عندما تستمع إلى كلمة “كوتاهيا” يأتي إلى عقلك صناعة الصيني، أو المسمى بالتركية تشيني، وما يميزها عن مدينة أزنيك أن صناعة الصيني مستمرة إلى يومنا هذا، وتقوم المدينة بتصدير إنتاجها إلى جميع أنحاء العالم، بل وتحمل إحدى ماركات الصيني الشهيرة اسم المدينة.
من السوق الصيني
أثناء تجولك في أطراف المدينة سوف تتصادف كثيرًا مع الصيني والبورسلين، فقد تجد محلات بيعها، وأتوليهات صنعها وتعليم صنعها، بل وقطع فنية موضوعة على هيئة هياكل أو نافورات وخلافه مما يزين تلك المدينة الصغيرة، التي يقطنها حوالي ربع مليون نسمة فقط، وكانت تحت حكم الرومان ثم فتحها السلاجقة ثم استعادها الصليبيون، ثم استردها السلاجقة من جديد، ثم استولى عليها تيمور لينك، ومن بعد ذلك تمكن العثمانيون من فتحها مجددًا، وذكرني الصديق محمد لطفي عند ذكر مدينة كوتاهيا أنها تلك المدينة التي وصلها محمد علي باشا بجيوشه بقيادة إبراهيم باشا وتم عقد صلح كوتاهيا هناك، فهي مدينة إذن تنعم بتاريخ ذاخر، وهذا ما قد تلحظه بوضوح في بيوتها وعمارتها الرائعة الهادئة، بألوان مبانيها الساكنة المتناسقة المغردة بألحان تشدوها الطيور المحلقة في سمائها.
السوق الصيني
قررت الذهاب إلى كوتاهيا كمحطة ترانزيت في طريقي إلى أنقرة، حيث إنها مدينة صغيرة فقد قررت أن أمكث بها يومًا واحدًا وألا أبيت بها، فخرجت صباحًا من مدينة بورصة واصلًا إياها قبل صلاة الجمعة بحوالي ساعة، وبعد وصولي ترمينال كوتاهيا اتخذت الباص المتجه إلى وسط المدينة ولم يستغرق الكثير من الوقت حتى وصل إلى “محلة” أي حي “بوركتشيلير”، وتحديدًا في شارع سلطان باغه، لأرى أول ما أرى تمثال يتوسط الميدان عبارة عن راقص مولوي صوفي، ليعطيني انطباع ما عن التوجه المحافظ لأهل تلك المنطقة، والشعب التركي أغلبيته المطلقة صوفية التوجه، وعلى يسار التمثال ستجد مسجد دونينلير أي العائدين، وهي في الأصل خانة مولوية كان يُمارس بها السماع وخلافه من الشعائر الصوفية ولكنها تحولت إلى مسجد فيما بعد، وعلى الجانب المقابل ترى جامعًا صغيرًا يُسمى أناليجا، وهو جامع أسس عام 1369، وهذا مما يميز مدينة كوتاهيا وهو وجود عدة مساجد أثرية بها.
التمثال المولوي
وعند التقدم إلى الأمام قليلًا ستجد أمامك جامع كوتاهيا الكبير “أولو جامي”، وهو أكبر جامع بكوتاهيا والذي أُسس عام 1410، وهو المسجد السلطاني الوحيد بكوتاهيا حيث أسسه السلطان بايزيد يلدرم، ويتميز هذا الجامع عند دخوله بفصلك روحيًا عن المكان الخارجي المزدحم المحيط له، فبعد دخوله تحس بالطمأنينة والسلام النفسي بشكل مدهش، وبعد أن شاهدته أكملت رحلتي ولم أصل الجمعة به، بل فضلت أن أصليها في إحدى الجوامع الصغيرة، وهو جامع اسحاق فقيه الذي أُسس عام 1433.
قبل الصلاة قمت بجولة سريعة في متحف آثار كوتاهيا والذي كان من قبل “مدرسة الواجدية”، وهو بناء سلجوقي الأصل أُسس عام 1314 ويحتوي على آثار من عهد الفريجيا، وهم الذين حكموا أسيا الصغرى بعد سقوط الحيثين في القرن الثالث عشر قبل الميلاد، وهو متحف صغير الحجم يتميز بإضاءته الساحرة والتي مصدرها الفتحة المغطاة بالزجاج الموجودة بقبته والتي توفر إضاءة طبيعية تغمر الصالة الرئيسية.
لم أمكث كثيرًا لصغر المتحف ولكنني لاحظت وجود رحلة مدرسية أو ما شابه، وفكرت مجددًا في كيفية استغلال المباني التاريخية وتحويلها إلى متاحف ومن ثم تنشيطها عن طريق الرحلات المدرسية التي ستستمر بالتعاقب على ذاك المتحف مما لن يحوله إلى متحف مهجور لا يزوره أحد، والغريب هنا أنه بالرغم من أن مدينة كوتاهيا صغيرة جدًا بالمقارنة ببقية المدن إلا أنك ستجد فيها عدة متاحف وهو أمر يدعو للتفكير حقًا، حيث إن معظم المدن التركية صغيرها وكبيرها تحتوي على متاحف، حتى وإن حوت بعض تلك المتاحف على آثار قد تجدها عديمة القيمة، إلا أن الميزة هنا هو الاستغلال الأمثل لما يمتلكونه من آثار أو ثقافة وتراث حتى.
من داخل المتحف
وعلى الجانب الآخر من المحزن أن دولة ذات تاريخ عظيم حافل مليء بما يُمكن استغلاله، نجدها ضعيفة جدًا في هذا المجال، فنحن لا نستطيع تسويق آثارنا وحتى متاحفنا فهي مُنشأة بطريقة لا تليق أبدًا بما تحويه، فلا زلت أتذكر هذا المتحف الكوميدي الذي أُنشأ مجددًا في الفسطاط، على ما أتذكر، والذي يشبه في تصميمه وتصميم إضاءته وعرض منتجاته كقاعة سينما درجة ثانية!
وبجانب المتحف يوجد متحف آخر أيضًا وهو متحف الصيني، وهو أول متحف صيني في تركيا وقد يكون أيضًا أول متحف للصيني في العالم، ويحتوي على تُحف فنية من القرن الرابع عشر إلى يومنا هذا، وأرفقت صورة لإحدى التُحف الفنية التي أعجبتني بالأسفل، بالإضافة إلى صورة لقاعة العرض الرئيسية.
بعد الانتهاء من جولتي بالمتحف، قررت الصعود إلى قلعة كوتاهيا، والتي أُسست على ثلاث مراحل، ابتدأها البيزنطيين في القرن الثامن، ثم استكملوها في القرن الثاني عشر، ثم أكمل الأتراك القلعة القرن الثالث والرابع عشر، وكان آخر ما تم إنشاؤه منها في عهد السلطان محمد الفاتح رحمه الله، وكان الطريق إلى القلعة شاقًا مرتفعًا، لا تصل إليه إلا مشيًا على الأقدام أو بواسطة عربة خاصة، فاضطررت إلى المشي طويلًا، لأتمكن من الصعود، إلى أن صعدت إلى مكان مرتفع نسبيًا مطل على مدينة كوتاهيا، ونظرت إلى المدينة من أعلى ولكنني لم أحس أنها مختلفة عن تلك المناظر التي شاهدتها في الكثير من المدن، لم تكن مميزة، كان طابعها واحدًا، روتينيًا مكررًا، مما لم يشدني كثيرًا فقررت النزول وقد أصبت إلى حد ما بخيبة أمل بسيطة، مسرعًا لألحق بصلاة الجمعة من أولها.
منظر مُطل على المدينة من أعلى القلعة
بقايا القلعة القديمة
كان العيد على الأبواب وكانت الخطبة بالتأكيد عن مراسم عيد الأضحى، ولأن المسجد صغير ويقع بمنطقة غير سياحية، كان الجميع ينظر لي بعين فضولية، ولكنني لم أهتم أيضًا فقد كنت متعبًا بما فيه الكفاية فلم أستطع أن أقوم ببدء حوار مع أحدهم، ففضلت الجلوس والخروج سريعًا بمجرد الانتهاء من الصلاة، متجهًا إلى وجهتي القادمة وهي “مجر أيفي” أي البيت المجري، وهو البيت الذي مكث فيه كوسوث لاجوس، وتم إعداد الدستور المجري به، وتحول إلى متحف من طابقين يحتوي على غرفة نوم وعمل كوسوث، غرف مكوث عائلته، والأشياء التي استخدمها وخلافه، والآن حان وقت الطعام، فاتجهت إلى مطعم “كوتاهيا كوناغه” وهو مطعم تاريخي مميز، زاره الرئيس التركي عدنان مندريس من قبل، وطلب منه الرئيس السابق عبد الله جول الطعام وأحضروه من هنالك إلى مكان مكوثه في إحدى الاجتماعات التي نظمها، وقد استقبلني أصحاب المطعم بحفاوة بالغة، حتى إنه من فرط كرم ضيافتهم أصبت قليلًا بالملل! ومما لا يمكن أن أنساه حلوى مهلبية التين التي استمتعت بتناولها على الرغم من سعرها المرتفع قليلًا، ولكنها، كما أخبروني، من ابتكارهم، ولن أستطع أن أجدها في أي مكان آخر سوى لديهم، وكانت بالطبع لذيذة جدًا، ولم أجدها بسهولة هنا في بورصة على سبيل المثال، كان الطبق الرئيسي الذي طلبته هو “المانطي”، وهو طبق تركي شبيه بالمعكرونة باللحم المفروم ولكنها ليست معكرونة بالطبع بل شيئًا شبيهًا بها، لم تكن لذيذة إلى حد ما.
انتهيت من الطعام ثم ذهبت إلى التراس المطل على الحديقة، وجلست قليلًا في الهواء الطلق، قبل أن أشكرهم على حسن ضيافتهم وأغادر المكان، وقد سألني صاحب المطعم عما إذا كنت أود التقاط صورة تذكارية بالخارج أم لا، فشكرته مع الإيجاب، وسألته عن كيفية الذهاب إلى وجهتي القادمة وهي منطقة وسط البلد، فدلني ولم تكن بعيدة جدًا، فتوجهت إليها مشيًا على الأقدام، وفي الطريق إليها مررت بالكثير من البيوت التاريخية الخشبية ذات الطابقين والتي لها واجهات مميزة ساحرة.
تناسق ألوان البيوت في المدينة
وبعد انتهاء جولتي السريعة بمركز المدينة، قررت الذهاب إلى جامع الصيني، وهو جامع حديث ولكن واجهته الخارجية كلها مغطاة بالصيني، وهو ما ذكرني بالعمارة الإيرانية، فقررت الذهاب مشيًا على الأقدام في طريق طويل حيث صعدت كيلومترًا إلى الأعلى، واستمر المشي لأكثر من ساعة إلى أن أحسست بلحظة الانتصار عندما وصلته، وكان الجامع بالفعل يستحق تلك التجربة، فهو أول جامع أراه في حياتي يحمل هذا الطرز.
بعد ذلك، نزلت وأكملت رحلتي متجهًا إلى سوق الصيني لأشاهد بعض المنتجات المعروضة هناك، ثم قمت بالتوجه إلى مول سيرا كوتاهيا، وهو مول كبير جدًا عجبت لوجوده في تلك المدينة الصغيرة، وهذا شيء يُلاحظ أيضًا هنا في تركيا، وهو وجود المولات ومراكز التسوق الكبيرة حتى في المدن الصغيرة، وهو أمر لا نراه في مصر، حيث أعتقد أنه لا يوجد مراكز كبيرة بتلك الجودة في المحافظات الريفية مثلًا، على الرغم من أنه لو تم إنشاؤها فسأتوقع لها النجاح؛ لأنها ستكون نقطة تجمع جديدة تُوفر لقانطي تلك المحافظات أماكن يستطيعون فيها التسوق والالتقاء بدلًا من حاجتهم للسفر إلى القاهرة للقيام بذلك.
الجامع الصيني
قارب الوقت على غروب الشمس، وحان لي الذهاب إلى محطة الباصات للقيام بحجز رحلة إلى أنقرة، للذهاب لأقضي أول أيام عيد الأضحى مع أصدقائي هناك، وعند الذهاب اكتشفت نفاذ التذاكر المتجهة إلى أنقرة، فاضطررت إلى حجز تذكرة ترانزيت إلى أسكي شهير ومنها أستطيع حجز تذكرة إلى أنقرة بسهولة لتوفرها هناك بكثرة، وبالفعل قمت بذلك، وانتهت رحلتي مع تلك المدينة الصغيرة التي تحمل طيات من تاريخ طويل مر على أراضي الأناضول.