عرفت البصرة على مدار تاريخ العراق المعاصر بأنها نقطة البداية (الانطلاق) أو الرفض، وإذا كان مترنيخ Metternich – سياسي ورجل دوله نمساوي ومن أهم شخصيات القرن التاسع عشر، ينسب إليه وضع قواعد العمل السياسي التي سارت عليها القوى الكبرى في أوروبا طوال الأربعين عامًا التي أعقبت هزيمة نابليون بونابرت – يقول: إذا عطست فرنسا أُصيبت أوربا بزكام وأنا أقول على غرار ماقال: “إذا عطست البصرة أصيب العراق بزكام، وإذا عطس العراق أصيب العرب بزكام”، ونرى ذلك بشكل واضح على سبيل المثال أن أول حالة معارضة مسلحة انطلقت من أهوار البصرة، شرارة الانتفاضة الشعبانية اشتعلت جذوتها في البصرة ، فقد عجت مدينة البصرة بآلاف العراقيين من مختلف المناطق والذين قصدوا هذه المدينة للاستفسار ومعرفة مصير أبنائهم من الجنود والضباط في الجيش العراقي بعد انسحاب القوات العراقية من الكويت وكانت الأجواء في البصرة مشحونة ضد النظام والسلطة وسط دخان حرائق آبار النفط التي أضرمتها القوات العراقية في آبار النفط الكويتية وكان الناس ينتظرون ما يحفزهم على الانتفاض ضد النظام فكان قيام أحد الجنود العراقيين بإطلاق النار على تمثال صدام حسين في ساحة سعد في المدينة في يوم 1 مارس 1991 كافيًا لحدوث انتفاضة شعبية كبيرة، حيث خرج سكان المدينة إلى الشوارع وهم يهتفون ضد النظام وخرج بعض الشباب وهم يعلنون سقوط نظام صدام حسين؛ مما زاد من الهيجان الشعبي فتوجهت مجاميع كبيرة نحو مراكز الشرطة والمباني الحكومية ومعسكرات الجيش وإخراج من كان فيها من السجناء الأبرياء والاستيلاء على مخابئ الأسلحة الصغيرة وحدثت اشتباكات بين القوات العراقية والمنتفضين في المدينة امتدت الانتفاضة في اليوم التالي إلى المناطق والقرى القريبة من البصرة، إن سقوط نظام البعث بدأ من البصرة، والفترة القصيرة التي تحقق بها أمن نسبي بالعراق بدأ كذلك من البصرة (صولة الفرسان نموذجاَ).
التظاهرات الأخيرة التي عمت العراق والتي تطالب بالإصلاح ومحاربة الفساد قد انطلقت أيضًا من البصرة بتاريخ 2 مايو2015 بمعنى أنّ من البصرة تبدأ أحداث التغيير، واعتقد هذه المرة التغيير يشمل إعادة صياغة الدولة العراقية، فلو أبصر النور إقليم البصرة التي تدور رحى الأحداث حوله هذه الأيام نتيجة الشعور بالغبن والظلم والتهميش وسوء الخدمات الذي عانت وتعاني منه هذه المدينة، سيبدأ تغيير أكبر، إذن فهو الحلم الذي ينتظره جميع البصريين من أجل التغيير الذي طالما انتظروه وحلموا به لبناء حياة مستقلة وكريمة.
إن من حق البصرة أن تتمتع بما حباها الله من خيرات وموارد وهي التي تبعد بضعة كيلومترات عن دول الخليج ومدنهم بعدما كانت تلك المدن يبابًا وصحراءً قاحلة يقصد سكانها البصرة للتسوق والتزود بالحاجات الأساسية والضرورية، فالبصرة عاشت المدنية منذ القديم.
الحقيقة التي يجب التذكير بها أن البصرة واجهت حالة من المطالبة بشكل من أشكال الاستقلالية في وقت لم تكن فيه هناك أفكار الفيدرالية والحكم الذاتي وثقافة اللامركزية ومصطلح الإقليم قد انتشرت بعد داخل الحركة السياسية أو الاجتماعية في البصرة والعراق أيضًا، فقد ظهرت أولى بوادر حركة سياسية جديدة في البصرة خلال اجتماع بين السير برسي كوكس واثنين من كبار تجار البصرة وملاك الأراضي هما أحمد الصانع وعبداللطيف المنديل في 7 أبريل 1921، وطالبا خلال الاجتماع بإدارة منفصلة للبصرة تحت الحكم البريطاني المباشر وفي ضحى الثالث عشر من شهر يونيو عام 1921 تسلم المندوب السامي في البصرة السير برسي كوكس عريضة تحتوي ثلاثة وعشرين فقرة موقعة من أربعة آلاف وخمسمائة رجل في ذلك التاريخ يتزعمهم سبعة من كبار أعيان ووجهاء البصرة يترأسهم كل من عبداللطيف باشا المنديل وأحمد باشا الصانع وسليمان بك الزهير وعلي بك الزهير وعبود حمود باشا الملاك وعبدالرزاق النعمة ويوسف عبدالأحد ويعقوب نواح وحاج عبدالسيد عويد وناجي بك السويدي وهذا الأخير محامي ليس من أهالي البصرة، إنما هو من أهالي بغداد وهو شقيق توفيق السويدي رئيس وزراء العراق فيما بعد، وفي سنة 1921 ترأس ناجي السويدي الوفد الذي استقبل الملك فيصل الأول في البصرة، ويذكر الدكتور حميد أحمد التميمي في مؤلفه البصرة في عهد الاحتلال البريطاني 1914-1921 أن تتويج الأمير فيصل ملكًا على العراق من أجل إنشاء دولة جديدة لم يكن أمرًا مقنعًا لجميع الاتجاهات السياسية البريطانية ولا لكل القوى المحلية أيضًا على اختلاف ارتباطاتها ومصالحها.
وقد برز ذلك بشكل واضح لما عرف تاريخيًا بحركة الانفصال (بالرغم من أني أتحفظ على كلمة انفصال لأنه أساسًا لم يكن هناك كيان أو دولة حتى يتم الانفصال منها، فقد كان هناك ثلاث ولايات: البصرة وبغداد والموصل، وهذه الولايات لم تكن منتظمة بكيان واحد، إنما قام الاحتلال البريطاني بضمها ضمن كيان واحد تمت تسميته المملكة العراقية لكني أوردتها نقلاَ عن الدكتور حميد أحمد التميمي من أجل الإشارة التاريخية لهذه المطالبات)، هذه الحركة التي دارت رحاها قبل مجئ الأمير فيصل بفترة زمنية قصيرة لا تزيد على بضعة أيام، وقد ادعى المقدمون لهذه العريضة في الفقرة الأولى من هذه العريضة بأنهم يمثلون الأغلبية الراجحة من أهالي مقاطعة البصرة وقد أوضحوا بالنقاط الثلاث التي تلتها عن عمق الارتباط الوثيق بين سكان مقاطعة البصرة والسلطة البريطانية مدللين بالذكر على ذلك بحسن سلوك أهل البصرة وامتثالهم للأنظمة والقوانين التي أصدرها ويصدرها الاحتلال البريطاني وعدم تأييدهم لثورة العشرين من خلال ما جاء في قرار مجلس أشراف البصرة بهذا الخصوص، وقد طالبوا بالفقرة الخامسة من العريضة بحق تقرير المصير وأنهم يلتمسون من حكومة جلالته تطبيق هذه المبادئ بالدقة على مقاطعة البصرة وأن تكفل لهم إدارة جيدة، أما الفقرة السادسة فقد ذهبت إلى بيان الفروق السكانية بين البصرة وبقية أنحاء العراق على اعتبار أنها متخذه ميناء يكثر فيه الأجانب دليلاَ على هذا التفريق واحتمال اتساعه في الجوانب الاجتماعية والثقافية.
أما في الجانب الاقتصادي فقد ورد في الفقرة السابعة أن موارد البصرة المادية سوف تصرف في حالة بقائهم ضمن الدولة العراقية على مشاريع لتعود عليهم بالخير وهم الأقلية الغنية صاحبة الموارد، وفي الفقرة الثامنة تعرض العريضة إلى أوجه الشبه بين البصرة وبين مواقع البلاد التابعة لبريطانيا العظمى والمتمتعة بالحكم الذاتي حيث جاء فيها ما نصه: “وبهذه المناسبة نلتمس بخضوع أن نصور لكم موقع البصرة وما فيه من وجوه الشبه بينه وبين موقع البلاد التابعة لبريطانيا العظمى والمتمتعة بالحكم الذاتي، فإن تلك البلاد لبعدها عن مركز الحكومة الرئيسي ووجود الاتحاد في المقاصد السياسية بين سكانها قد سلم بما لها من المطالب الحقة في التمتع بحياة سياسية مستقلة، إذ بهذه الكيفية وحدها نالت شؤونها ما افتقرت إليه من الاهتمام اللازم”،عليه فقد بينت الفقرة التاسعة بأن مسير البصرة وتقدمها يخالف مسير العراق ولذا يجب ألا نجبر على قبول ما لا نرضاه ولا يضمن مصالحها، كما عرضت بقية الفقرات بالشكل الصريح والواضح المطالبة بمنح البصرة استقلالاً سياسيًا منفصلاً.
قدمت بقية الفقرات مشروعًا أداريًا سياسيًا تكون فيه البصرة مقاطعة منفصلة يشرف عليها الأمير نفسه أو الملك الذي يحكم العراق وتحمل الدولة الجديدة اسم “ولايتي العراق والبصرة المتحدتين” وللبصرة مجلس تشريعي وحاكم خاص ينتخبه حاكم الولايتين من ثلاثة أشخاص ينتخبهم مجلس البصرة، وسارت فقرات العريضة بالشكل الذي ينظم العلاقات الإدارية بين الطرفين بشكل اتحادي فيدرالي والحقيقة فقد أثيرت ردود أفعال متباينة بين أهالي البصرة وقد أشار إليها لأول مرة بصورة رسمية وزير المستعمرات البريطاني ونستون تشرشل، في خطاب له بمجلس العموم البريطاني في الرابع عشر من يونيو العام 1921 عندما تناول مراحل القضية العراقية وجاء نصه: “وفضلاً عما تقدم نعلم بحركة حديثة العهد ترمي إلى طلب الاستمرار على الحكم البريطاني مباشره، وجل هذا التغيير في موقف الشعب دليل ناصع على ثقته بالسير برسي كوكس ولكن لا أمل لنا أن نتمكن من الاستمرار على حمل التبعة مباشرة، وكذلك قد طلب البعض فصل البصرة عن العراق ووضعها تحت إدارة بريطانية تامة ولا نرى أن هذا الأمر أيضًا ممكن لأنه يخالف مصلحة الحكومة الوطنية إجمالاً، فسياستنا هي إنشاء حكومة عربية وطنية وإرشاد هذه الحكومة وتأييدها”.
وليفهم جليًا أننا في إنشاء حكومة وطنية تنوي كل النية أن تقوم بأعباء التبعة التي ألقاها علينا الانتداب)، وهكذا، على أثر مؤتمر القاهرة الخاص بالشأن العراقي والمنعقد في 12 مارس 1921 وبحضور وزير المستعمرات البريطاني ونستون تشرشل وبرسي كوكس المعتمد السامي والجنرال هولدن قائد القوات البريطانية في العراق وجعفر العسكري وزير الدفاع في الحكومة العراقية المؤقتة وساسون حسقيل وزير المالية، وبعض مستشاري الوزراء في الحكومة العراقية المؤقتة وهم بريطانيين وكذلك المس بيل السكرتيرة الشرقية لدار الاعتماد البريطانية.
تم اختيار فيصل بن حسين بن علي الهاشمي لعرش العراق من بين عدة مرشحين هم: السيد عبدالرحمن النقيب وهو نقيب أشراف بغداد ورئيس الحكومة المؤقتة، السيد طالب النقيب وهو ابن نقيب البصرة ووزير الداخلية في الحكومة المؤقتة، عبد الهادي العمري رئيس الأسرة العمرية المشهورة في الموصل، الأمير برهان الدين نجل السلطان العثماني عبد الحميد، أغا خان زعيم الطائفة الإسماعيلية في الهند، الشيخ خزعل أمير المحمرة، غلام رضا أمير بشت كوه الإيراني، وابن سعود أو أحد أنجاله.
وبذلك انتهت فكرة الجمهورية التي تبناها ودعا إليها مستشار وزارة الداخلية مستر فلبي وبعض الشخصيات البغدادية المهمة لتكون نظامًا للحكم في العراق، تمّ تتويج فيصل ملكًا على العراق في شهر أغسطس من عام 1921، وعرف باسم “الملك فيصل الأول”، وفي عام 1932، أصبح العراق دولة مستقلة كاملة الأهلية، وتم ضمها كعضو كامل في عصبة الأمم والتي أصبحت لاحقًا “الأمم المتحدة”، دارت دورة الأيام وجاء التاسع من أبريل 2003 واحتل العراق من جديد لكن هذه المرة من قِبل أمريكا ومساعدة بعض الدول مثل بريطانيا وأستراليا.
علم إقليم البصرة
أصبحت الأحداث السياسية داخل العراق تدور بشكل متسارع وبدأت الدعوات إلى تحويل البصرة لإقليم فيدرالي تتصدر اهتمام قوى وشخصيات سياسية في البصرة على خلفية نية أعضاء في مجلس المحافظة بتقديم طلب إلى رئاسة مجلس الوزراء بإجراء استفتاء حول تشكيل الإقليم، وقد تبنت بعض الشخصيات السياسية الموضوع وبدأت بخطوات فعلية لتشكيل الإقليم المزمع، مدعين أن تشكيل الإقليم هو السبيل الوحيد لتخليص البصرة من الظلم الذي عانته طوال السنوات السابقة.
إن سخط الشارع البصري من انعدام الخدمات في البصره بالإضافة إلى تبني نواب عن البصرة المشروع، مستندين في هذه الإجراءات على قانون الإجراءات التنفيذية الخاصة بتكوين الأقاليم رقم 13 لسنة 2008، لكن هنا لا بد من التوقف قليلاً عند سؤال غاية في الأهمية وهو هل كان أولئك القادة البصريين الذين تقدموا بعريضتهم في العام 1921 محقين؟ لقد مضى على هذا الموضوع 94 عامًا ولا أجد أي فقرة من الفقرات التي نادوا بها هي ليست من مصلحة البصرة وأهلها.
لقد وجدت هذه المجموعة من قادة البصرة في ذلك الزمان أن استقلال مدينتهم عن بغداد “المركز” هو نوع من الضمان لتطوير مدينتهم تطورًا حرًا سريعًا وهم محقين في هذا، فكل الأنظمة المتطورة في العالم هي أنظمة فيدرالية اتحادية، على الجميع أن يعترف أن مدينة البصرة لم تديرها أي إدارة في يوم من الأيام وأنصفت أهلها أو حافظت على حقوقهم رغم كل الأنظمة المتعاقبة التي تعاقبت على حكمها، ولم يكن باستطاعة المواطن البصري أن يكون سيد قراراته، فقد عاش البصريون تحت ردح الضغوط والاضطهاد والتهميش منذ تأسيس الدولة العراقية وحتى اليوم فقد كان ولازال المجتمع البصري مجتمع مقهور من أصحاب السلطة السياسية الشرعية وغير الشرعية محتلين أجانب أم من غير الأجانب.
البصرة المهملة في كل الأزمنه نتيجة إهمال وفساد الإدارات التي تولت أمرها هي اليوم في أمس الحاجه إلى مشروع تنموي إستراتيجي شامل وبناء نظام إداري وسياسي وفق مفهوم الحكم الرشيد والذي يستند إلى العدالة الاجتماعية والتنمية البشرية المستدامة والشفافة بالإضافه إلى ديمقراطية تشاركيه ترتبط بشكل مباشر باللامركزية الإدارية، فقد أثبتت تجارب الأمم والشعوب بأن أساس أي تقدم اجتماعي وازدهار اقتصادي مرتبط بشكل وبآخر بالنظام الإداري اللامركزي أي إقامة الأقاليم (الولايات) وما المطالبة بإقامة إقليم البصرة إلا الخطوة الصحيحة بالاتجاه الصحيح من أجل تحقيق التنمية المحلية، لكن لا بد لهذه المطالبات أن تتبنى برنامج تنموي شامل يسمو فوق كل الميول والاتجاهات السياسية والمذهبية الطائفية والتعصب القومي الإثني وتضع نصب عينيها تحقيق الحاجات الحياتية الأساسية والضرورية لأهل البصرة.
بالتأكيد هكذا مشروع يحتاج إلى تشكيل وتأسيس تنظيمات سياسية بصرية بدماء بصرية أصيلة وجديدة يكون الأكاديميون ذوو الخبرة الكبيرة حجر الزاوية في هذه الإدارة التي ستتولى أعباء المرحلة من خلال إيجاد المناهج والخطط والسبل التي تمكن المشروع التنموي الشامل الذي تعمل على تحقيقه وفق هذه المناهج والأسس العلمية الحديثة، فالساحة البصرية تحتاج لمزيد من العمل والتوعية الجماهيرية ليكون الغد مفعم بالأمل بتحقيق الحلم الأزلي لتكون البصرة الفيحاء باسمة بحق مثلما يطلق عليها ثغر العراق الباسم.