نحتاج لمصر اصطفافًا مجتمعيًا لا سياسيًا

2129582013724867

حلمنا بالتغيير منذ 2005، كان المجال العام مفتوحًا نسبيًا للنشاط الاجتماعي والثقافي والشبابي والتنموي وأيضًا للسياسي، كان أفق الإصلاح يبدو ممكنًا بالانتخابات والتظاهرات والعمل النقابي والحقوقي والقانوني والإعلامي، فلما ضاقت الخيارات اتسعت بالحراك الجبهوي والوطني والأمل المشترك الذي لم يكن ثمرة جماعة وطنية حقيقية ولا حوار جاد، كانت عوامل الإخفاق حاضرة أيضًا لكن طوفان الأمل جرفها مع طوفان البشر الزاحفين نحو التحرير.

كنت في ميدان التحرير أعيش حلم طال انتظاره وأتى على غير موعد لكنه لم يخل من منغصات، أحد رموز المعارضة حينها كان ينظر بقلق شديد تجاه أغلبية الإسلاميين التي تملأ الميدان (كما قال)، لاحقًا بصريح العبارة أضاف إن مصر لا يمكن أن تحكم إلا بنخبة أقلية مثقفة بما جعل موقعه في صدارة مشهد الثورة المضادة والانقلاب العسكري الذي حدث بعد عامين ونصف مضمونًا بالتأكيد، من الثورة إلى الثورة المضادة لم يشعر أبناء الدولة سواء كانوا في الحكم أو المعارضة بفارق كبير؛ كانوا في 2011 مع حماية الدولة بإسقاط مبارك وهم الآن مع حماية الدولة برحيل مرسي ولو كانت التكلفة آلاف الشهداء وعشرات آلاف المعتقلين وعسكرة السياسة والحياة العامة ومصادرة حق الناس في الاختيار والعيش الكريم.

نحن الآن صرنا أكثر وعيًا بكثير من أيام يناير وما بعدها، وصيغة الاصطفاف التي أعتقد أنها تصلح لتغيير الحكم العسكري واستبداله بنظام سياسي مدني ينتمي للثورة ويأتي بإرادة الناس واختيارها لن تكون تكرارًا لنموذج 25 يناير الذي أدى دوره بنجاح ولم يعد قابلًا للإعادة، بل نحن نبحث الآن عن اصطفاف اجتماعي في المقام الأول كما لم يحدث من قبل.

لم يجد أبناء الثورة في النخب السياسية ثقة كافية وشرعية تمثيل لازمة ورغم ذلك لم ننجح في تقديم بديل قيادي مناسب وربما تعود الأسباب للتجريف الاجتماعي الذي رعاه نظام يوليو وحتى مبارك وغياب النقابات والمحليات ومؤسسات المجتمع المدني وأبنية المجتمع التقليدية من الأوقاف والجمعيات والتجمعات الأهلية، نحن نحتاج للانحياز للمجتمع وتمكينه والاصطفاف معه على حساب “هيبة الدولة” وسلطويتها وتسلطها واحتكارها للحق والقوة والقانون، تقف مؤسسات الدولة هذه المرة عارية تمامًا عن كل شرعية أخلاقية ودستورية وثورية إلا الأمر الواقع الذي تفرضه بقوة السلاح، نحتاج للنظر في دور المؤسسات الوسيطة والبديلة خاصة مع الفشل الحكومي المتصاعد وتحول جهاز الدولة بكامله لمهمته الأصلية وهي ممارسة القمع والعنف ضد أجيال التغيير والثورة.

تبقى الثورة مستمرة إذا كان هناك اجتهاد وتجديد ثوري في مسارها لبناء صيغة جديدة يحتل فيها الاصطفاف الاجتماعي أولوية وبتضامن المظلومين ضد ظالمنا الوحيد وبتعاون أبناء سيناء المهجّرين مع أبناء الصعيد والمحافظات الحدودية المهمشين وشباب القاهرة الكبرى المقهورين مع ريف الدلتا الذي يعاني من غياب الخدمات الآدمية صحة وتعليمًا، مع أبناء الشهداء طوال سنوات الثورة وعوائل المعتقلين بعد الانقلاب ودوائر المحكومين بقضاء العسكر والمضّارين من الحكم العسكري وهم كل المصريين بما في ذلك الذين يقتلون حرقًا وغرقًا وإهمالًا وتجويعًا وإفقارًا بغير حق إلا أن ننتزع الحقوق بكرامة من القتلة والسراق والمفسدين.

موقفنا ليس جغرافيًا ولا أيديولجيًا ولكنه أخلاقي إنساني في المقام الأول؛ ونحن طالما انتمينا لهذه الثورة فإننا نقف على أرضية متصلة بالتراث ومتصلة بالحداثة بلا تعارض، نحن نجمع في موقفنا بين صحيح التراث وسليم الحداثة ونواجه تزييف التراث أو الاستبداد باسم الدين كما تفعل المؤسسات الدينية الرسمية (الأزهر والكنيسة) وغير الرسمية (دعاة جدد وشيوخ طرق صوفية وسلفية) بانحيازهم للرجعية والتخلف العسكري والاستبداد الدموي عدو الأخلاق والدين والإنسانية، كما نواجه تزييف الحداثة أو الاستبداد باسم التقدم والتنوير كما تفعل نخب الثقافة والفن والسياسة العربية التي تنحاز لخيارات سلطوية جاهلية حتى تمارس هوايتها في الوصاية على الناس والأغلبية التي تزدريها بدعوى التحديث والتقدم والمدنية والتنوير وترمي مجتمعاتنا بعدم الأهلية لتضمن عدم تمكين إرادة الناس وتصادر حقهم في الاختيار والعيش الحر، المفارقة الجديدة كانت في قدرة النخبتين الاستبداديتين – رغم كل الخلافات المدعاة بينهما – من الاندساس في الثورة أولًا ثم الانحياز للثورة المضادة وللانقلاب العسكري الذي جمع بين أسوأ ما في التراث والتاريخ وأسوأ ما في الحداثة والواقع فجمع الفتنة إلى الصراع الأهلي، والتغلب الجبري إلى السلطوية العسكرية، والعنف الفكري إلى العنف المادي ؛ بينما كان صفنا الثوري في هذا الموقف يجمع بين الموقفين الديمقراطي والأصولي والشرعيتين الدينية الأخلاقية والسياسية الدستورية، في وحدة عملية متقدمة حتى على الحالة الفكرية والنظرية السائدة التي ظلت أسيرة الثنائيات، كنا أكثر تحررًا حتى في الخيارات العملية لم نتصلب أمام الخيارات والمسارات العملية ورأينا أن توزيع المساحات وتقاسمها أولى من تنازعها وتناقضها، كان الإصلاح خيارًا ممكنًا ولما أفلس انتقلنا للثورة بلا قطيعة ولا انفصال.

ليس لدينا تناقض ولا تضارب ولا ادعاء، نحن ندافع عن حقوق الناس في الاختيار وحقوق الإنسان والعيش الكريم بينما هم يمارسون الاستعلاء والوصاية والاحتقار للشعب ولعموم المجتمع، ونحن ننحاز للمجتمع والتعايش بينما انحازوا هم للسلطة وللعنف الأهلي، نحن نرى الحل في تمكين المجتمع وهم يرون الحل في تمكين العسكر من رقاب ومعايش البلاد والعباد، نحن ننحاز لحركة التاريخ وللوجه المضئ من حركات التحرر والتحرير والحرية وهم ينحازوا للوجه المظلم من تاريخ الديكتاتوريات والأنظمة العسكرية الفاشلة والعدو الإسرائيلي، نحن عشنا انتصارات وانكسارات مختلفة على مدار العشر سنوات الماضية ضمن مسار تغييري متصل لكننا لم نيأس بعد ونعرف أن الطريق ليس قصيرًا وأن الثورة ليست نزهة ولا مزحة .. تمامًا كما يعرفون!