التقدم التكنولوجي والعمراني في الإمارات، والذي ترتبط صورته بالذهن فورًا عند ذكره ببرج خليفة أطول برج في العالم، أو بأكبر مركز تجاري، أو المدينة الجليدية الصناعية، ففي الإمارات كل شيء ممكن، الغابات والجليد والبحر، في مكان واحد، بأيدي صناعية أجنبية محترفة، يمكنها أن تجعلك تعيش داخل تلك الأجواء في بلد طبيعته صحراوية، وسكانه أصلهم من البدو، إلا أن خطر انقراض الحرف اليدوية يحوم حول الحرفيات الإماراتيات، من يحملن التاريخ بين أيديهن، حيث يأخدنه مع صناعتهن البدوية إلى خطر الموت أو الانقراض وسط ثورة التكنولوجيا في الإمارات العربية المتحدة.
“نحن لدينا يدان؛ واحدة للاستلام، وأما الثانية فهي للعطاء”.
في تقرير لموقع “ميدل إيست أى” ذكر فيه محادثات دارت بينه وبين ثمانية من الحرفيات الإماراتيات، عبرن فيها عن مخاوفهن من انقراض صناعتهن وعن عدم اهتمام الدولة بصناعتهن في السياحة، كما عبرن فيها عن مخاوفهن من عدم وصول تقاليد وأساسيات تلك المصنوعات إلى الأجيال الصغيرة، فهن تعلمنها من الجدات والأمهات عبر الأجيال، لكن بعد التطور المتمدين السريع في الإمارات، لم يعد لهن آذان صاغية من الأجيال الشابة لتتلقى تعاليم الحرفة اليدوية.
أعلنت منظمة اليونسكو في عام 2011 قائمة بالإرث الثقافي الذي يستلزم حماية طارئة من الانقراض، كان من بين الصناعات التي احتوت عليها القائمة، “حرفة السدو”، وهي الحرفة البدوية التي تشمل نسيج وحياكة الصوف وصناعة الخيام وبيوت الشعر، حيث صرّحت اليونسكو أن من تبقى من الحرفيات القادرات على تلك الصناعة في الإمارات لا يتجاوز عددهن 150-200 امرأة، وتتراوح أعمارهن بين الخمسين والسبعين عامًا.
“آفرة المنصوري” هي واحدة من تلك الحرفيات، عمرها 45 عامًا، وتعمل في مركز للثقافة والسياحة، تروي في التقرير أنها تعلمت حرفة النسج وهي في عمر العاشرة، عندما لم تكن تعرف الإمارات التقدم التكنولوجي، ولم يكن لهم شهادات ميلاد مطبوعة كما هو الحال الآن، تروى أنها من المجتمع البدوي الذي امتد من الإمارات وحتى السعودية، حيث كانت النساء تحترف معظم الحرف البدوية، تم تعليمها حرفة “نسج السدو” لمدة خمس سنوات حتى اتقنتها، فهي لم تر شيء منذ ولادتها غير أمها وهي عاكفة على النسج، والآن آفرة أم لسبعة أولاد، تقضي ستة ساعات كاملة من يومها عاكفة على النسج في “المسرح القومي للفنون في أبو ظبي” في عمل مكثف مخصص للحرف اليدوية، في برنامج ثقافي لإحياء الحرف اليدوية في الإمارات، الدولة التي تجاهد من أجل البحث عن هويتها وسط العمران المتمدين.
الحرف البدوية التي اشتهر بها تاريخ الإمارات
السدو أو “نسج النخيل”
يُستخدم السدو في التاريخ لصناعة الخيام، السجاد، وأغطية الجمال والأحصنة.
صناعة الطين “الفخار”
تعد حرفة “تشكيل الطين” مثالًا حيًّا لإبراز العادات والتقاليد الأصيلة للمواطن الإمارتي.
صناعة الخوص
من الصناعات المشهورة المعتمدة على سعف النخيل صناعة الخوص حيث كان للمرأة الحظ الأوفر منها.
نسج الصوف
كان يتم استجلابه قديمًا من الحيوانات في الصحراء، والآن أصبحت تنسجه الحرفيات على المنوال في أشكال هندسية محددة بعد استيراده من خارج الإمارات، لتصنعه بأشكال مستوحاة من الطبيعة أو الصحراء.
تقول “آفرة المنصوري” إنها سعيدة بعملها الذي تعلمته من أمها وعماتها رغم المدنية الحديثة في الإمارات، وتجده كافيًا لها، حيث تحصل على راتبًا شهريًا قدره 3300 دولار، والذي تراه مناسبًا للغاية، بل أكثر مما كانت تتوقع، لحرفة يدوية في أبو ظبي، وهو الذي يختلف عن متوسط الأجور المرتفع في الإمارات والذي يبلغ 4600 دولار ويرتفع في كثير من الأحيان لمواطني الإمارات.
ترى آفرة أن عملها يمنحها الحرية لتفعل ما يحلو لها، فقد شاركت في دعوات دولية تلقتها أبو ظبي لمعارض الحرف اليدوية، حيث شاركت “آفرة” في معارض في الصين وبريطانيا والمغرب.
آفرة هي الوحيدة من بين 13 سيدة في المركز الثقافي في أبوظبي التي بقيت لديها المهارة في نسج اليدوي، أما البقية فيعملون في تطريز الملابس المصنوعة يدويًا.
الاحتياج إلى أيدي عاملة
صرّحت مسؤولة الحرف اليدوية في مسرح أبو ظبي للفنون أنها بحاجة إلى مزيد من النساء للعمل في الحرف اليدوية، فإن حصلت على الأقل على ستة سيدات للعمل، يمكنها البدأ في تقديم دورات تدريبية لأجيال الشباب ونقل الحرف البدوية بين الأجيال، إلا أن المرتبات الممنوحة لهم لا بد أن ترتفع ليقبلوا باستخدام مهارتهن كعمل لكسب الرزق، حيث تفضل أغلبهن الوظائف الحكومية التي تمنحهن راتبًا أعلى ومزايا وحقوق أفضل.
تقول المسؤولة إنه يجب الوصول بالحد الأدنى لمرتبات الحرفيات إلى 5500 دولار، ليدخل في منافسة قوية مع العمل السياحي الحكومي، ولجذب مزيد من الشباب للعمل في تلك الصناعات التي أوشكت على الانقراض، وتضيف: منعت الحياة المتطورة انتقال مهارات الحرف البدوية عبر الأجيال، والآن من الصعب إعادة إحياء تلك الصناعة مع قلة الأيدي العاملة، لأنها حرف مستهلكة للوقت، حيث من الممكن أن يمتد الوقت لإنتاج ثماني وسادات من امرأة واحدة إلى شهرين، إذا كان لدي ثلاثون إمرأة، يمكنني أن أنتج طلب يكفي احتياج مصنع كامل من الوسادات اليدوية، ولكن أين هم الـ 30 امرأة؟ إذا لم تتوافر الأيدي العاملة اللازمة لمواكبة الإنتاج التجاري، ستسلك تلك الحرف طريقها للموت.
قررت العمل بعد وفاة زوجها منذ ثمان سنوات، وتستمتع بالعودة إلى الحرف اليدوية كعمل لكسب الرزق وكممارسة لمهارتها البدوية، تقول بأنها لم تذهب للمدرسة، فكل ما تم تعليمها إياه، هو الطبخ ورعاية المنزل وفن النسيج.
وكما يُقال: الحاجة أم الاختراع، ولأن الأرض خيّرة، والبيئة معطاءة، ولأن الإنسان الإماراتي كغيره يحتاج إلى استثمار موارد بيئته، لا ليبقى على قيد الحياة فقط، بل ليعمر الأرض أيضًا، أو ليحفظ تاريخها، فتُعد الإمارات من أكثر الدول العربية الغنية بالفنون الشعبية، إذ أمكن إحصاء أكثر من 30 حرفة شعبية يدوية خلال الدورة الأخيرة لمهرجان أيام الشارقة التراثية مازالت تمارس داخل مجتمع الإمارات، وتمثل مورد رزق للعديد من الناس الذين يمارسونها، حتى لو اقتصرت تلك الممارسة على المناسبات والمهرجانات.
تحولت الحرف اليدوية التي كانت عاملًا مهمًا لاستقرار الإمارتيين في بلادهم، والعامل الأساسي للرزق حينها، إلى مجرد ذكرى لدى الإمارتيين، يعرضون صورًا لها بين الفينة والأخرى في المعارض، بعد الطفرة النفطية التي حوّلت الإمارات من صحراء للبدو، إلى بلاد المراكز التجارية وأطول أبراج العالم، تنقرض الكثير من الحرف البدوية الأصيلة في الإمارات منذ السبعينات وحتى يومنا هذا، وتظل طي النسيان بين التطور والاندثار.