تتواصل في تونس تداعيات مشروع القانون الذي اقترحه الباجي قائد السبسي بخصوص تسوية محتملة مع كبار موظفي الدولة ورجال الأعمال ممن تورطوا في جرائم تتعلق بالفساد المالي والتهرب الضريبي، فبعد أن انحسر الحديث في مرحلة أولى حول دستورية هذا القانون وإمكانية سحبه للبساط من تحت أقدام هيئة الحقيقة والكرامة المكلفة دستوريًا بتنزيل مشروع العدالة الانتقالية، تحول في مرحلة لاحقة إلى سجال سياسي بين أطراف الحكم والمعارضة في البلاد، بين من يعتبر أن المصالحة ضرورية لغلق باب الماضي ومن يعتبر أن هذه العملية يراد بها تبييض رجال الأعمال الذين دعموا نداء تونس، الحزب الحاكم، في الحملة الانتخابية الأخيرة.
وقد مثلت التظاهرة التي نظمتها فعاليات مختلفة من جمعيات وأحزاب في شارع الحبيب بورقيبة بالعاصمة تونس أولى التحركات الميدانية الهادفة لإسقاط هذا القانون، ورغم أن التحرك شهد اختلاف العادة بين أطراف المعارضة حيث اختارت الجبهة الشعبية منفردة افتتاح التحرك الاحتجاجي مع الساعة الثانية بعد الزوال، في حين اختارت أحزاب تنتمي للعائلة الاجتماعية أن تنزل للشراع في نفس اليوم ونفس المكان مع الساعة الرابعة بعد الزوال، وهو ما أفرز مشهدًا شاحبًا لم يرتق كمًا وعددًا لمرتبة الضغط الشعبي الحقيقي القادر على تغيير شيء على أرض الواقع.
وبعيدًا عن السجال الحقوقي والدستوري من جهة، ومحاولات تحريك الشارع كورقة ضغط من جهة أخرى، تلوح الحاجة لوضع الملف في إطاره الحقيقي وهو الإطار الاقتصادي؛ صاحب المبادرة التشريعية يقول بأن المبادرة ستفضي لعملية إنعاش اقتصادي من خلال ضخ الأموال المهربة العقوبات المالية التي حددها القانون، لكنه لم يقدم إلى الآن دراسة علمية شافية وضافية يمكن أن تنهي جانبًا من جوانب السجال القلق الذي أفرزه القانون مثار الجدل.
حول الوضع الاقتصادي الحالي في تونس
البحث عن إجابة منهجية لسؤال “هل نحتاج لمثل هذا القانون” تمر ضرورة عبر استقراء مختلف المؤشرات المتعلقة بالاقتصاد التونسي وموازناته العامة؛ آخر التصريحات التي تكشف حقيقة الوضع الاقتصادي في تونس كانت على لسان المستشار لدى رئيس الحكومة المكلف برئاسة مجلس التحاليل الاقتصادية، توفيق الراجحي، حيث اعتبر أن الوضع الاقتصادي في تونس صعب، خصوصًا بعد دخوله في مرحلة الانكماش التقني.
وأفاد الراجحي في تصريح صحفي بأن المجلس أكد على الدور الهام للاستثمار، واستكمال إنجاز المشاريع العمومية، والتقليص من حدة المفاوضات الاجتماعية، وإيجاد توافق وطني حول الإصلاحات الكبرى، مؤكدًا أيضًا ضرورة إيلاء أهمية كبرى لقطاع الطاقة، وتأسيس مركز للتخطيط الإستراتيجي في تونس، لإنعاش الاقتصاد الوطني والخروج من مرحلة الانكماش التقني.
وفسر الراجحي مصطلح “الانكماش التقني” بتراجع نسبة النمو خلال ثلاثيتين متتاليتين، حيث سجل الناتج المحلي الإجمالي خلال الثلاثي الثاني من السنة الحالية، تطورًا سلبيًا بـ 7.0% مقارنة بالثلاثي السابق، بعد تراجع بـ2.0% في الثلاثي الأول، معتبرًا أن هذه النتائج تفيد بأن البلاد لم تعد قادرة على خلق ثروات، الأمر الذي يؤدي آليًا إلى تراجع الاستثمار وتفاقم البطالة، نافيًا أن تؤدي مرحلة الانكماش الاقتصادي إلى إفلاس الدولة.
وعن الحلول التي يعتبرها مناسبة للخروج من الواقع الاقتصادي الذي وصفه بـ “السيء”، قال المستشار إنه على الدولة الدخول بكل شجاعة ومسؤولية في الإصلاحات الكبرى، والعمل على التقليص من حدة المفاوضات الاجتماعية، ودعم السياحة الداخلية، فضلاً عن الاستفادة من تراجع أسعار المحروقات في الأسواق الدولية، وتوقع الراجحي استقرار نسبة النمو الاقتصادي في حدود صفر فاصل 5 بالمائة رغم صعوبة الوضع الاقتصادي الذي عاشته البلاد خلال الثلاثيتين الأوليين من العام الحالي.
وبالرجوع إلى أدبيات العلوم الاقتصادية، قد يعقب هذا الانكماش التقني ما يعرف بالانكماش المالي وهو عبارة عن انخفاض متواصل في أسعار السلع والخدمات في كافة جوانب اقتصاد الدولة، وهو عكس التضخم المالي، وأسوأ منه من ناحية النتائج والآثار، إلا أنه نادر الحدوث.
ماهي شروط تحقيق نهوض اقتصادي؟
وقبل الخوض في المردودية المنتظرة من هذا القانون، من المهم أن نتطرق للشروط العامة لتحقيق النهضة الاقتصادية في أي بلد، وتتلخص هذه الشروط في تحقيق الاستقرار الأمني وتنقية مناخ الأعمال والانطلاق في إنجاز الإصلاحات الضرورية في شتى المجالات الاقتصادية والمالية وإعادة النظر في العديد من المنظومات المتعلقة بالاستثمار والجباية والجهاز المالي والبنكي وحوكمة المؤسسات.
فعلى المستوى الأمني، لازالت تونس تعاني من هاجس الاستقرار خاصة مع تواصل الحرب على الإرهاب وهو ما يمثل عائقًا مهما أمام تطور نسق الاستثمار في تونس، خاصة بعد العمليات الإرهابية التي شهدتها باردو ومنتجع القنطاوي الساحي بمدينة سوسة، وهو ما سيربط تطور نسق الاستثمار بتحقيق نجاحات أمنية من الحجم الثقيل الكفيلة ببعث رسائل طمأنة للداخل والخارج على حد سواء.
وعلى مستوى تنقية مناخ الأعمال، يمكن اعتبار هذا القانون أحد سبل تحقيقها لكنه يبقى غير كافٍ، باعتبار أن تحقيق ذلك يمر أيضًا عبر الانطلاق في إرساء قواعد الحوكمة الرشيدة خاصة في الإدارات العمومية، وتبسيط الإجراءات الإدارية المعقدة، دون إغفال ملف مقاومة التهريب والحد من المضاعفات السلبية للاقتصاد الموازي، إضافة إلى الحاجة إلى تحقيق حالة من الإجماع الوطني حول البرنامج الاقتصادي للدولة وهو ما لن يتوفر دون إطلاق حوار وطني حول الخيارات الإستراتيجية الاقتصادية.
أما فيما يخص الإصلاحات الكبرى، يجمع خبراء الإقتصاد سواء في تونس أوفي الخارج على ضرورة الانطلاق في إصلاحات عميقة وهيكلية للاقتصاد التونسي، وهو ما انطلقت فيه الحكومات السابقة بنسق بطيء وغير كافٍ، ومن بين هذه الإصلاحات الأساسية نذكر الإصلاحات في مجال التمويل والجباية والمؤسسات العمومية والصناديق الإجتماعية ومنظومة الدعم وحوكمة المالية العمومية.
كل ما سبق يبين أن قانون المصالحة يمثل نقطة من بين نقاط كثيرة يحتاجها الاقتصاد التونسي ليتعافى، وهو ما يدفع المتبنين له لتنسيب انتظراتهم منه.
عين على تجارب مماثلة
عديدة هي التجارب المحلية والدولية المماثلة التي طرحت فيها قوانين شبيهة لهذا القانون الذي أثار جدلاً واسعًا في تونس، فبالرجوع بالتاريخ قليلاً، نجد أن التونسيين مروا بقوانين تعلقت بإسقاط الخطايا والعقوبات المالية المرتبطة بمخالفات مالية وجبائية مع إسقاط التتبعات العدلية المرتبطة بهذه المخالفات، وكان ذلك في سنوات 1997 و2002 و2004 و2006؛ تجارب لم تدم سوى أشهر ولم يكن لها مردودية تذكر في علاقة بتنمية الموارد المالية للدولة أو على مستوى مخزونها من العملة الصعبة.
هذا وقد مرت دول أخرى بتجارب مثيلة، من بينها المغرب الذي سن سنة 2014 قانونًا مشابهًا، وأشارت الانتظارات وقتها إلى إمكانية حصول خزينة الدولة على 40 مليار يورو كمداخيل من العملة الصعبة و500 مليون يورو من المداخيل الجبائية، ولكن النتيجة انحصرت في 1.2 مليار يورو من المداخيل من العملة الصعبة عند تطبيق العفو عن مخالفات الصرف (3% من التوقعات) و210 مليون يورو كمداخيل جبائية (42% من التوقعات)، ولم تكن تجارب كلاً من بلجيكا سنة 2010، إسبانيا سنة 2012، إيطاليا سنة 2014 وألمانيا وكندا والبرتغال أفضل حالاً من حيث المردودية.
بحسب التقديرات الأولية، قد يشمل مشروع القانون حوالي 300 موظف عمومي وبضع عشرات من رجال الأعمال، ورغم عنوانه العريض الذي قد يبدو إيجابيًا، تتلخص مشكلة هذا القانون في أنه يجيز العفو على أشخاص احترفوا الوقوع في مخالفات مالية وإيجابية وتعودوا على الاستفادة من قوانين مشابهة، وهو ما سيتيح لهم إخفاء جانب هام من أخطائهم ودفع أقل بكثير مما يجب دفعه، باعتبار أن القانون يقوم على مبدأ الإفصاح وليس على مسار شامل يرتكز على التدقيق والمساءلة، وهو ما قد يوقع الدولة في خطيئة ترسيخ ثقافة الهروب من العقاب.