المشهد الأول:
هذا الخبر الذي ما زلت أتذكره جيدًا رغم أن نوعية تلك الأخبار أصبحت شبه مألوفة لدى أهالينا في سيناء، وذلك حين بثت العديد من وكالات الأنباء في يونيو الماضي نقلا عن مصادر سيناوية أن أربعة أشخاص بينهم أم وطفلاها قتلوا جراء قصف عشوائي للجيش المصري طال منزل مدني غربي مدينة رفح بشمال سيناء أثناء عمليات عسكرية من المفترض أنها تستهدف ما تصفهم بـ”الإرهابيين” في سيناء.
فقد تسائلت حينها في نفسي أي إرهاب لهذه الأم وطفليها؟ وما جريرتهم جميعًا كي يقضوا نحبهم في صمت جراء هذا القصف العشوائي الذي أحسن الظن فيه أنه خطأ ناهيك عن التعمد في تكراره، لكن الإجابة على أسئلتي الحمقاء هذه كانت في نهاية اليوم من المتحدث العسكري باسم الجيش الذي أعلن عبر صفحته على موقع “فيس بوك” أن الجيش تمكن من قتل العشرات مما وصفهم بالعناصر الإرهابية في عملياته العسكرية تلك، وقد كان هذا الخبر غيض من فيض بعدما أصدر منظمات حقوقية تقارير تُفيد بأن ثمة أكثر من 600 حالة قتل في سيناء خارج إطار القانون قامت بها قوات الجيش المتواجدة هناك.
إذن هذا ليس قتل بالخطأ ولن يتم إجراء تحقيق من قبل الجيش في الحادث أو في “الحوادث”، إذن هذه الأم الضحية عنصرًا إرهابيًا، والطفلان لا يزيدان عن كونهم من تلك العناصر التي ربما تُوصف بالتكفيرية أحيانًا أو ربما رأى الجيش أنهما مشروع إرهابيين صغيرين فقرر إنهائه على الفور، وعشرات الصور التي يبثها النشطاء من سيناء لضحايا المدنيين من قصف الجيش في سيناء ما هي عند المتحدث العسكري إلا مجرد “عناصر” إرهابية تكفيرية يخرج علينا مبشرًا بقتلها افتخارًا.
أما المطالبات الحقوقية مبحوحة الصوت بإجراء تحقيقات شفافة ونزيهة في عمليات الجيش الذي يقتل المدنيين من الشعب المصري في سيناء كانت تواجه بسيل من التخوين من قبل نخبتنا المتعسكرة، ولا ضير من مزج هذا التخوين باتهامات كدعم الإرهاب، وتلك التهم المعلبة التي تروج لها هذه النخبة باستخدام إعلام لا يعدو عن كونه منشورات عسكرية تذيع صور قتلى المدنيين في سيناء يوميًا، ولا تتورع في كتابة عناوين عريضة فوقها احتفاءًا بالجيش المصري العظيم في سيناء الذي خلصهم من بعض النساء والأطفال العزّل.
مع نفي هؤلاء ليل نهار لأية احتمالية ترجح قتل أصحاب هذه الجثث عن طريق قصف أو تصفية عشوائية للجيش وبالطبع لا أحد يعرف هؤلاء إلا أهالي سيناء، فلم تخرج السلطات لتعتذر عن قتلهم ولا أعلنت أنها ستجري مجرد تحقيق ولو صوري في مقتلهم، ولم يلق أحد لهم بالًا من الأساس وهذا وربك هو مفهوم الموت “الفطيس”.
المشهد الثاني:
طائرة أباتشي من تلك التي تعود أهلنا في سيناء على سماع دوي تحليقها في السماء فوق رؤوسهم، هذه المرة تطير فوق سماء الصحراء الغربية لنفس المهمة المزعومة وهي ملاحقة أشباح العناصر الإرهابية، رأت الطائرة 4 سيارات دفع رباعي، فيا له من صيد إرهابي ثمين، وما لبثت أن فتحت النيران على أربع سيارات دفع رباعي، وللمفاجأة الغير سارة تبين أن هذه السيارات خاصة بفوج سياحي مكسيكي الجنسية يرافقه عدد من المصريين.
أسفرت الواقعة عن مقتل 12 شخصًا بينهم مكسيكيين، وإصابة 10 أشخاص من المكسيكيين والمصريين، وما أن خرج الخبر إلى وسائل الإعلام حتى حاولت بعض وسائل الإعلام العسكرية أن تتصرف بتقليدية شديدة بوصف المقتولين بأنهم “عناصر إرهابية” قبل أن تعرف أن فوج السيارات هذه كان لسياح من المكسيك.
“إنه لمأزق بالفعل كيف لإرهابيون أن يتركوا بلادهم في المكسيك ليأتوا إلى صحرائنا الغربية”، كان هذا لسان حال بعض النخب العسكرية خاصتنا التي بُلينا بها، أما آخرين فقد آثروا حفظ بعض من ماء وجههم المهدر ويعترفوا أن الجيش أخطأ باستهداف السياح مع إظهار بعض الامتعاض والغضب.
– ماذا تقول؟، الجيش قتل مدنيين بالخطأ!
*نعم يجب إجراء تحقيق في الأمر لأن هذا الأمر سيؤثر على السياحة
السلطات المصرية لم تكذب خبرًا وأعلنت عبر وزارة الداخلية أنه تم التعامل مع هذا الفوج عن طريق الخطأ وتبين بعد ذلك أنها مجموعة سياح من المكسيك، وسوف تجري السلطات تحقيق في هذا الخطأ.
الأمر يُصيب حقًا بالذهول فبعد سماع هذا الكلام من النخبة والسلطة على حد سواء فقد كدت أن أقنع نفسي أنني أقرأ صحفًا مكسيكية بعد سقوط الحادث وليست تلك المنشورات الإعلامية الحربية المصرية التي تعودت عليها، إلا أنني لا أجيد اللغة الإسبانية التي يتحدث بها المكسيكيون، ورغم ذلك نقل المصريون مطالب الرئيس الميكسيكي بضرورة إجراء تحقيق في الأمر وهو ما وعدت به السلطات المصرية.
اتضح أخيرًا لدى البعض أن الجيش يقصف عشوائيًا في حربه المزعومة ضد الإرهاب، كما اتضح أنه يكفي أن تمتلك سيارة دفع رباعي لكي تكون بالنسبة لقوات الجيش المصري عنصرًا إرهابيًا وهدفًا مشروعًا، ولكن يتضح ذلك فقط إذا كنت مكيسيكيًا.
والأعجب يا رعاك الله أن القتلى والمصابين المصريين في هذا الحادث لم يعبئ بهم أحد، ولم يتحدث عنهم الإعلام بقدر ما اهتم بسياح المكسيك، وكأن من حسن الحظ المصريين أنهم قتلوا برفقة أجانب حتى تتبرأ ذمتهم من تهمة الإرهاب الجاهزة التي ربما كانت ستُلصق بهم لو كانوا وحدهم، ولن يجري في هذه الحالة تحقيقًا، وإنما سيبث المتحدث العسكري صورهم كدليل على جهود الجيش في مكافحة الإرهاب.
أما عن أصحابنا الدولجية الذي يتقرعون كؤوس الوطنية على ريق النوم، الذين يُسبحون بحمد الجيش ليل نهار من دون الله، فإنهم قبل ذلك لم يعتبروا قتلى سيناء من المدنيين سوى بعض “العناصر الإرهابية”، ولم يبدوا تعاطفهم، ولم يُطالبوا بتحقيق شفاف ونزيه، ولم يضعوا أي هامش به نسبة خطأ لعمليات الجيش، ولم يُصدقوا من الأساس أن جيشهم يقتل من المدنيين عشوائيًا بقصف الطائرات والمدافع أكثر مما يُقتل من المسلحين المستهدفين، وأنى هذا؟ وأهالينا في سيناء لا يحملون الجنسية المكسيكية كي يتباروا في الدفاع عنهم والمطالبة بحقهم، وقد يأتي لسان بعضهم الآن يقول “يا ليتني كنت مكسيكيًا فلا أموت فطيسا”.