أوسكار شيندلر عاد إليكم من جديد

في العام 1993 جسَّد الممثل الأيرلندي ليام نيسون شخصية رجل الأعمال الألماني أوسكار شيندلر في فيلمه ذائع الصيت “قائمة شيندلر” والذي حاز على جوائزٍ عدّة، أوسكار شيندلر هو رجل أعمال ألماني مسيحي انضم للحزب النازي في العام 1939 وبرز دوره خلال الحرب العالمية الثانية كأحد مصنعي الأدوات المنزلية، وعلى الرغم من انتمائه للحزب النازي إلا أنه في العام 1962 حصل على لقب “الصالح بين الأمم” من قِبل مؤسسة ياد فاشيم المعنية بالبحث في أحداث المحرقة اليهودية إبّان الحرب العالمية الثانية.، ويرجع ذلك لأن شيندلر كان سببًا في إنقاذ ما يقرب من 1200 يهودي من المحرقة كانوا يعملون في مصانعه أو على وجه الدقة كانوا يعملون في معسكرات مصانعه الخاصة.
فبالنسبة لشيندلر لم يكن الأمر إنسانيًا البتّه ولم يكن ينظر لليهود بعين الرأفة بل لم يكن يعنيه ذلك أصلًا ولم يرتب لذلك من البدء، وإنما الأمر بالنسبة لشيندلر مجرد حسابات رأسمالية بحتة؛ فقد رأى في اليهود عمالة تكاد تكون منعدمة التكاليف، فهم لن يكلفوه سوى القليل من المأكل والمشرب، فليس ثمّة حلم لهؤلاء العمال اليهود سوى النجاة من جحيم المحرقة، فالانخفاض في التكاليف سيعني على الفور زيادة في الربح هكذا كان يفكر شيندلر، وهذا لا يعني أنه لم تكن هناك بعض الحالات الإنسانية بل كان هناك القليل ممن قبلهم شيندلر في معسكره كنوعٍ من الوفاء بالديّن لمدير حساباته الذي أدَرَّ عليه مالًا وافرًا.
ألمانيا تستعيد إرثها
أعلنت المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل في أواخر أغسطس الماضي أن بلادها ستسعى بنهاية هذا العام لاستضافة ما مجموعه 800 ألف لاجئ سوري وكذلك فإن بلادها سوف تضغط على باقي دول الاتحاد الأوروبي لزيادة أرقام اللاجئين السوريين المرحّب بهم داخل دول الاتحاد، للوهلة الأولى سيبدو الأمر وكأن الرجل الأبيض يضطلع لدوره “الأخلاقي” الذي يريد رفع المعاناة عن السوريين الذين تحطمت آمالهم تحت قسوة نظام الأسد، متناسين أن ألمانيا كانت قد حسمت موقفها في سبتمبر 2013 بالتعبير صراحة عن رفضها المشاركة في أي عمل عسكري ضد نظام الأسد في سوريا وأنها ستسعى للتفاوض مع نظام الأسد.
ميركل التي لم تحركها دموع الطفلة الفلسطينية ريم التي أخبرتها أنها وعائلتها على وشك الطرد من ألمانيا فما كان من المرأة الحديدية إلا أن أخبرتها أننا فقط ندير شؤوننا فلا تحزني، تريد أن تخبرنا اليوم، وبعد معاناة أربع سنين تعرّض فيها الشعب السوري لكل أصناف العذاب، أن الرجل الأبيض متطلع للقيام بدوره “الأخلاقي”.
البراميل المتفجرة والأسلحة الكيماوية وجحافل القتلى من النساء والأطفال والشيوخ التي تُعدُّ بمئات الآلاف وملايين اللاجئين وقرى محُيت بأكملها من على الخريطة لم تكن كافية لأن يتحرك الرجل الأبيض بينما صورةُ طفلٍ على شواطئ تركيا حرّكت عواطفهم، هكذا أرادوا أن يخبرونا.
ولكن بالنظر لديمغرافية ألمانيا، وأوروبا بشكلٍ عام، يمكننا أن نرى في أوسكار شيندلر نموذجًا تفسيريًا ممتازًا لخطوات ميركل؛ فالسوريون يُمثلون للألمان حلًا طويل الأمد لمشكلة الأيدي العاملة التي ستلاقيها أوروبا إذا استمرت معدلات المواليد المنخفضة على ما هي عليه الآن، فمعدلات المواليد في ألمانيا 1.4 لكل امرأة ونسبة الأطفال من بين كل ألف شخص هي 8.2 مما يعني أنه بحلول عام 2060 سينخفض عدد سكان ألمانيا من 82 مليون شخص إلى 65 مليون وذلك بافتراض أن هناك مئة ألف شخص يهاجرون إلى ألمانيا سنويًا، والأخطر في الموضع هو أن أكثر من ربع هذا العدد سيكون فوق سن الخامسة والستين أي سيعيشون على نفقات الدولة مما سيعطل مسيرة المكينة الألمانية، بينما يختلف الأمر بالنسبة للسوريين إذ نجد نسبة الأطفال لكل ألف شخص 26.5، أي أكثر من ثلاثة أضعاف النسبة الألمانية، وبالتالي فالأمر ليس إنسانيًا كما يتصور البعض، ولذلك كانت السيدة ميركل صريحة وواضحة في المؤتمر الصحفي الذي عقد في سويسرا في أغسطس الماضي حيث أوضحت أن المشكلة لن تكون في توفير فرص عمل للسوريين ولكن المشكلة ستكون في دمج هؤلاء السوريين في المجتمع الأوروبي، فالسؤال المطروح ليس كيف نجعلهم جزءًا من أوروبا، بل كيف نجعل أوروبا جزءًا منهم، جزءًا من ذواتهم، أي كيف نعيد إنتاج ذواتهم بما يتوافق مع قيمنا ورؤيتنا للعالم.
ساويرس يدخل على الخط
منذ بضعة أيام كتب السيد نجيب ساويرس أنه سيتقدم بعرض على الحكومتين اليونانية والإيطالية لشراء أحد الجزر التابعة لهم، والتي لن تُكلفه الكثير من المال، وفتحها لاستقبال اللاجئين السوريين وسيعرف السيد ساويرس كيف يوفر لهم فرص عمل جيدة، فبحسب السيد ساويرس من من ناحية نكون قد ساعدنا اليونان التي تمرُّ بأزمةٍ مالية ومن ناحيةٍ أخرى سنساعد السوريين في بناء وطن جديد لهم، ربما نسمع جيدًا عن انتهازية الرأسماليين ولكن أن تسمع بالعميدي خيرٌ من أن تراه، فهكذا تريد الرأسمالية الاستغلالية أن تسوّق لنا استغلالها على أنه فعلٌ إنسانيٌ عظيم، فسيتوجب على السوريين وقتئذٍ أن يتوجهوا للسيد ساويرس بخالص الشكر والعرفان على صنيعه في توفير حياة آمنة لهم بعد أن يكون السيد ساويرس قد استفاد من السوريين استفادة شيندلر من اليهود، وربما كان الأجدر بالسيد ساويرس رد مستحقات مصلحة الضرائب المصرية أولًا والتي تبلغ 14 مليار جنيه مصري.
إن أخطر ما تواجهه القضيية السورية حاليًا هو تحويلها من قضية سياسية وحقوق إلى قضية إنسانية نتعاطف معها وفقط، أما رد الحقوق والانتصار للمظلوم والأخذ على يد الظالم فليس مطروحًا الآن على الطاولة، وإن كان اليهود قد استطاعوا أن يحولوا مآساتهم الإنسانية إبّان المحرقة النازية لقضية سياسية تُستدعى دائمًا متى كانوا طرفًا في أي قضية سياسية فإننا اليوم أمام العكس، وعلى السوريين أن يندمجوا في أوروبا لحين ننهى مفاوضتنا مع الأسد، هكذا لسان حال أوروبا اليوم.