أنهى رئيس الجمهورية الجزائرية، عبد العزيز بوتفليقة، أمس الأحد، بشكل رسمي مهام قائد جهاز المخابرات، الفريق محمد مدين الملقب بـ “توفيق”، حسبما أوردت صحف جزائرية نقلاً عن مصادر أمنية، لينهي بذلك تربع الأخير على عرش جهاز المخابرات لفترة تجاوزت العشرين عامًا، وليطلق الأقلام نقلاً وتحليلاً لهذا الحدث اللافت في المشهد السياسي الجزائري.
وأكدت وكالة الأنباء الجزائرية خبر إحالة الجنرال توفيق على التقاعد وتعيين بشير طرطاق خلفًا له من طرف بوتفليقة، مثبتًا بذلك مستشاره الأمني وهو اللواء المتقاعد والذي سبق له أن تقلد مسؤوليات عليا بمصالح اللاستخبارات والأمن، على رأس الجهاز الأقوى في الجزائر بحسب محللين.
من يكون الجنرال توفيق؟
لم تكن لتمر هذه الإقالة وهذا التغيير على رأس مؤسسة من مؤسسات الدولة مرور الكرام لطبيعة الشخص الذي شملته حركة “إعادة تشكيل موازين القوى” في الجزائر التي شملت مؤخرًا أحزاب المولاة والمؤسسة الأمنية والعسكرية؛ يلقبه البعض بصانع الزعماء السياسيين والرؤساء والبعض الآخر بالرجل الغامض، وهو المتربع على عرش جهاز المخابرات منذ ربع قرن، محمد لمين مدين المعروف أيضًا بالفريق “توفيق” من مواليد 1939 في منطقة قنزات في ولاية سطيف، وشغل منصب رئيس الاستخبارات الجزائرية من سبتمبر 1990 حتى إقالته.
الجنرال المحال إلى التقاعد، ولد بسطيف غير أنه ترعرع بحي بولوغين الشعبي بالعاصمة، التحق بصفوف جيش التحرير سنة 1961 ليلتحق مباشرة بعد الاستقلال بجهاز المخابرات العسكري، اين تدرج في مختلف الرتب واستفاد من دورات تكوينية بالاتحاد السوفياتي آنذاك، ليتحول سنة 1986 بعد عودته من منصب مستشار عسكري في ليبيا ليُنصب في الرئاسة كمدير لمديرية الدفاع والأمن بالهيئة ذاتها، ثم نُصب سنة 1990 على رأس المخابرات الجزائرية أو ما يعرف بـ “الدياراس” DRS مديرية الأمن والاستعلام، وهو المنصب اللذي لم يفارقه حتى اليوم، ما جعله أحد أقدم العسكريين في العالم.
وبحسب بعض المطلعين بكواليس منظومة الحكم الجزائري، ومنذ تولي منصبه سنة 1990، عرف عنه التحكم في كل صغيرة وكبيرة حدثت في الجزائر، وقد ساهم في وصول العديد من رؤساء الجزائر إلى سدة الحكم، وتقول مصادر جزائرية، إنه من أوقف المسار الانتخابي سنة 1992، وإنه كان المحرك الأساسي في إقالة الرئيس بن جديد، وساهم في تولي محمد بوضياف رئاسة الجزائر الذي اغتيل في نفس السنة، ليدفع باليمين زروال إلى سدة الحكم، وكان أيضًا سببًا في إقالته وترشيح عبدالعزيز بوتفليقة لرئاسة الجزائر.
وتضيف المصادر ذاتها، أنه كان أحد الوجوه العسكرية والأمنية التي دفعت وأقنعت بوتفليقة في عام 1988 بضرورة أن يكون مرشح النظام في انتخابات 1999 وباقي الانتخابات الرئاسية اللاحقة وآخرها في 2014، ويقال إنه من كان يمسك بخيوط اللعبة السياسية في الجزائر وإنه الحاكم الفعلي من خلف الستار خاصة منذ الإعلان عن مرض بوتفليقة قبل سنوات، وتكرار غيابه عن الجزائر بسبب تلقيه العلاج في المستشفيات الفرنسية.
طيلة هذه الفترة، صنع الرجل لشخصه أسطورة عبر الامتناع عن الظهور العلني، لدرجة أن قليلين هم من يعرفون ملامح وجهه، وحتى صوره الثلاث التي قد تعترضك على شبكة الإنترنت وأنت تبحث للتعرف عليه مشكوك في مصداقيتها، بالإضافة إلى ذلك، وكنتيجة لهالة الغموض التي حرص على تثبيتها، يعتبر شق هام من الشارع الجزائري أنه الحاكم الفعلي للبلاد، قبل أن يشاع وجود صراع خفي بين الرئيس ودوائره من جهة، وبين رجل الظل من جهة أخرى.
قراءات مختلفة لهذه الإقالة
عند العودة قليلاً بالزمن إلى الوراء، نكتشف وجود خط ناظم انتهى بإقالة مدين، حيث مثل شن عمار سعداني، أمين عام جبهة التحرير الوطني الجزائرية (الحزب الحاكم)، حملة شرسة ضد مدين، الرجل القوي على رأس جهاز المخابرات، واصفًا إياه بالرجل المتسلط وعديم الكفاءة، وسط ذهول من المراقبين والمحللين السياسيين في الجزائر، نظرًا لبقاء مدين طوال عقود كخط أحمر لا تتطرق له الصحافة المحلية ولا السياسيون، أول القطرات التي أفاضت الكأس لاحقًا، وهو ما لم يكن ليحصل دون حصوله على ضوء أخضر من بوتفليقة ورجاله، ليتلو هذا التهجم عمليات إحالة وجوبية على التقاعد لجنرالات معروفين بقربهم من رجل الظل، بهدف عزله وتقليم مخالبه.
من جهته، اعتبر رئيس حركة مجتمع السلم، عبد الرزاق مقري، أن الحدث لا يعدو أن يكون سوى تمظهر لصراع الأجنحة داخل النظام، الجاري منذ مدة وفي الخفاء وأن الأمر يتعلق بمنافسة داخل النظام السياسي، لا يمكن للمواطن العادي ولا حتى الأحزاب السياسية أن تطلع على خفاياها، كما عبر عن تخوفها أن يتطور هذا الصراع بشكل “يلحق ضررًا بالمجتمع”.
على صعيد آخر، اعتبرت بعض التحليلات أن بوتفليقة طبق بقراره هذا ما كان يكرره دائمًا في خطاباته بأنه لن يقبل بأن يكون ¾ رئيس، باعتبار أن النظام الجزائري يتشكل من ثلاثة أقطاب متحكمة وهي رئاسة الجمهورية وأركان الجمهورية وجهاز المخابرات الذي سقط بتحالف الأولين، لينتهي مؤقتًا صراع تقليدي بين الرئاسة والمخابرات انطلق منذ الاستقلال.
هل انتصر شق الرئاسة؟
نظريًا نعم، فسلسلة التغييرات التي شهدتها المؤسسات العسكرية الجزائرية انتهت بإزاحة أكبر الرؤوس، لكن على المستوى العملي سنحتاج أن ننتظر قليلاً لنتابع كيف ستتعامل مؤسسة المخابرات مع ما حل بها من ترويض وسحب للصلاحيات، فمدين بتربعه على كرسيها لمدة ربع قرن لم يعد يمثل شخصه فقط، بل أصبح شخصًا مؤسسة.
قد تكون هذه الخطوة هي الأخيرة قبل دخول الجزائر في عملية انتقال السلطة، عملية انتقال قد يسبقها تنزيل للإصلاحات الدستورية والمصادقة عليها ثم تنصيب من ستحدد دوائر الرئيس لخلافته، بكل راحة بعد إبعاد كل ذي طموح وسلطة موازية.
وأهم من كان يعتقد أن بوتفليقة مجرد رجل مقعد لا حول له ولا قوة، وسواء كان صاحب القرار الحقيقي في الجزائر أو أحد المحيطين به، يبدو أن لحظة التغيير اقتربت، وهذا التغيير لن يكون على خلاف ما سيسطره شق الرئاسة في بلد المليون شهيد.