كثيرة هي الأفكار التي تتزاحم في دواخلك، عندما تكون حاجًا أو معتمرًا من فلسطينيي 48، بدءًا من عقدك النية على السفر مرورًا بمراحل تسجيلك وانتظارك، ثم السفر نفسه وخلاله، فأنت لا تشبه غيرك من المسلمين، أو على الأقل لا تشبه غيرك من أبناء قومك.
صحيح أن حجاج غزة يعانون الأمرين نتيجة الحصار وغلق مصر لأبواب معبر رفح في وجوههم، فلا تفتحه إلا عندما يستوي الحاج على سوقه ويتقلب تحت أشعة الشمس أيامًا طوال، بينما يتعين على حجاج الضفة الغربية المرور بحواجز ثلاثة (إسرائيل، السلطة، الأردن) فمن اجتازها اطمأن على حجه، أو يكاد، لكن ثمة ما يجعل معاناتك تبدو مختلفة، هي على الأكثر معاناة تحمل طابعًا معنويًا.
الساعة العاشرة صباحًا بتوقيت القدس المحتلة، تلك كانت ساعة الانطلاق إلى الأردن، نقصد وزارة الأوقاف ثم مطار الملكة علياء في العاصمة عمان للانتقال إلى مطار جدة على متن طائرة أردنية تقلنا، أرافق وفدًا رفيعًا يمثل بعثة الحج الرسمية المنبثقة عن لجنة التنسيق المشتركة لمسلمي 48، بالمناسبة وحدنا طبعًا من بين المسلمين يشار إلينا بالأرقام.
عندما تكون رقمًا، تصبح السبل أمامك ذات شكل مختلف، وتحمل الأشياء معان أخرى، لا يشبه الرقم الإنسان في شيء، الأرقام أكثر تحملاً لساعات الانتظار، وأكثر قدرة على الحسابات.
أفكر بلسان مئات الآلاف من آبناء شعبي، ترى لماذا أجدني مضطرًا لكل ساعات السفر هذه، أم لماذا أسافر عبر أجواء دولة أخرى، لماذا اضطر لتبديل جواز سفري، كيف اعتقلت أجوائي، وتم التلاعب بساعاتي وأيامي التي تذهب هدرًا؟ تلك تساؤلات اللحظة الأولى، التي لا تصل إلى إجابة عليها، إلا لدى وصولك إلى معبر ”جسر الشيخ حسين”، تلقي بنظرة من هناك على بساتين النخل في بيسان، وما تبقى من خيال أهلها القديم يراوح فوق أطلال منازلهم التي لم يتبق منها سوى حجرين أو ثلاثة، ونافذة بين الأرض والسماء معلقة، ساعتها تتمثل الإجابة عن تساؤلاتك على شكل مشهد ذو لسان، إن سالته يبين.
في المعبر الإسرائيلي، لا وقت للانتظار، إجراءات تبدو سريعة، دقائق معدودة، فالإسرائيلي يحتفظ بأسئلته عادة لدى عودتك إليه، ثم ما تلبث أن تكون قبالة أبواب الأردن تقرعها، لا وقت هناك أيضًا يذهب هدرًا، تختم جوازك بسرعة، تمر على التفتيش، تمتطي سيارتك مرة أخرى، لحظات، لقد أصبحت في دولة أخرى، دولة لا يصرح لك بزيارة مكة إلا من خلالها، ولن تمر في أجواء السعودية إلا عبر أجوائها، أما تلك الطريق التي سلكها البراق، طريقك أنت، سبيل مكة – القدس، فهي معتقلة في طي النسيان، لم يسبق أن مرت في أجوائها طائرة، إلا تلك الحربية المضرجة بالبارود.
في وزارة الأوقاف الأردنية، التي وصلنا إليها بعد سفر مقداره ساعة ونصف الساعة بالسيارة تقريبًا، لم نتلق إلا معاملة جيدة، نحن حجاج 48 هكذا يطلق علينا، وهكذا نطلق نحن على أنفسنا، فعلى الرغم من العاصفة المغبرة الهوجاء التي تضرب عمان في هذه الأثناء، وتضرب معها قدرة الأشخاص على التحمل، إلا أننا حظينا باستقبال جيد هنا، لكن الاستقبال الجيد لا يعني أنك ستمر بسرعة تشبه تلك التي اخترقت بها الحواجز.
لا تقيم المملكة العربية السعودية علاقات مع تل أبيب، ونتيجة لذلك، يسمح لنا نحن الذين نحمل جوازات السفر الإسرائيلية بزيارة مكة والمدينة المنورة فقط، بموجب مكرمة ملكية، شريطة ألا ندخل الحجاز بجوازنا الأزرق، الذي يحمل رسم الشمعدان، وينطق بالعبرية، من أجل ذلك، تمنحنا الأردن جواز سفر أردني مؤقت محدود الزمان والمكان والوجهة، ننضوي تحت لوائها، وندرج تحت قائمة الحجاج الأردنيين، أرقام أخرى تضاف إلى القائمة، وبالمناسبة علمت أن عدد حجاج مسلمي 48 لهذا العام يصل الى نحو 3600 حاج.
في هذا الخضم المتلاطم من الإجراءات، لا يسعك إلا أن تنتظر، ظنناها ساعة فصارت يومًا كاملاً، وها نحن نرقبها بحذر، خشية من تحولها إلى يومين، ويبدو ذلك على الأرجح بمثابة الأمر الواقع.
كصحافي مرافق تبدلت حساباتي كلها، لن أصل مكة قبل الحجيج كما ظننت، ولن تكون الأرض ممهدة بسهولة للقيام بالمهمة غير السهلة، فمشهد الوصول الأول كان يعني الكثير لدي، بيد أن للانتظار هنا في عمان مع المنتظرين، والصبر والجلد على الانتظار معهم، لون مختلف، فنحن كما علمت ”لا نملك من أمرنا شيئًا” كما أخبرني مصطفى عازم المدير العام للجنة التنسيق، عازم معتاد على الانتظار كما يظهر، يتسم الرجل بشخصية تبدو ذات قدرة على التحمل، أو لعلها الظروف من جعلته كذلك، فلم يدخر الكثير من الجهد لحجز فندق نبيت فيه، ولحسن الحظ وقع الاختيار على فندق ”القدس” في قلب عاصمة الانطلاق عمان، وعلى الرغم من ذلك، ورغم أنني لا أعلم موعد السفر إلى مكة في هذه الأثناء، وبينما يسعى البعض منا بمشقة لترتيب الأوراق في وزارة الأوقاف الأردنية، ويمكث البعض الآخر في قاعة للاستقبال في فندق القدس ينتظرون بلهفة، إلا أن شعورًا بالسعادة تسلل إلى نفسي وأنا اكتب لكم في هذه الأثناء، ليس لأننا ارقام، وليس الأمر متعلقًا بمشقة العثور على الرقم في ظل تزاحم الجوازات، ليس غبار عمان ما يسعدني، ربما فقط لأنني سأنطلق إلى مكة اليوم أو غدًا من فندق يحمل اسم القدس.
نُشر هذا المقال لأول مرة في موقع فلسطينيو 48