، كما أن كثيرًا ما يتم اغتصاب النساء، ومن ينجو من تلك الرحلة لم ينج بالتأكيد من الضرب والإهانة والتعذيب خلالها من قبل المهربين.
مسلمو الروهنيغا .. بطش بوذي بزعامة دينية ومعاونة رسمية
العنصرية العرقية دفعت بالعصابات البوذية إلى البطش بالمسلمين بزعامة وتشجيع ديني من رجال الدين البوذيين، فهم المحرض الأساسي على عملية التطهير العرقي التي تتم بحق المسلمين بحجج وقف المد الإسلامي في الأراضي البوذية، لا تنزل تلك العصابات بقرية إلا وتسرق وتنهب وتحرق وتغتصب وتقتل في أهالي القرية من المسلمين فتدور رحى تلك المعارك في كافة أنحاء ولاية أراكان، فيما تقف الدولة وعلى رأسها الجيش والشرطة بلا حراك أمام هذه المجازر كأنهم لا يأبهون لحياة المسلمين أو هذا بالفعل، فهي تساعد في أحيان كثيرة على البطش والتعذيب والاعتقال والابتزاز المالي وانتزاع الوثائق الرسمية ومصادرة الممتلكات عنوة وحتى القتل وتكون الدولة بذلك مشاركة في عمليات العنف ضد المسلمين وليست فقط متفرج أصم وأبكم أمامه.
حتى أن حاملي الجوالات والهواتف الذكية من المسلمين يتم اعتقالهم وكثفت السلطات مؤخرًا حملتها عليهم خشية التواصل الإعلامي من قبلهم مع أي جهة تسعى لنشر تلك الفظائع، وبالطبع من يتعرض للاعتقال لا بد وأن ينكل به ويفرض عليه غرامات كبيرة، فهناك أكثر من خمسة آلاف سجين روهينغي معظمهم اعتُقلوا عقب أحداث 2012، على سبيل المثال فقد شهد سجن “أكياب” فرض إدارته غرامات مالية على أهالي السجناء لإطعام ذويهم.
أقل نعت يصف ما تمارسه دولة ميانمار والبوذيين بحق مسلمي الروهينغا هو الإبادة الجماعية والتطهير العرقي، ويعضد ذلك كل هذه الشواهد السابقة، فيما يتبنى العالم والمجتمع الدولي أمام تلك الجرائم رد فعل أقل ما يُقال عنه ضعيف ومتجاهل أحيانًا فضلاً عن كونه متخاذل بينما يعاني مئات الآلاف من البشر كل هذه المعاناة بسبب انتمائهم الديني.