خرجت تقارير إعلامية تؤكد إبلاغ واشنطن لحكومة حيدر العبادي في بغداد بقرار يقضي بعدم الربط بين المصير العراقي والسوري في ملف مواجهة تنظيم الدولة الإسلامية المعروف باسم “داعش”، بهذا تقرر الولايات المتحدة التي تقود التحالف الدولي ضد داعش ألا تضع البيض كله في سلة واحدة، بمعنى أنها حتى هذه اللحظة لم تستطع التخلص من كابوس داعش المزعج في كلا البلدين العراق وسوريا بل يتمدد التنظيم بانتظام في مدنيهما.
الحالة العراقية والحالة السورية أمام داعش شهدتا تعقيدات كثيرة في الفترات الأخيرة، لاسيما مع حالة التخبط الأمريكية في مواجهة التنظيم على الأرض في حالة العراق، كما أن الخبرة الأمريكية في مواجهة القاعدة لم تجد مع التنظيم في العراق الذي تجمعه بالقاعدة جذور تاريخية في الأفكار، لكنه متمايز تمامًا في الوسائل والأهداف على أرض الميدان، وهو ما ساعد على إرباك الولايات المتحدة وحكومة بغداد بعد اجتياح الموصل والتمدد في المدن العراقية.
استطاع تنظيم الدولة أن يجتذب إلى صفوفه العديد من الجنرالات السابقين البعثيين في الجيش العراقي، كما نجح بامتياز في استغلال سياسات الحكومة الطائفية السابقة التي ترأسها، نوري المالكي، إذ تمكن التنظيم من اللعب على وتر الطائفية هو الآخر بتأليب العشائر السنية على حكومة بغداد التي تعمدت تهميشهم، وهو ما أوصل تنظيم الدولة في النهاية إلى قلب الموصل بعد فرار قوات الجيش العراقي التي قاتلت أمام مسلحي التنظيم بدون غطاء شعبي.
أدركت الولايات المتحدة حينها أن الإبقاء على المالكي يعني مزيدًا من التقدم لداعش بسبب وعوده الفاشلة باستعادة الموصل واستمراره في استعداء المكونات السنية في العراق، وهو ما أدى بالولايات المتحدة في النهاية إلى التوافق مع إيران على الإطاحة به والإتيان بحيدر العبادي كوجه أكثر اعتدالًا، وبأجندة يمكن وصفهها بأنها إصلاحية، مع تقديم مزيد من الدعم للعشائر السنية ومحاولة إدماجها في الحرب مع تنظيم الدولة في استنساخ لما عرف بالصحوات إبان الاحتلال الأمريكي للعراق.
حققت الولايات المتحدة بسياساتها الجديدة في العراق نوعًا من الاستقرار إلى حد ما بالمقارنة بسوريا التي تدخل الآن مرحلة الدولة الفاشلة، ولهذا فإنها لم تعد بحاجة إلى ربط العراق بسوريا في المعركة أمام تنظيم الدولة، ولكن هذا الاستقرار حتى الآن والتحسن في الوضع السياسي لم ينعكس أبدًا على الأرض، وظلت الطائفية مستمرة في مواجهة داعش وما فيها من تحجيم للدور السني على الأرض، وهو ما تسعى الولايات المتحدة لتخطيه بإنشاء قوات حرس جمهوري سنية بالأساس بدعم أمريكي مباشر؛ مما أثار حفيظة حكومة حيدر العبادي.
العبادي وحكومته يرون أن الحملة الجوية غير كافية بالمرة لمواجهة التنظيم، ويزعمون أن مراقبة التنظيم ليست بالكفاءة المطلوبة، وفي إشارة عامة فإنهم يتهمون التحالف الدولي بالتقصير معهم في إمدادهم بالذخائر والأسلحة وهم الذين يقاتلون على الأرض، كما ينفون حاجتهم إلى قوات برية للتدخل في المعركة، ولكنهم يقولون إنهم إذا طلبوها فلن يستجيب لهم أحد.
هذه هي نظرة حكومة بغداد لحرب الولايات المتحدة ضد داعش، فالولايات المتحدة وحلفاؤها يُخرجون البيانات تلو الأخرى تدعي دعمهم للخطة العسكرية والسياسية للحكومة العراقية لاستعادة المدن المحتلة من قِبل داعش ولكن بدون وضع أي إستراتيجية لذلك.
والقرار الأمريكي الأخير بفصل المواجهة مع داعش في العراق وسوريا يعني اعتراف ضمني صريح بفشل هجمات التحالف الدولي المشتركة ضد داعش في كل من سوريا والعراق، وبالتالي فشل إستراتيجية المواجهة من أعلى، فبعد أكثر من أربعة آلاف هجمة جوية على داعش كان للعراق وحدها نصيب يزيد عن 2500 ضربة، لا تجد أي حصيلة لها ميدانيًا سوى تمدد داعش شرقًا وغربًا.
القرار يعني أيضًا أن الولايات المتحدة قررت نهج إستراتيجية جديدة مع داعش في العراق خاصة وأنهم أبلغوا حيدر العبادي بأنهم يسعون من خلال هذا القرار إلى إعادة نحو مئتي ألف كليو متر يسيطر عليها تنظيم الدولة داخل العراق، وذلك بالتزامن مع إطلاق العبادي إصلاحات سياسية سيلتزم بها لإدماج كافة المكونات العراقية في المعركة.
العمل على إنهاء الأزمة العراقية يبدو وأنه عاد كأولوية أمريكية، لأنها بالمقارنة بالأزمة السورية تبدو أقل صعوبة في حلها سواء عسكريًا أو سياسيًا، وهو ما يشير إلى أن الولايات المتحدة قررت خوض حرب منفصلة أمام داعش في العراق، وقد عبرت عن ذلك وسائل إعلام بقولها إن واشنطن أبلغت بغداد بأنها تريد عودة العراق إلى ما قبل تاريخ العاشر من يونيو 2014 وهو تاريخ اجتياح داعش للموصل.
يتزامن ذلك مع ظهور مرونة أمريكية وعراقية في مسألة التدخل الأمريكي البري في هذه الحرب، بسبب عدم تحقيق أي نتائج إيجابية في معارك تحرير المدن من تنظيم داعش، حيث ارتفعت مؤخرًا الأصوات المنادية بالدعم الأمريكي في المعركة في مقابل صمت المعارضين لهذا التدخل بسبب فشل المعارك أمام التنظيم، وبالفعل وصل العديد من المستشارين العسكريين الأمريكيين إلى بغداد في إطار تأهب لفعل جديد.
كذلك كشف النقاب عن خطة أمريكية جديدة في إطار حرب داعش بالعراق، هذه الخطة الجديدة تقضي بعزل مدينة الموصل شمالي العراق، عن مدينة الأنبار في الغرب، عبر تدمير الجسور والطرقات الرئيسية بين المحافظتين، وهذه تعد تحركات ميدانية جديدة ترافق تحركات سياسية أمريكية تشير إلى السير في إستراتيجية جديدة في حربها ضد داعش في العراق.
أما الجانب السوري فهو الأكثر تعقيدًا حتى الآن، وقد فشلت الولايات المتحدة أيضًا في وضع سيناريو نهائي للحرب هناك لا بإسقاط بشار ولا ببقائه، في الوقت نفسه الذي تخشى فيه من انتقال حالة الفشل هذه إلى العراق إذا ما تطورت الأوضاع في سوريا.
هذا في ظل الحديث عن تحركات عسكرية تركية عربية ضد داعش والنظام السوري على حد سواء يقابلها تحركات عسكرية روسية على الأرض في سوريا، وهو ما قد يؤدي إلى هروب عناصر التنظيم إلى العراق مما سيزيد من تعقيد الأزمة بتصدير داعش إليها، وهو ما تريد الولايات المتحدة منعه ببتر تواجد التنظيم من العراق بحيث لا يكون جهة دعم خلفية لنظيره في سوريا في حالة أي تدخل عسكري، وبحيث تبتعد ببغداد عن الأزمة السورية قدر المستطاع.
كل هذا الشواهد تؤيد نظرية تقول بأن واشنطن ستنغمس مجددًا في العراق رغمًا عنها، وستخضعها للسياسة الأمريكية في مواجهة داعش بعد فشل المليشيات في هذه المواجهة، كما ستقوم بدورعسكري أكبر بإنزال قوات في الأنبار لخوض معركة تحرير الأنبار، فيما ستحد من نفوذ المليشيات الشيعية في مقابل دعم العشائر السنية، وكل ذلك محصلته أن الولايات المتحدة تريد بجدية أكثر التخلص من داعش في العراق تحسبًا لأي تطور في الوضع السوري.