تعالت أصوات حقوقية إنسانية مؤخرًا مطالبة بحياء من المملكة العربية السعودية أن تفكر في جعل مخيمات مِنى ملجئًا لمهاجري سوريا بعد أن أصبح أمرهم يسهد جفون كل سياسيي العالم وإعلامييه وسائر أحرار الكلمة.
فهل هي استفاقة بعد سبات طال لسنوات ترك فيها فارون من الحرب وهمومهم؟ أم هي مخطط لم ينتبه له إلا القليلون من البشر؟
الجواب يصعب إعطاءه بمقالة واحدة لأي كان ومن يطرح السؤال أولاً، فالانتباه هنا تسبقه تخمينات وهواجس وضرورات إنسانية وسياسية ورؤى لن تكون على أي حال غير متشابكة.
ولنا أن نبدأ من البداية حتى نلامس بعض الجوانب وليس كلها، فهذه مِنى أرض الله بأحكام وتشريعات أقرتها الرسالة السماوية وليس من عهد محمد – صلى الله عليه وسلم – وفقط بل تعود إلى ملة إبراهيم أبي الأنبياء جميعًا، وهي شعيرة من شعائر الحج، فمكانتها لدى الجميع مقدسة، فلا يصح أن تصبح مكانًا لغير هذا حسب ما هو متعارف عليه، وقد كانت تقام بها أسواق للثقافة والبيع والشراء لما تحتاجه القبائل التي تقطن لجوارها للحجيج أيضًا قبل مجيء الرسالة الأخيرة، ولنا في ذلك حجج ودلائل والله يقول في قرآنه {انفروا من حيث نفر الناس}، والنفرة كائنة وهي لها، فلا أحد يكذب ذلك وبقاء الحجيج بها لأيام معدودات واجب شرعًا.
ولكن والأمر ينتهي بعدها إلى حلول عامًا آخر، فهي هكذا بلا حشود ولا تجمعات لنحر بدن ورمي لجمرات، وتنتهي الشعائر بها، وتعود لسائر حالها تعيش هدوءها.
والانتباه إلى عزلتها ومقومات الحياة بها لا تنقص في شيء من خيام ووسائل راحة ومراكز استشفاء وغيرها قد زرع بمن تنبه إلى حالها هذه الفكرة التي تخص فارين ولاجئين من ويلات حروب مدمرة، وليس لنا إلا أن نقول إن هؤلاء الفارين والمهاجرين كلهم يحتاجون معونات، بل فيهم من يريد الهروب إلى موطن آخر لأسباب متعددة، فالشاب عادة ما يرمي بنفسه في ظلمات شتى ويتذرع بعدها بسوء حاله وهو لم يجتهد يومًا بموطنه، بل بات حلم فيلم أو قصة سمعها، فانبرت أشواقه إلى معرفة سر يراه بشباب ذاك البلد وهو لا يعرف الأسباب كلها والتي جعلت من هذا الأخير رجلاً متكاملاً عملاً واتزانًا وإخلاصًا، ثم هروبه من التجنيد من كلا الطرفين معارضة وحكمًا، إضافة إلى أسباب أخرى لا يسع المقام لذكرها جميعًا.
فهل تستطيع أي دولة جعل هذا يفكر في أمر خططوه هم وهو لا يرى فيه نفعًا فقد يصبح يومًا عميلاً يبيع ساعده لمن يدفع أكثر.
ومن طرح هذه الفكرة لم يفكر في هذا لأنه قد يكون فكره إنساني بالدرجة الأولى ونحن نعرف أن النوايا الحسنة كثيرًا ما تسقط صاحبها في مستنقعات لا يسلك منها أحدًا.
ومنى الأرض المحرمة لا يصح بها أي دنس أو مروق وفجور لأنها مرتبطة بحج لا فسوق به ولا جدال وهذان سوف يكونان بلا ضوابط بكثرة، فهل التفكير في هذا يوقف نوايا وأطروحات هؤلاء، أم أن هناك حلول أخرى؟
والمتتبع للأحداث ومجرياتها عبر الوطن العربي والإسلامي يجهد نفسه في دوامات لن تبقي بأي أرض سلمًا، وحالة سوريا ساري مفعولها على كل بلدان العرب وربيعها، فلا ننتظر إلا اشتعال حروب وسفك دماء وتوطين للاجئين مثلما حدث للشعب الفلسطيني الذي بقي شتات على كل المعمورة يشار إليه بإصبع تعبر عن بؤسه وشقائه، وعزوف أبناء لسانه ومعتقده مساعدته في شظف العيش، إلا بشروط يملونها ويشترون منه رؤوس تفكر كيف تجعل من القضية ربحًا وعقارًا، ومجالسة جهابذة نخوة.
هذه الفكرة الكبيرة التي ملأت رؤوس تفكر لن تتركها تمر فسوف تجعل منها استثمار خير أو شر كل حسب فهمه وتخطيطه؛ فأصحاب الفكر الحر وباعة النوايا الحسنة سوف يشرعون التو في دراسة مفعولها الآتي عليهم بمعارضة تسيّر عبر الأثير وبلا حضور لحرس وقيادة تحسن تسيير هذا المعسكر لأنهم بكلمة واحدة لا حق لهم في التواجد بأرض هي للمسلمين وحدهم وليست للناس جميعا.
ولكن قد يجدون أتباع لهم يحسنون الرصد والتوجيه، فهل للأسرة الحاكمة سكوت على ما يجري بأرض تحسبها ملكًا لها، وهنا نجد غرماءهم لن يوفروا ذخرًا في مساندة ما طرح، فهو حلّ وبه يصلون إلى المنبع.
هذا إذا نظرنا إلى ما سوف يكون عليه رد الدول التي ضاقت بهجرة غير شرعية فباتت تتخبط في مشاكل لا حد لها، ولنا في لبنان الحاضن الأول لهم مثالاً نراه حيًا في خروج مئات الآلاف تندد بالقاذورات، فهل كانت هذه من قبل؟ رجاء لا تحملونني عنصرية فأنا أرى الأحداث من زوايا متعددة.
ثم ما هي واجبات هذا المعسكر وهو خال الوفاض لشهور عدّة، ألا يكون منفذًا سحريًا لمشكلة باتت تقرض مضاجع العاملين عليها.
وهو على هذا الشغور فلهم أن يطالبوا به المملكة وإلا أوقفوا سريان الهجرة ونزيفها فتصبح أمرًا لا حل له بين سكان الوطن المهاجرين منه، ويفتحون تحقيقات إدانة لن يسلم منها أحد من الضالعين في إثارتها ولو خفية، هذه الورقة يعرف الغرب جيدًا التلويح بها لأشخاص لا يحسنون سياسة ولا بعد نظر وإلا ما حصل من دمار وتخريب وتقهقر إلى أزمنة ظنوا أنهم انفلتوا من قبضتها القاسية.
وحجتهم واضحة فلا أحد يستطيع إقناعهم بأنها مشعر لا يجوز جعله محشر، والأصل أن من جعله محشر لأيام معدودات هم أصحاب الفتاوى الهاوية الواهية الذين لا يمتلكون من الرؤى الكثير من التبصر وإلا حج الناس جميعًا بيسر.
ولهم حجج أخرى يقدمونها وهي لا تتعارض سنة وفرض، فما يقدمه الحاج والمعتمر من صدقات تصرف إلى خزينة عامة تسهر عليها وكالات ومجموعات إنسانية تسيّر من قبلهم حتى لا تذهب الأموال إلى غير محلها، وضبط الحاجات والوافدين يقرر بإجراءات يحسنون فعلها، وهذا ليس انتقاص لمن أجاروهم، بل حتى تسري الأحوال وفق غاية يريدونها، فللسياسة أوجه تتغير.
هذا التقييم لهذا المعسكر الذي باستطاعته احتواء أكثر من ثلاثة ملايين شخص قابل للتطور بزيادة و نقصان حسب الحال، ثم ألا يسمح للحكومات الراعية لهذه الجموع إحصاء ومعرفة وتقدير ملتزمات قد تستجد ليوم ما فيعود كثيرهم إلى موطنه ومسقط رأسه بعد أن عاش بعيدًا عنه وقد ذاق من الحلو والمر لغربة قاهرة، ولا يبقى تحت ظروف يجهلها في مواطن قد لا يعرف فيها من يكون، ذاك ما نرجوه لكل غريب ديار يتعلم دروسًا جرها عليه من لا يعرفهم حسًا وشعورًا.
ونقاط أخرى تبقى عالقة لهذا الموضوع سوف تتناولها أقلام أخرى نعرف منها تقلبات الدهر، فالطريد والمغامر والمتسوق والباحث والعابث كلهم سوف يجتمعون يومًا ليعرفوا ثمن ما أجروا على أنفسهم بلا حدود يعرفونها، ومن يستقبلهم يعرف كثيرًا ويلات الحرب.