مع اقتراب تصويت الكونجرس الأمريكي على مشروع الاتفاق النووي بين إيران والدول الست الكبرى، تزداد التساؤلات والتكهنات حول الصعوبات أو المعوقات التي قد تحول دون تطبيق الاتفاق، وقطع الطريق بذلك أمام محاولات تطبيع العلاقات الدبلوماسية بين إيران والولايات المتحدة مجددًا.
ومن خلال النظر في ملفات العلاقة بين البلدين في تاريخها المعاصر نجد أن هذه المعوقات والصعوبات تنبع مرة من عوامل موضوعية نتيجة الحسابات الداخلية لكل طرف على حدا، ومرة من خلال عوامل خارجية يفتعلها لاعبون آخرون يرون في هذا النوع من التقارب تهديدًا لمصالحهم القومية.
وفيما يخص العوامل الموضوعية تبرز محاولات التقارب التي حدثت نهاية الولاية الثانية للرئيس الأمريكي السابق بل كلينتون، حيث بعثت الإدارة الأمريكية برسائل تصالحية عديدة لإيران من أجل تطبيع العلاقات بين البلدين، جاءت أوضح هذه الرسائل على لسان وزيرة الخارجية الأمريكية حينها مادلين أولبرايت، والتي دعت فيها لوضع “خارطة طريق” لتحسين العلاقة مع طهران حيث قالت: “إننا مستعدون لسبر طرق جديدة من أجل بناء ثقة مشتركة وتجنب سوء الفهم، على الجمهورية الإسلامية أن تقوم بالمثل، إذا كان بالامكان لمثل هذه العملية الانطلاق والاستمرار في معالجة القضايا التي تهم الطرفين، إذن نحن في الولايات المتحدة يمكننا أن نرى إمكانية لوجود علاقة من نوع مختلف، في الوقت الذي نرى فيه جدار انعدام الثقة يتهاوى، فإننا يمكن أن نبني مع الجمهورية الإسلامية – إن هي أرادت ذلك – خارطة طريق تقود إلى تطبيع العلاقات، من المعلوم أن عقدين من انعدام الثقة لا يمكن إزالتهما بين ليلة وضحاها، الفجوة بيننا مازالت واسعة، ولكن الوقت قد حان لاختبار إمكانية ردم هذه الفجوة”، وقد أكد المعنى ذاته الرئيس كلينتون في تصريحه أثناء مبارة لكرة القدم جمعت الفريقين الأمريكي والإيراني في مونديال كأس العالم لعام 1998 عندما قال: “ونحن هنا نستمتع بمشاهدة الرياضيين الأمريكيين والإيرانيين، أود أن أعبر عن أملي بأن تكون هذه خطوة لوضع حد للتوترات بين بلدينا”.
كانت إدارة كلينتون وقتها قد وصلت إلى قناعة بأن سياسة الاحتواء المزدوج لم تكن ذات جدوى حقيقية، وأنه قد حان الوقت لالتقاط الرسائل التي أطلقها الرئيس الإيراني محمد خاتمي بخصوص حوارات الحضارات والانفتاح على الغرب على محمل الجد. وقد ترجمت الإدارة الأمريكية هذه التصريحات إلى خطوات عملية حيث أدرجت في أكتوبر من عام 1999 منظمة مجاهدي خلق المعارضة للنظام الإيراني على لائحة الإرهاب، وجمدت كافة أرصدتها، وفرضت عقوبة بالسجن على كل أمريكي يتعامل معها.
ولكنَّ هذه الرسائل التصالحية لم تجد لها صدى في طهران، فقد كان القائد علي خامنئي ومن خلفه التيار المحافظ يرى أن أي تقارب مع أمريكا سيعمل على تقوية التيار الإصلاحي، ولذلك فقد عرقل جهود التقارب بين البلدين، وما يدلل على ذلك أن وزير الخارجية الإيراني المقرب من خامنئي كمال خرازي والذي صاحب الرئيس خاتمي في زيارته الأولى إلى الولايات المتحدة قد تخلف عن اللقاء الذي رتبه له الأمين العام السابق للأمم المتحدة كوفي عنان مع وزيرة الخارجية الأمريكية أولبرايت لمناقشة أوجه العلاقة بين البلدين، وقد كان العذر سخيفًا! فالوزير الإيراني كان منشغلًا بالتسوق.
حدث التقارب الثاني والذي يُعد الأبرز في هذا السياق بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2002، وفيه يظهر أثر العوامل الخارجية في إعاقة مثل هذا التقارب بين الولايات المتحدة وإيران، بعيد هجمات سبتمبر أصبح من الواضح عزم الولايات المتحدة التحرك ولو بشكل أحادي ضد الذين استهدفوها، كان الهدف الأول أفغانستان، وبالطبع فقد كانت هناك مصلحة إيرانية في التخلص من حكم طالبان المتشدد، والذي تربطه علاقات سيئة جدًا مع إيران، لأجل تسهيل التعاون بين البلدين من أجل تحقيق هذا الهدف المشترك فقد تم فتح قناة خاصة في جنيف للحوار الإستراتيجي، واجتمع المندوبون الإيرانيون والأمريكيون وجهًا لوجة لأول مرة لمناقشة تفاصيل التعاون من أجل إتمام المهمة، كان لإيران دور حاسم في نجاح الاحتلال الأمريكي لأفغانستان، ليس على الجانب العسكري فقط، بل وعلى الجانب السياسي أيضًا، ظهر ذلك جليًا في مؤتمر بون الذي انعقد في ديسمبر 2001، فقد أقنع المندوب الإيراني حينها جواد ظريف ممثل تحالف الشمال الأفغاني بالموافقة على العرض الأمريكي وذلك بقبول بـ 16 وزارة بدلًا من 18 كما كان يطالب تحالف الشمال، وهو ما أنقذ المحادثات من الانهيار، وقد كانت تكلفة هذا الانهيار وخيمة على الولايات المتحدة لو حدث.
غير أن النتيجة بعد هذا التعاون وهذه الملاطفة من قِبل إيران للولايات المتحدة كان الخطاب الشهير للرئيس الأمريكي بوش الابن في 29 يناير 2002 والذي صنف فيه إيران في محور الشر مع كل من العراق وكوريا الشمالية، أصيب التياران المؤيدان للحوار في كلا البلدين بخيبة أمل كبيرة، فالتيار الإصلاحي في إيران، وفريق وزير الخارجية كولن باول في وزارة الخارجية الأمريكية قد اعتقدا أن قناة جنيف ربما تقود – لو استمرت – إلى حوارات إستراتيجية في مواضيع أخرى عالقة بين البلدين، كالملف النووي، وذلك في سبيل ترميم العلاقات بين البلدين بشكل نهائي، يصف ظريف خيبة الأمل هذه بالقول: “في غضون أيام قليلة، تحولت سياسة التعاون إلى سياسة مواجهة، ولا تزال (كارين أيه) لغزًا ظهر في الوقت المناسب بالنسبة إلى الأشخاص الذين أرادوا منع حدوث تقارب أمريكي إيراني”.
و”كارين أيه” هي السفينة التي ضبطتها البحرية الإسرائيلية في المياه الدولية في البحر الأحمر في 3 يناير 2002 وادعت أنها سفينة إيرانية تحمل أسلحة إلى السلطة الفلسطينية وذلك أثناء انتفاضة الأقصى، وقد اتخذ المتشددون من المحافظين الجدد في إدارة بوش وعلى رأسهم نائب الرئيس ديك تشيني، ووزير الدفاع رونالد رامسفيلد ومن ورائهم اللوبي اليهودي هذه الحادثة ذريعة للانقلاب على حورات التقارب التي تجري بين واشنطن وطهران، يجب ألا ننسى أن جماعات الضغط اليهودية في الولايات المتحدة كانت من أشد المتحمسين والداعمين لاستمرار سياسة الاحتواء لإيران وفرض مزيد من العقوبات عليها والاستمرار في عزلها.
لا أحد يجادل بأن التقارب الإستراتيجي بين الولايات المتحدة وإيران يضر بالمكانة الإستراتيجية لإسرائيل سواء في المنطقة أو في السياسة الأمريكية، عندما يكون هناك دولة عظمى وحيدة في العالم يكون المنطق في ضمان الأمن وتحقيق المصالح القومية للدول الأخرى متوسطة القوة بالتقارب منها ومجاراتها وليس بمنافستها واستدعاء الأحلاف عليها، وهذا المنطق بالذات الذي كانت تتنافس عليه كل من إيران وإسرائيل، لتحقيق النفوذ في المنطقة كان لا بد من اعتراف من الولايات المتحدة، وهذا ما كنت تسعى إيران لاكتسابه، وتسعى إسرائيل للحفاظ عليه ومنع ضياعه.
ربما تكون الحاجة ملحة للاتفاق من أجل إحداث اختراق في تطبيع العلاقات بين الولايات المتحدة وإيران نظرًا للبيئة السياسية شديدة التحول في منطقة الشرق الأوسط، ولكن تبقى العوامل الموضوعية والمؤثرات الخارجية حاضرة بقوة؛ فالخلافات بين الإصلاحيين والمحافظين أو بين الديمقراطيين والجمهوريين من جانب، مازالت حاضرة، واللاعبون الإقليميون المتضررون من الاتفاق وعلى رأسهم إسرائيل من جانب آخر يضعون ثقلهم لعرقلة الاتفاق ووضع حد لأي نوع من التقارب بين البلدين، بالنسبة لإسرائيل لا يتعلق الأمر فقط بقدرات إيران النووية بل في قدراتها الجيوإستراتيجية التي ستشكل ثقلاً موازيًا أو حتى متفوقًا على الثقل الإسرائيلي.
لا أحد يمكن أن يتنبأ بمجريات العلاقة بين واشنطن وطهران نظرًا للسجل الطويل من التوتر وانعدام الثقة، ولذلك يبقى مستقبل هذه العلاقة مفتوحا على كافة الاحتمالات.