استمرت اجتماعات باريس لأيام، تلك الاجتماعات التي شاركت فيها الجبهة الثورية السودانية المعارضة، والتي تضم الحركة الشعبية قطاع الشمال، والحركات الدارفورية المعارضة المسلحة مع عدد من المبعوثين الدوليين من الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا والاتحاد الأوروبي والاتحاد الأفريقي، وقد انتهت هذه الاجتماعات بنتائج شبه إيجابية تحمل خارطة طريق لوقف القتال بين الحكومة السودانية والمعارضة المسلحة مدة ستة أشهر لأغراض إنسانية.
هذا بعدما وافقت الجبهة الثورية التي تقاتل الحكومة السودانية على ثلاث جبهات على هذا المقترح الذي يشكل وقف العدائيات بين الجانبين لمدة تصل إلى ستة أشهر، كما أكدت الجبهة قبولها بمبادرة الحوار الوطني شريطة عقد المؤتمر التحضيري بالعاصمة العاصمة الإثيوبية أديس أبابا، مع توفير حزمة من الضمانات قبل الدخول في الحوار.
وقد وقع مالك عقار رئيس الحركة الشعبية لتحرير السودان الشمالي على هذه الخارطة المستقبلية، والذي صرح أن إنفاذها يجب أن يسقبه تنفيذ عدة متطلبات، فيما أشار إلى أن الغرض الرئيسي من وقف القتال هو إيصال المساعدات الإنسانية، وحماية المدنيين، وتهيئة الأجواء أمام الحوار الوطني.
يذكر أن الحكومة السودانية تقاتل فصائل الجبهة الثورية في دارفور منذ العام 2003، كما يخوض الجيش السوداني معارك طاحنة مع الحركة الشعبية لتحرير السودان ـ شمال، في كل من ولايات النيل الأزرق وجنوب كرفان منذ العام 2011، في حين لم تفلح نحو ثمان جولات تفاوضية في وضع حد لتلك الحرب.
نصت خارطة وقف إطلاق النار التي خلصت إليها الاجتماعات المنعقدة في باريس منذ الأسبوع الماضي، على دخول فوري لجميع الأطراف في وقف أي عمليات قتالية في مناطق الحرب عقب التوقيع على هذا الاتفاق المقترح، على أن تكون الجبهة الثورية بما فيها جميع الحركات المنضوية تحت لوائها طرف أول في هذا الاتفاق، والحكومة السودانية طرف ثاني بكل تشكيلاتها العسكرية النظامية وغير النظامية كالقوات المسلحة والمليشيات المرتبطة بها من جماعات الجنجويد وقوات الدعم السريع والاحتياطي المركزي وحرس الحدود وقوات الشرطة والدفاع الشعبي.
هذا ويلتزم الطرفان بالسيطرة على كافة قواتهم من أجل الأغراض الإنسانية في حيز النطاق الجغرافي الدائر به القتال في جنوب كردفان والنيل الأزرق ودارفور، كما يضمن الطرفان تهيئة الظروف المناسبة لوصول المساعدات للسكان بدون أي عوائق وتوفير حرية الحركة والمرور لوكالات الإغاثة الإنسانية للوصول إلى المتضررين في مناطق الصراع وفقًا للقواعد الدولية.
كما سيتم إنشاء لجنة مشتركة لمراقبة تنفيذ هذا الاتفاق بكافة بنوده، تتكون من أطراف النزاع بجانب ممثلين من الاتحاد الأفريقي، ومنظمات الأمم المتحدة، وكذلك البعثة الدولية في دارفور “يوناميد” واليونيسف في أبيي، وقد أوكل لهذه اللجنة المشتركة مهمة رصد تنفيذ الاتفاق ومدى الالتزام به، بما في ذلك الإشراف على عملية إيصال المساعدات الإنسانية، والتحقق من امتثال كل طرف للاتفاقية وعدم القيام بأعمال من شأنها أن تخرق هذه الهدنة.
فتح هذا الاتفاق الطريق أمام الدخول في عملية سلام شاملة بين الحكومة السودانية والجبهة الثورية تحت مظلة أممية، تزامنًا مع عرض الرئيس السوداني عمر البشير خلال شهر أغسطس الماضي، لوقف إطلاق النار، وذلك لضمان تهيئة الأجواء أمام مبادرة الحوار الوطني التي تتبناها حكومة الخرطوم منذ شهر يناير الماضي.
وعلى الجانب الآخر أبدت الجبهة الثورية مرونة واستعدادًا للدخول في عملية السلام هذه بإشراف مجلس الأمن والاتحاد الأفريقي، ولكنها في نفس الوقت ساقت عدة مطالب أولية للمضي في هذا الاتجاه للمشاركة في الحوار الوطني الذي دعا إليه البشير، في مقدمتها عقد مؤتمر تحضيري وفقًا لقرارات مجلس السلم الأفريقي لوضع ترتيبات شاملة لانطلاقة الحوار والاتفاق على إجراءاته، وذلك لضمان الجدية من جانب الحكومة.
يُفسر هذا على أنه تغير في مواقف الجبهة لتصبح أكثر مرونة من ذي قبل، إذ كان موقف الحركة والجبهة مغايرًا لهذا قبل شهرين حينما ذهب مالك عقار إلى أديس أبابا ونفى ذهابه بغرض التفاوض مع الحكومة السودانية، وأكد أن وفد الحركة ذهب إلى هناك بدعوة من مندوب الامم المتحدة لبحث المبادرة الثلاثية لتوصيل الطعام لجبال النوبة والنيل الازرق، وهو ما تم.
وقد أكدت الحركة مرارًا أنها لن تقبل بالحلول الجزئية من جانب الحكومة السودانية، حيث تتمسك بحل مشكلة الحركة والسودان كليًا من خلال إجراءات عاجلة لإظهار حسن النية من الحكومة في مقدمتها الرجوع لاتفاق أديس أبابا الإطاري الذي وقعته الحكومة السودانية وألغاه البشير بعد ذلك، وإجراءات عملية أخرى كرفع الحظر عن الحركة الشعبية ، وإطلاق سراح أعضاء الحركة بما فيهم المحكوم عليهم بالإعدام.
وبالفعل أحرزت الاجتماعات الأخيرة بعض من التقدم في هذا الجانب بعدما تحدثت خارطة الطريق عن تهيئة المناخ لإجراء الحوار الوطني برفع القيود عن الحريات، وإطلاق سراح المحكوم عليهم من المعتقلين السياسيين، وإلغاء كافة القوانين المخالفة للدستور، كذلك طالبت الاجتماعات الحكومة السودانية بالسماح للجبهة الثورية بممارسة أنشطتها في السودان بشكل طبيعي فور الدخول في حيز تنفيذ الاتفاق.
لا أحد يعلم ما هو مدى التزام الطرفين بهذه الخارطة التي ربما لا تخرج عن كونها هدنة إنسانية لا سياسية، لأن تنفيذ هذه الشروط من الجانبين من شأنه أن يُنهي هذا الصراع بشكل كلي، لكن مصير الاتفاقات السابقة في هذا الصدد لا يحمل من المبشرات الكثير بشأن إنفاذه كليًا، ولكن البعض يرى أن الضغط الدولي لإنهاء الأزمة الدافورية قد يكون أحد المحفزات لإتمام هذا الاتفاق.
وعلى أي حال فإن هذا الاتفاق يحمل بارقة أمل لسكان دارفور في تخفيف وطأة الحرب عنهم ولو إلى حين، فمنذ بداية الصراع في دارفور منذ 11 سنة والأوضاع الإنسانية للسكان متدهورة بسبب القتال الدائر بين القوات الحكومية والميليشيات الموالية لها وجماعات المعارضة المسلحة، وهو ما خلق موجة نزوح واسعة النطاق، حتى أنه منذ عامين أتت تقديرات الأمم المتحدة تتحدث عن تسبب أعمال العنف بأنحاء دارفور في نزوح أكثر من نصف مليون شخص، وبالتأكيد مثل هذه الهدنة ستعطي فرصة لإنقاذ الأوضاع الإنسانية المزرية في الأقاليم التي تشهد حربًا لا تتوقف.