اللاجئون عبء على أوروبا، هذا ما يقوله أعداء استقبال القارة العجوز للمهاجرين يوميًا عبر منابرهم المتمثلة في الأحزاب والحركات اليمينية والفاشية من ألمانيا وفرنسا إلى المجر وبلغاريا، بيد أن المفارقة، كما سنكشف في هذا التحقيق المنقول عن مجموعة “ملفات المهاجرين” The Migrants Files، هو أن جهود المؤسسات الأوروبية لمنع دخول اللاجئين تحولت إلى بزنس وتجارة تدر ملايين، وهي ملايين تأتي في معظمها من جيوب المواطنين الأوربيين دافعي الضرائب، وهم نفس المواطنين الذين لا يريدون الإنفاق على اللاجئين أو استيعاب المهاجرين من جيوبهم، دون أن يدركوا كم الأموال التي ستُنفَق في كل الأحوال، بل ولربما تكون خسارتهم أكبر ببذل الجهود لمنعهم من الوصول لأوروبا.
بزنس تأمين الحدود
طبقًا لوكالة الأمم المتحدة للاجئين، يتحرك الآن حوالي 60 مليون شخص حول العالم بحثًا عن اللجوء، وهو أكبر رقم منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، ففي الأشهر الستة الأولى لعام 2014، ترك أكثر من خمسة ملايين شخص منزله، وفي عام 2014 كله طلب 600.000 شخص اللجوء لأوروبا، وهو حلم يتطلب من كل هؤلاء مواجهة عراقيل شتى تضعها الدول الأوروبية، جغرافية ومالية بل وإلكترونية، والأخيرة تلك بالذات تتضمن تكنولوجيا عسكرية تقوم بتزويدها شركات خاصة عبر تمويل دول الاتحاد الأوروبي.
لشركات السلاح تلك دور كبير يفوق ربما دور منظمة الأمم المتحدة للاجئين، فمجموعة العمل المسؤولة عن البحوث الأمنية، والتابعة للمفوضية الأوروبية، لا تضم منظمة الأمم المتحدة ولا تضم المنظمة العالمية للهجرة، ولكنها للمفارقة تضم أربع شركات سلاح رائدة على مستوى أوروبا، هي إيرباص (EADS سابقًا)، وثاليس Thales، وفينميكانيا Finmeccania، وBAE، علاوة على مشاركة شركات تكنولوجيا مثل ساب SAAB، وإندرا وسيمنز وديل Diehl.
لم يكن غريبًا أن ينشأ مع الوقت بزنس كبير من جراء بحوث تلك المجموعة، والتي لم تلتق سوى مرتين كانتا كافيتين في الحقيقة لتدشين سياسة جديدة لمواجهة الهجرة، فقد قام فريق “ملفات المهاجرين” بدراسة 39 مشروعًا للبحث والتطوير قامت بتمويله مؤسسات الاتحاد الأوروبي أو وكالة الفضاء الأوروبية بين عامي 2002 و2013 لتلك الشركات، كلفت حوالي 225 مليون يورو، وقد أنفقت كلها لتعزيز الحدود الأوروبية، وهي ملايين جنتها بالطبع الشركات المتعاونة مع الاتحاد الأوروبي، وأبرزها إيرباص التي شاركت في عشرة مشاريع وفينميكانيا التي شاركت في 16 وثاليس المشاركة في 18.
ما هي طبيعة تلك المشاريع بالضبط؟ تنصب تلك المشاريع على تعزيز الرقابة الحدودية الجوية، مثل مشاريع أوبرامار Operamar وويماس Wimaas وإيروسيبتور Aeroceptor، وعلى تشديد الحدود نفسها على الأرض وتطوير التكنولوجيا المستخدمة للرقابة اليومية، مثل مشاريع ستابورسِك Staborsec وإفّيسِك Effisec وفاستباس Fastpass ، وعلى تطوير مجسات تحاكي حاسة الشم عند الكلاب لتعقب البشر عند النقاط الحدودية، مثل مشاريع دوجيز Doggies وسنيفر Sniffer وسنوبي Snoopy، كما أن هناك مشرعين عكفا على إنتاج روبوتات لتمشيط الحدود، واحد للبر هو تالوس Talos والآخر للبحر هو أونكوس Uncoss.
برامج وطائرات ومراكب وجدران
تلك الملايين ليست كل شيء بالطبع، وهو ما ينقلنا إلى مجال آخر لبزنس منع الهجرة والذي تقوده فرونتِكس Frontex وكالة الأمن الحدودي الخاصة بالاتحاد الأوروبي، والتي تنسق جهود الدول الأعضاء في تمشيط الحدود وتطوير برامج خاصة لذلك، وحصلت منذ تأسيسها عام 2004 حتى الآن على أكثر من مليار يورو، ويلفت الانتباه هنا برنامج يوروسور Eurosur الذي بدأ عام 2011 هادفًا إلى مشاركة إدارة ومعلومات الحدود بشكل مباشر بين الدول، وهو ما استوجب إنشاء مجموعة مراكز للتنسيق تنقل تلك المعلومات ستكلف حين الانتهاء منها حوالي 200 مليون يورو، دون أن نعرف بالضرورة جدواها على الأرض من أي تقييمات أو دراسات أو تجارب أولية.
على سبيل المثال لننظر إلى يوروداك Eurodac، قاعدة بيانات البصمات الأوروبية، والمصممة للتعرف على مقدمي طلبات الهجرة ممن يتواجدون في أي بلد أوروبي بشكل غير قانوني، وما إذا كانوا قد قدموا على طلبات هجرة لبلد أوروبي آخر وتم رفضهم، حيث تشير الإحصاءات إلى أن عشرة أشخاص على الأقل يتم ترحيلهم عن طريق الخطأ سنويًا نتيجة أعطاب في ذلك النظام أثناء التقاط بصماتهم، وهو رقم قد يكون أكبرعلى أرض الواقع، وهو ما قال أحد موظفي الشركات العاملة في المجال إنه يكون مقصودًا في بعض الأحيان.
لنترك عالم البرمجة وننتقل إلى الأجهزة الصلبة، والتي تتراوح من الطائرات دون طيار حتى المراكب والجدران، والدول الواقعة في جنوب القارة بالطبع هي الأكثر إنفاقًا بالطبع نظرًا لقُربها من المنطقة العربية والقارة الأفريقية، فإسبانيا واليونان تنفقان 70 مليون يورو على المراكب وسيارات الدفع الرباعي والطائرات دون طيار لمساعدتها في ضبط وغلق الحدود، كما أن بناء الجدران أيضًا أصبح مؤخرًا مجالًا رائجًا لتحقيق الأرباح بدأتا بالاستثمار فيه إلى جانب بلغاريا، فالجدران المعروفة في مدينتي سبتة ومليلة الواقعتين في المغرب والتابعتين لإسبانيا منذ عصر الاستعمار تكلف سنويًا عشرة ملايين يورو.
الإيطاليون كعادتهم أكثر دهاءً وحيلة، وكيف لا وهم ملوك المافيا، فإلى جانب الإنفاق المعتاد على المراكب والطائرات، وبدلًا من بناء أية جدران على الأرض، تقوم الحكومة الإيطالية بدفع الأموال لبعض القبائل في ليبيا لوقف سيل المهاجرين من التحرك من السواحل الليبية من الأصل، وهي جهود تكلفت منذ 2011 حوالي 17 مليون يورو تلقتها القبائل والسلطات الليبية، حيث تم تزويد الأخيرة بأجهزة كثيرة مثل المراكب ونظارات الرؤية الليلية، علاوة على حصول موظفيها على تدريبات في هذا المجال لتتبع حركات اللاجئين والمهاجرين.
ماذا عن تكاليف الترحيل؟
لنأتي للمفاجأة الآن، وهي أن كل ما ذكرناه أنفًا ليس بعد أكثر ما يكلف أوروبا في مسألة الحد من اللجوء والهجرة إليها، فالمهمة التي وصلت تكلفتها لحوالي 11.3 مليار يورو منذ عام 2000 هي مهمة ترحيل اللاجئين والمهاجرين المتواجدين في أوروبا بشكل قانوني، وهي مليارات دفعتها الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي، والبالغ عددها 28، علاوة على النرويج وسويسرا وأيسلندا وليختنشتاين وهي الدول الأوروبية غير الأعضاء بالاتحاد رسميًا.
ذلك الرقم بالطبع هو رقم تقريبي وقد يكون أصغر أو أكبر قليلًا، والسبب هو أن أيًا من دول الاتحاد لا تتولى مهمة حساب تكاليف الترحيل، فإن كان الجميع هنا يتحدث عن تكاليف استضافة اللاجئين ونصب الخيم وتقديم الخدمات، فإن أحدًا لا يهتم على ما يبدو بمهمة لا تقل تكلفة، وهي وضع المرحّلين في مراكز الترحيل ودفع أموال نقلهم لبلدانهم الأصلية، والاستثناء هنا هي بلجيكا البلد الوحيد الذي يحسب بالفعل تكاليف ترحيل المتواجدين خارج القانون، وبشكل جزئي السويد التي تحسب تكاليف نقلهم فقط لا حجزهم في مراكز الترحيل.
من الصعب بالطبع الوصول لرقم دقيق، فالتكاليف تتباين من بلد لبلد، كما أن هناك طرقًا عديدة لطرد أي شخص ليس مواطنًا لدولة أوروبية، بدءًا من إقناعه بالعودة طوعًا وحتى ترحيله قسرًا، بيد أن مكتب الإحصاءات الأوروبي قد يدلنا قليلًا نظرًا لامتلاكه قاعدة بيانات لمن تركوا أوروبا بعد تلقيهم إنذارًا، وهي بيانات نظر فيها الصحافيون المسؤولون عن موقع “ملف المهاجرين،” مع البيانات الأخرى المتاحة من بعض الدول الأوروبية في بعض جوانب ملف الترحيل، وتوصلوا لأن أوروبا تدفع ما يقارب المليار يورو سنويًا في جهود الترحيل.
***
بينما تعج الشوارع بالمتظاهرين في المجر والكثير من مدن ألمانيا لاسيما شرقها، وغيرها من بلدان في خضم اجتياح موجة اليمين المتطرف للكثير من الشرائح المجتمعية في أوروبا، وبينما تتعالى الأصوات المطالبة بالحفاظ على أموال أوروبا من التبديد لاستضافة اللاجئين والإنفاق عليهم، خاصة وبعض دول القارة العجوز لا تزال تعاني من الأزمة الاقتصادية، يتساءل المرء ماذا يعرف هؤلاء عن بزنس منع الهجرة، وعن تكاليف الترحيل وضبط الأمن الحدودي وصناعة الأجهزة وكتابة البرامج المخصصة لذلك، وما إذا كان يمكن أن تكون تلك التكاليف أكبر في الحقيقة من تكاليف استضافة اللاجئين.
يبقى التساؤل الأخير هو: وماذا إن عرفوا بالفعل؟ هل يفتحون أذرعهم فجأة للاجئين باعتبار ذلك أقل تكلفة من ترحيلهم ومراقبتهم؟ سيكون هذا تصرفًا منطقيًا إن كانت الاعتبارات الوحيدة بالفعل هي اعتبارات عدم تحمل أوروبا لتكاليفهم، أما إذا كانت هناك اعتبارات أخرى متجاوزة للماديات، فذلك يصبح إذن شأنًا آخر.