أكثر من سنة مرت على إعلان تنظيم الدولة الإسلامية ما أسماه “الخلافة الإسلامية” بعد سيطرته على مناطق واسعة من العراق وسوريا، أحكم عليها قبضته الأمنية والخدماتية وفرض فيها حكمه، وعزز سيطرته على الأراضي التي يستولي عليها إثر تمدده.
أثناء إعلان الخلافة وتنصيب زعيم داعش أبي بكر البغدادي خليفة على المسلمين، ودعوة كل مسلم في الكرة الأرضية لمبايعته، زادت طموحات التنظيم، الذي رفع شعار “باقية وتمدد” كعنوان لمرحلة خروج التنظيم من مرحلة الفصيل المسلح إلى دولة العراق الإسلامية، ثم الدولة الإسلامية في العراق والشام، وصولًا إلى الدولة الإسلامية.
هذه المراحل التي شهدها التنظيم كانت متسارعة؛ فلم تمر سوى 9 سنوات لتتمكن داعش عسكريًا من المرور من مرحلة حرب العصابات إلى مرحلة الجيوش النظامية المتطورة، التي تملك أكثر من 2300 عربة هامفي مدرعة، وعشرات الدبابات التي استولت عليها أثناء اجتياحها للموصل .
البداية كانت في ساحات الحرب في العراق من خلال عمليات متفرقة قامت بها ضد الاحتلال الأمريكي، استعملت فيها كل أنواع الأسلحة التقليدية التي امتلأت بها مستودعات الأسلحة العراقية، التي تركها الجيش أثناء الدخول البري للقوات الأمريكية سنة 2003.
ووفقًا لتحليلات الخبراء فإن داعش باتت على رأس قائمة أكثر المجموعات الإرهابية الدولية ثراءً، على الرغم من غياب معلومات موثقة عن ثروات وأرصدة هذه الجماعة، هذا الثراء، الذي أكدته عدة تقارير إعلامية أمريكية وبريطانية، زاده السيناتور الأمريكي جون ماكين تأكيدًا في شهر أغسطس من السنة الماضية، خلال رده على سؤال حول موقفه من قتل الصحفي الأمريكي ستيفن سوتلوف، في حديثه لشبكة سي إن إن الإخبارية الأمريكية، عندما قال، “على الرئيس باراك أوباما أن يعي مدى وحشية تنظيم الدولة الإسلامية” الذي وصفه بأنه أقوى وأغنى تنظيم إرهابي على وجه الأرض، مضيفًا أن”على أمريكا أن تتولى تشكيل وقيادة تحالف دولي لمواجهته.”
الحقيقة أن التقارير وتصريحات الخبراء والسياسيين لها ما يبررها على أرض الواقع؛ فالتنظيم أعلن الخلافة ومن المحال أن يكون إعلان الخلافة أمرًا اعتباطيًا غير مدروس، خاصة وأن هذا الإعلان جاء بعد 6 أشهر من السيطرة على مدينة الموصل وعلى مدخراتها البنكية، وكل ما له علاقة بالدولة من تجهيزات قد تكون أغرت التنظيم، إلى جانب إغراءات أخرى قد حصل عليها من المناطق السورية التي حررها وسيطر عليها وخاصة حقول البترول والغاز الطبيعي الموجودة هناك.
كل هذا بالإضافة إلى تبرعات أثرياء خليجيين، أموال الصدقات والتبرعات والزكاة، عوائد تحرير الأجانب والمختطفين، وعوائد التهريب وبيع النفط، الذي تُقدر عوائده بنحو 2 إلى 4 ملايين دولار يوميًا، ما يعادل مليار دولار سنويًا، كذلك الهبات المتأتية من المتعاطفين، وعائدات بيع الحبوب، حيث قال أحد مسؤولي وزارة الزراعة العراقية “إن داعش بدأت تسيطر على حوالي ثلث إنتاج العراق من القمح”، دون أن ننسى التقارير التي تحدثت عن الثروة المالية الكبيرة التي وصلت في شهر يونيو 2014 إلى ملياري دولار، حسب تقرير أصدرته صحيفة الغارديان البريطانية، وهو ما يؤكد أن توقيت الإعلان، عن ما أسماه التنظيم بالخلافة الإسلامية، لم يكن اعتباطيًا.
كما نقلت الصحيفة في تقريرها الصادر في 18 يونيو 2014 عن مسؤول عراقي، “أن أموال داعش وأرصدتها كانت 875 مليون دولار قبل السيطرة على الموصل، وبعد ذلك يمكن أن يضيفوا 1.5 مليار دولار مما سرقوه من المصارف وقيمة المعدات العسكرية التي نهبوها، وأُميط اللثام عن سلسلة أرقام ضخمة من شأن أي شركة كبرى أن تفتخر وتتباهى بها، ناهيك عن تنظيم كان حتى عامين قبل ذلك يحبو ماليًا”.
وأشارت الصحيفة البريطانية إلى أن “الاستخبارات الأجنبية كانت تعرف أن داعش تحصل على عائدات ضخمة من حقول النفط التي يسيطر عليها التنظيم في شرق سوريا منذ أواخر العام 2012”.
هذه المعلومات الخاصة بالثروة المالية للتنظيم أكدتها مصادر مختلفة تنوعت لغاتها واختلفت مناصبها، وهو ما يعني أن التنظيم الآن قادر على تحقيق واحد من الشعارات المرفوعة، وهو البقاء لفترة أطول لا يمكن تحديد مدتها، والتي يرى خبراء أن التنظيم الجهادي والخلافة التي أعلنهما بزعامة أبي بكر البغدادي، يمتلكان مقومات الاستمرار، وهو ما دفع الباحث في مركز شاتهام هاوس، والمتخصص في شؤون الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، حسن حسن، إلى القول لوكالة فرانس برس، “تعمل المجموعة كأنها حركة تمرد، قد تنكفئ في منطقة ما، وتتوسع في منطقة أخرى، لكنها باقية في المستقبل المنظور”، ويضيف “أتصوره موجودًا وناشطًا على مدى عقد من الزمن على الأقل”، ويوافق محللون آخرون على أن حدود الخلافة الحالية قابلة للتغيير، إلا أن نهايتها ليست قريبة.
كل هذه المقومات بالإضافة إلى أن التنظيم تعد مصاريفه منخفضة نسبيًا مقارنة بالجيوش النظامية، وإلى هذا أشار الباحث السياسي في مؤسسة “راند كوربوريشن” للأبحاث، باتريك جونستون، عندما أكد لوكالة فرانس برس أن كلفة إدارة عمليات التنظيم منخفضة نسبيًا، إذ إنه يمتلك عددًا بشريًا ثابتًا وتشكيلة من المقاتلين الأجانب، ويحتفظ بترسانة عسكرية، غنم معظمها من المعارك التي خاضها في مواجهة الجيوش أو الفصائل المسلحة.
ربما يطول اقتباس أقوال الخبراء والسياسيين الذين أجمعوا أننا أمام أغنى وأقوى تنظيم جهادي عرفه العالم، اكتسب خبراته من خلال الحروب الطويلة التي خاضها مقاتلوه، ثم التحقوا به عندما أعلن عن وجوده الفعلي في سوريا، ما أكسبه صلابة وديناميكية لم يعهدها، خاصة وأن الأجانب قد شكلوا عموده الفقري؛ فكل الفيديوهات المرعبة التي أصدرها التنظيم كان وراءها أجانب، وفق ما أكدته تقارير إعلامية أجنبية، وذلك لحرفية التصوير وتطور الإخراج، الذي يرى مراقبون أن تأثير فيديو داعشي واحد مرعب له وقع على من يشاهده مهما كان موقعه، ما يعني أن التنظيم قد استفاد إعلاميًا من جهة تطبيقه لنظرية الصدمة وفشل من ناحية عجزه عن كسب الحاضنة الجماهيرية العالمية، ولو أنه نجح نسبيًا في كسب حاضنة شعبية داخل مناطق نفوذه كما أن الأجانب يشغلون كل المناصب الحساسة في هيكليته وذلك لثقته الكبيرة بهم.
لكن من جهة أخرى ورغم كل الإمكانيات التي تحدث عنها الخبراء بل حتى سياسيين أمريكيين كبار اعترفوا أن داعش أصبحت دولة بين دولتين من خلال استقلالها التام عن كل ما له علاقة بالحكومتين العراقية والسورية، إلا أن تتنظيم الدولة الإسلامية قد أضعفته الضربات الجوية المتواصلة من قوات التحالف الدولي، فبين الفينة والأخرى تطالعنا إصداراته المرئية والصور المنشورة التي تنعى أحد قياديي التنظيم من الذين قضوا جراء القصف كان آخرهم “والي صلاح الدين”، كما أسماه التنظيم.
القصف المتواصل منذ شهور، والذي استهدف كل ما له علاقة بداعش، قد جعل التنظيم في بعض المناطق في موقع دفاع ثم سرعان ما تحول الدفاع إلى انسحاب من مناطق كانوا قد سيطروا عليها سابقًا مثل مدينة تكريت وكوباني وتل أبيض، لكن هذا الانسحاب سرعان ما يبرره التنظيم بشدة القصف الجوي الذي يروح ضحيته يوميًا العشرات بين مدنيين ومسلحين الذين راحوا وقودًا للمعركة.
لكن التنظيم سرعان ما يعود إلى تلك المناطق ويقوم بعمليات انتحارية واشتباكات مع القوى المتواجدة بداخلها، ومن أبرز تلك العمليات الكر والفر الذي شهدته مدينة تل أبيض، دون أن ننسى ما حصل في عين العرب كوباني منذ أكثر من شهر؛ حين تسلل مقاتلوه إلى وسط المدينة حيث دارت اشتباكات بينهم وبين المقاتلين الكرد استمرت أيامًا.
لهذا يمكن القول إن الشعار المرفوع من قِبل تنظيم الدولة الإسلامية، باقية وتتمدد، يبقى حقيقة ترجمها التنظيم وإن كان هذا البقاء رهين تدخل بري كما توقع المراقبون والخبراء ولكن هذا التمدد بدا أمرًا نسبيًا، إذا كان التمدد المراد في العراق وسوريا بسبب الكر والفر الذي تشهده هاتان المنطقتان، أما التمدد المراد به تلقي بيعات من مناطق أخرى فهذا تمدد حقيقي، رغم أن البيعات التي تلقاها التنظيم لم يكتب لها نجاح وثقل كما كانت في نيجيريا وأفغانستان، حيث أصبحت هاتان المنطقتان اللتان يوجد بهما فصيلين داعشيين تشهدان عمليات تمدد شبيهة بما يحدث في العراق وسوريا.
كل هذه المعطيات تدفعنا إلى أن نتساءل عن إمكانية نجاح التنظيم في الحفاظ على الأرض والتمدد نحو أراض أخرى إذا ما تم إقرار التدخل البري الأمريكي، الذي يراه مراقبون بعيد المنال.