تصريحات مبهمة صدرت عن الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي حول الدستور الحالي، خاضت النخبة السياسية المصرية حولها جدلًا واسعًا بين من يرى اتجاه السيسي إلى تعديل الدستور لتعزيز صلاحيات منصب الرئيس في اتجاه واضح لتغيير نظام الحكم إلى الرئاسية المطلقة، في تهميشٍ لدور البرلمان الذي تستعد مصر لاستقباله خلال عشرات الأيام.
في حين يرى البعض أنه تم تحميل هذه التصريحات أكثر مما تحتمل، فالسيسي تحدث عن الدستور في تجمع طلابي بقوله: “الدستور المصري كُتب بنوايا حسنة، والدول لا تُبنى بالنوايا الحسنة”، وبقوله أيضًا أن الدستور “منح مجلس النواب صلاحيات واسعة”، إذن لا يعرف أحد ما هي الإجراءات اللازمة التي سيتخذها السيسي لمواجهة هذا الإفراط في النوايا الحسنة عبر إعطاء البرلمان صلاحيات لا تروق له من جانب اللجنة التي عدلت الدستور المصري عقب الانقلاب العسكري في يوليو 2013، بالرغم من كون هذه اللجنة معينة من طرف السلطة العسكرية الحاكة آنذاك.
قد يستطيع المراقبون أن يستشفوا ما وراء هذه التصريحات -التي حذفتها رئاسة الجمهورية من تسجيل هذا الخطاب الذي ألقاه السيسي لخطورة دلالتها السياسية- ، وذلك من خلال حملات إعلامية متزامنة مع خروجها، صدرت عن إعلاميين ووسائل إعلام موالية لنظام السيسي، على سبيل المثال فإن الإعلامي مصطفى بكري أحد المنافحين بشدة عن السيسي في كافة المواقف يرى أن الرئيس المصري يقصد بقوله أن الدستور الذي وضع أعطى مجلس النواب “البرلمان القادم” سلطات أكبر من سلطة الرئيس، إذن ربما هي تلك مشكلة السيسي الكبرى في التعاطي مع هذا الدستور.
في الوقت الذي ترى فيه أذرع السيسي الإعلامية أن الوضع الحالي لن يسمح بمثل هذه النوايا الحسنة، فهم حسب قول بعضهم يرون البلاد غير مستعدة لتطبيق دستور يهدف إلى النظام الهجين بين البرلماني والرئاسي، لأنه في وجهة نظرهم سيدفع البلاد إلى مشاكل أكبر، والحل من جانبهم أن يُمسك الرئيس بزمام الدولة وحده بسلطات مطلقة.
بالطبع، لم يطلب السيسي صراحة هذا لكن كما يرى محللون أن هذا هو التمهيد النيراني الذي يسبق دائمًا أي قرار فردي من الرئاسة في مصر، بحيث يخرج الموالون للنظام لتبرير أمر لم يصدر بالأساس والمطالبة به حتى يبدو مطلبًا شعبيًا تستجيب الرئاسة له بعد حين، ولكن الحقيقة تقول أنه رغبة دفينة لدى السيسي ونظامه الآن في أن يتخطى عقبة البرلمان المقبل وصداعها المزمن عبر عدة خطوات نهايتها تعديلات دستورية تجعل البرلمان يميل أكثر إلى الدور الديكوري لتجميل النظام.
وبغض النظر عن الشكل المحتمل للبرلمان القادم فإنه سيكون مصدر إزعاج للسيسي بلا شك، فعلى سبيل المثال إذا أراد السيسي تكليف رئيس حكومة جديد لتشكيل الوزارة عقب الانتخابات، فإن الدستور يشترط أن يعرض الترشيح على البرلمان أولًا، فإذا رفض البرلمان الترشيح، فإن السيسي سيضطر مرغمًا وفقًا للدستور الحالى أن يكلف حزب الأكثرية في البرلمان بتشكيل الحكومة، ثم تعرض على البرلمان مجددًا، مما يعني أن البرلمان سيكون المتحكم الرئيسي في السلطة التنفيذية.
ومع توارد الأنباء عن ضيق السيسي وإجباره على إجراء هذه الانتخابات لاعتبارات دولية قبل أن تكون داخلية، رغم تحذيرات من جهات أمنية عدة تقول أن المناخ السياسي الداخلي خاصة في ظل صراعات داخلية لم تحسم بين أذرع النظام غير موات لإجراء الانتخابات، وقد نُصح السيسي بتأجيلها مرارًا، لكنه قرر خوض المعركة بقائمة أشرف على إعدادها نجله ضابط المخابرات الحربية ليتصدى إلى لوبي رجال الأعمال الذي تردد مؤخرًا نيته السيطرة على البرلمان لمواجهة السيسي به بسبب التوترات التي سادت بين الرئاسة ورجال الأعمال بعد ظهور انحياز السيسي لإمبراطورية الجيش الاقتصادية على حساب مصالح لوبي رجال الأعمال في مصر.
بعد كل هذا يرى السيسي ضرورة تعديل الدستور المصري الحالي بتوسيع سلطاته كـ “رئيس للجمهورية”، وتقليص صلاحيات “مجلس النواب” المقبل، خاصة وأن البرلمان المقبل يُزيد من قلق السيسي من إحداث اضطراب في بنية نظامه الوليد.
إذن النوايا الحسنة في الدستور التي تضايق السيسي تعطي الحق للبرلمان في مراجعة التشريعات التي أصدرها السيسي قبل انعقاده، والتي بلغت نحو 500 تشريع لا بد من مناقشتها في مجلس النواب المقبل، في غضون 15 يومًا، بالإضافة إلى مواد أخرى في الدستور متعلقة بضرورة مشاركة البرلمان في الموافقة على إعلان الحرب أو إعلان حالة الطوارئ، وهو الأمر الذي يُهدد بلا شك طموحات نظام السيسي.
هذه المعركة شديدة الأهمية لدى السيسي على ما يبدو من خلال خطوات نظامه وأذرعه الأمنية والإعلامية التي ستمهد لإحكام السيطرة على البرلمان من جانب الموالين للرئيس، ومن ثم إشاعة أن مواد الدستور الحالية التي تُنشئ نظامًا دستوريًا مختلطًا بين الرئاسي والبرلماني لا يمكن تنفيذها مع حالة “الحرب على الإرهاب” التي تعيشها البلاد.
وهو ما يُعد مبررًا كافيًا لدى البعض لمطالبة البرلمان المقبل وبأقصى سرعة لتعديل الدستور بحسب ما يراه السيسي وهو الأمر الذي سينحى بالبلاد إلى النظام الرئاسي المطلق وفقًا لرغبة السيسي، في مقابل تقليص صلاحيات البرلمان المقبل لإزالة عقبته من أمام طموحات الرئيس.
بالرغم من كون الدستور الذي أُعد عقب الانقلاب العسكري في مصر حظي بموافقة 98% من جملة من نزلوا للاستفتاء عليه من المصريين بحسب الأرقام التي أعلنتها اللجنة المشرفة على هذا الاستفتاء، يرى السيسي أن أمر تعديله ربما لا يتجاوز قرار فردي يتخذه هو دون الرجوع إلى آليات تعديل الدستور المعقدة التي وضعت في الباب الأخير من أبواب الدستور، وترى بعض القوى السياسية المعارضة في مصر أن ثقة السيسي هذه نابعة من تجهيز المشهد المقبل في البرلمان ليكون تحت طوعه وهو الذي سيختصر بالتأكيد كل تعقيدات آليات تعديل الدستور.
وبهذا المشهد الصراعي المتخيل بين السيسي والبرلمان الذي لم يأت بعد، يراه البعض استنساخًا لتجربة تعديل دستور عام 1971 إبان حكم الرئيس الراحل محمد أنور السادات، الذي أراد هو الآخر من قبل إتاحة التمديد لرئيس الجمهورية إلى ولايات غير محددة بعد أن كان مدتين فقط، وكل هذه الإجراءات تأتي لترسيخ الحكم الرئاسي المطلق، وهو نفس ما يسعى إليه الرئيس المصري الحالي الذي أتى بعد انقلاب عسكري.