أخبار سعيدة تناقلها أهل مدينة جيزره الكردية في جنوبي شرقي تركيا، حين علموا أن حظر التجول الذي بدأ في الرابع من سبتمبر سينتهي أول أمس الجمعة 12 سبتمبر، ليتمكنوا من العودة لحياتهم اليومية بعد أيام عصيبة عانوا فيها من نقص الطعام وغياب الرعاية الصحية وانقطاع المياه والكهرباء وضعف خطوط التليفون والإنترنت، علاوة على استخدام العنف الشديد من جانب الجيش التركي الذي أسقط ضحايا من المدنيين ووصلت نيرانه للمنازل، بيد أن تلك السعادة تبددت حين علموا بالأمس أن الحظر سيعود مجددًا بدءًا من اليوم 14 سبتمبر ولأجل غير معلوم.
بدون القدرة على إقامة الجنازات للموتي أو الذهاب للمستشفيات لإسعاف الجرحي والمرضى أو حتى شراء ما يكفي من طعام، عاش أهل جيزره أيامًا عصيبة قبل أن يغمروا الشوارع يوم الجمعة للحصول على حاجاتهم الأساسية من الطعام والدواء، في نفس الوقت الذي شاهدوا فيه بأعينهم جثث ضحايا القتال بين الجناح الثوري الشبابي لحزب العمال والجيش التركي، والذين أحيانًا ما قُتلوا داخل بيوتهم، وقاموا بالتبعية بزيارة أهالي المقتولين بعد الانتهاء من التسوق سريعًا، قبل أن تعود نيران المواجهة، وهو ما حدث بالفعل خلال 48 ساعة تنفست فيها جيزره.
“لقد تم استهداف منزلي بينما كنا نتناول الطعام، وهناك رصاصة مستقرة الآن أسفل صدري وأخرى في قدمي، كما أن ابني أصيب في قدمه، في نفس الوقت كان صعبًا أن نداوي جراحنا لأن الوصول للإسعاف لم يكن ممكنًا”، هكذا يقول بهاء الدين يشيل أحد قاطني جيزره، والتي صرّح الجيش التركي بأنه لم يقتل منها سوى مدنيًا واحدًا، في حين اعترض المحامون المنتمون لحزب الشعوب الكردي قائلين بأن العدد يتجاوز العشرين، ويتضمن طفلًا رضيعًا وطفلة تبلغ عشرة أعوام.
شبح الحرب يُطِل في وقت غير مناسب
متظاهرون أكراد
“تركيا على حافة حرب أهلية”، هكذا صرح صلاح الدين دميرطاش رئيس حزب الشعوب الكردي، وهي ليست مبالغة كما قد يقول نقاده، ليست فقط بالنظر لوتيرة العنف المتزايدة بين الجيش وحزب العمال بعد نهاية عامين من وقف إطلاق النار، والتي تُنذر بعودة شبح التسعينيات حين كان العنف في الولايات الكردية على أشده، ولكن بالنظر أيضًا للتوتر على المستوى الشعبي بين الكثير من الأتراك والأكراد، لا سيما الشرائح القومية على الناحيتين والتي تملك سجلًا من ممارسة ما يشبه بحرب الشوارع في سبعينيات القرن الماضي.
الأخبار التي تدلل على ذلك كثيرة، منها طعن تركي غاضب لأحد الأكراد في موقف للباصات بعد أن سمعه يتكلم بالكردية، وحوادث أخرى تعرض فيها أكراد للضرب، وألفاظ عدوانية لم يتمالك ضباط الشرطة الأتراك أنفسهم من توجيهها للأكراد أثناء تواجدهم في الجنوب الشرقي، وهو غضب يبرره الكثير من الأتراك بالتصعيد العنيف من جانب حزب العمال والذي قد يصل عدد ضحاياه الآن من الجنود لحوالي مائة، والألغام والكمائن المفخخة التي اكتشف الجيش أن الحزب كان يزرعها حتى أثناء مفاوضات السلام على مدار العامين الماضيين، علاوة على السلاح الذي راكمه في الداخل وسط سمع وبصر الأكراد.
متظاهرون أتراك
حالة الغضب غير مسبوقة بالتحديد بين التيارات القومية المتطرفة، والتي نزلت لتتظاهر في الشوارع وهاجمت مقرات عدة لحزب الشعوب الذي يتمتع بعلاقات وطيدة مع حزب العمال رُغم خطابه الهادئ هذه الأيام، فقد هاجمت مجموعة منهم مقر الحزب في أنقرة يوم الثلاثاء الماضي، كما قام حشد من ألفين تركي بحرق مركز الحزب المحلي في مدينة ألانيه الجنوبية، بل ووصل العنف لمكاتب صحيفة حريّت العلمانية المتعاطفة مع الحزب الكردي، والتي تعرضت للهجوم في إسطنبول مرتين خلال الأيام الثلاثة الماضية فقط.
تجري هذه الحرب كما نعلم في أوقات غير مناسبة تمامًا، حيث يدور صراع وثيق الصلة بما يحدث في تركيا في شمال سوريا، علاوة على الصراع الأوسع الذي يجري بطول منطقة الهلال الخصيب وعرضها بين مجموعة متنوعة من القوى العسكرية بدءًا من نظام الأسد والنظام العراقي وحتى داعش وجبهة النصرة وحكومة كردستان العراق وحزب الاتحاد الكردستاني وثيق الصلة بحزب العمال في شمال سوريا، وهو ما يعني أن التماس بين النيران هنا وهناك قد يحدث بسهولة، ويجر تركيا لحرب أوسع تستنزفها أولًا، وتمزق نسيجها الاجتماعي ثانيًا، وتهدد استقرارها السياسي والاقتصادي ثالثًا.
مسلحان كرديان في عين العرب-كوباني
“ما لم تتغير طبيعة الساحة السياسية الآن، من الممكن جدًا أن تنزلق تركيا للصراع الدائر في جوارها”، هكذا تحدث إريك إيديلمان، السفير الأمريكي السابق في أنقرة، محذرًا من عدم قدرة الدولة التركية في هذه اللحظة على تدارك الأمور كما في العقود السابقة، وهو ما يؤكده جاريث جينكينز، الزميل بمعهد طريق الحرير في واشنطن ومتخصص الشؤون التركية، “لو حدث كل ذلك قبل 2007 لوقع انقلاب عسكري فورًا، ولكن لحسن الحظ معظم الضباط الانقلابيين قد تمت محاكمتهم في قضيتي أرجنكون والمطرقة”.
يقول جينكينز إن أحدًا لا يمكنه أن يتوقف الآن بينما يستمر التوتر، فأردوغان لن يوقف الحرب على الأقل قبل الانتخابات، وهو ما يقول كثيرون إنه نابع من رغبته في حصد بعض الأصوات القومية التي فقدها لعل الحزب يعود بأغلبية برلمانية في نوفمبر، والموقف نفسه موجود على الناحية الأخرى، حيث لا يسع حزب العمال أن يعلن وقف إطلاق فجأة لأنه سيكون بمثابة إعلان الهزيمة أمام أردوغان، وفي نفس الوقت فإن استمرار الحرب يعزز من فقدان العدالة والتنمية لشعبيته في الجنوب الشرقي وبالتالي يرفع أرصدة حزب الشعوب الكردي.
عربة تابعة للشرطة التركية في مدينة جيزره
الأخطر من ذلك هذه المرة، على العكس الحال في التسعينيات، أن الحرب لم تعد مقتصرة على الأطراف الريفية والجبال التي يتسنى فيها للجيش التركي ضرب الحزب دون التأثير على شرعيته بين عموم الأكراد، وذلك لأن الفصيل الثوري الشبابي لحزب العمال راسخ بقوة في المدن الكردية نفسها، وهو ما يعني استحالة انتصار الجيش التركي دون إيقاع الكثير من الضحايا المدنيين، كما رأينا ونرى في مدينة جيزره التي يصل تعدادها لحوالي مائة ألف، “فالدولة ستضطر في مرحلة معينة إلى الدخول بشكل كامل للمدن لبسط سيطرتها، وهو أمر سيرسخ صورة الجيش التركي باعتباره محتلًا للأكراد،” هكذا يقول آرون شتاين المحلل الاستراتيجي لموقع مونيتورز.
ليس هذا هو الخطر الوحيد بالطبع، ولكن ممارسة السياسة وفق استقطاب جغرافي يعني أن حزب العدالة والتنمية سيصبح حزبًا تركيًا متقوقعًا في وسط الأناضول والمدن الغربية، بينما سيرتكز حزب الشعوب للمدن الشرقية الجنوبية، وهي مسألة تخلق انقسامًا جغرافيًا شديد الخطورة على شرعية وتماسك الدولة التركية، وهو ما توضحه بجلاء دعاوى إعلان الاستقلال الذاتي التي أطلقها بعض السياسيين الأكراد، لا سيما وأنهم مُنِعوا مؤخرًا من ممارسة مهامهم كنواب للمناطق الكردية في البرلمان، وحظرهم الجيش من دخول مناطق القتال.
نقاط التفتيش الذاتية التي أعلنها حزب العمال كما نشرها موقع روداو الكردي
خطوات الاستقلال الذاتي تلك بدأها بالفعل حزب العمال وجناحه الشباب برفع الأعلام الكردية داخل المدن وإنشاء نقاط تفتيش وكمائن في مناطق عدة بعيدة عن أعين الجيش بين الحين والآخر، وهي خطوات استفزازية وتوضح عدم وجود نية للتوصل للسلام حقيقة في إطار الدولة التركية من جانب حزب العمال كما يراها الكثير من الأتراك، كما أن البعض من هذه الخطوات يرفضها حزب الشعوب نفسه، كما يقول خطابه الرسمي على الأقل، والذي تحدث فيه عن أولوية عملية السلام وحتمية الجلوس للتفاوض في نهاية المطاف من جانب أنقرة وقنديلي – الجبال التي يتمركز فيها مقاتلو حزب العمال.
إلى أين يتجه الوضع إذن؟ لا يستطيع أحد التكهن، ولكن الكُل يعلم أنه وضع شديد السوء لتركيا والأكراد معًا، في نفس الوقت الذي لا يود فيه الطرفان المسؤولان سياسيًا، الدولة التركية من ناحية وحزب العمال من ناحية، التهدئة والعودة للمفاوضات نظرًا لحساباتهما السياسية ورغبتهما في خوض المعركة لآخر نفس حتى تحقيق أي انتصار ممكن ولو على المستوى السياسي، وهو ما يفسر ربما خطاب التهدئة من جانب حزب الشعوب الكردي، والذي لا يود خروج الأمور عن السيطرة أكثر من ذلك هو الآخر كي لا يقرر الأكراد فقدان إيمانهم بالكامل في المنظومة والعزوف عن الانتخابات، وبالتالي إضعاف موقف حزبه في الانتخابات المقبلة.
***
في مطلع هذا الشهر، وارى الثرى المسلح الكردي رضوان إيپَك، المقاتل في صفوف حزب العمال الكردستاني، إلى جانب رجب بيجور أحد أقاربه وصديق طفولته، والذي قُتِل هو الآخر قبل أسبوعين في تفجير لقنبلة عن بُعد مع ثمانية من زملائه يقاتلون في صفوف الجيش التركي، ليموتا معًا في شبابهما كما نشئا معًا في طفولتهما في حي قرم قايه بولاية أرضروم التركية القريبة من الولايات الكردية، حيث يقبع جسد كل منهما على بعد أمتار قليلة من الآخر.
في أغسطس الماضي، وقف كل من صلاح الدين بيجور وراميس إيپك لتلقي العزاء في المسلح الكردي المقتول، وهي وقفة تكررت في مطلع هذا الشهر لتلقي العزاء مرة أخرى في الجندي التركي المقتول، “لقد ترعرع الولدان معًا وتمتعا بصداقة وطيدة”، هكذا قال الوالد الثكلان.