موجة يمينية تجتاح العالم، هذا ما يبدو من أحداث وانتخابات العام الماضي، بل وأحداث هذا العام حتى الآن، ففي أكبر انتخابات في التاريخ شارك فيها قرابة 800 مليون شخص في مايو 2014، انتخب حوالي ثلث مليار هندي الزعيم القومي الهندوسي نارِندرا مودي، والذي ينتمي لتنظيم RSS المتطرف وجناحه السياسي حزب الشعب الهندي BJP، في أكبر انتصار لليمين الهندوسي في تاريخ الهند، وتراجع غير مسبوق لحزب الكونجرس وأفكار مؤسسه المهاتما غاندي خاصة بين أبناء الطبقة الوسطى الذين يمكن بسهولة معرفة توجهاتهم القومية والعنصرية أحيانًا من مواقع الأخبار الهندية وتعليقاتهم عليها.
لم تكن الهند وحيدة، ففي فرنسا برزت السياسية الفرنسية مارين لو بِن زعيمة حزب الجبهة القومية وفازت بـ25% في انتخابات البرلمان الأوروبي، وهي الآن الوجه الأبرز في انتخابات الرئاسة المقبلة التي ستجري عام 2017 رُغم عدم انتمائها للأحزاب الكبرى التقليدية، وفي السويد نجح السويديون الديمقراطيون، وهو حزب اليمين المتطرف أيضًا، في دفع البرلمان السويدي لإعلان اول انتخابات مبكرة في الخمسين سنة الماضية، كما أثار اللغط حول عضو منه ظهر في حفلة مرتديًا علامة النازية الألمانية، وهي ادعاءات رد عليها رئيس الحزب قائلًا بأن التوجهات النازية موجودة بين الكثير من أعضائه.
بالاتجاه نحو شرق أوروبا سنجد ذروة الموجة الفاشية، بدءًا من المجر ورئيس وزرائها فيكتور أوربان الذي عامل اللاجئين السوريين بشكل منافي تمامًا للإنسانية ليكسب أصوات اليمين، ويبقيه بعيدًا عن غريمه الأكثر تطرفًا وهو حركة يوبيك الفاشية وواحدة من الأكثر شعبية بين الشباب، وحتى أوكرانيا التي يتصدر المشهد العسكري فيها بوجه روسيا كتائب أزوف، وهي مجموعات لا تخجل من الإفصاح عن ميولها النازية وتتمتع بدعم الرئيس بترو بوروشينكو، الذي منح بدوره الجنسية الأوكرانية لمقاتل نازي قادم من روسيا البيضاء.
رئيس الوزراء الهندي نارِندرا مودي يتوسط قيادات RSS
تلك الميول توجد مثيلاتها في موسكو حيث يقوم بوتين بتدشين خطاب قومي معادي للأجانب في روسيا، ولا يخجل هو الآخر من الاستشهاد بكتابات المفكر القومي الروسي والمتعاطف مع النازيين إيفان إليين، كما يدعم بالأموال حركات اليمين المتطرف في أوروبا نظرًا لوقوفها بوجه مشروع الاتحاد الأوروبي كما هو معروف، وحزب الجبهة القومية الفرنسي هو أشهر من تلقى الأموال الروسية صراحة ودون مواربة، علاوة على ميليشياته الموجودة بشرق أوكرانيا، والتي يتم حشدها أيضًا بالأيديولوجيا القومية الروسية، وأحلام رسم “نوفوروسيا” أو روسيا الجديدة لتمتد حدود روسيا بشرق أوروبا وتضم كافة الروس.
على الناحية الأخرى من الكوكب، وحيث يظن البعض أن أهل شرق آسيا بعيدون عن تلك الموجة، تظهر اليابان بقوة على خريطة حركات اليمين المتنامية بل والحاكمة أيضًا، فرئيس الوزراء اليميني شينزو أبِه يحكم بعد انتخابات مبكرة فاز فيها العام الماضي، وهو ممن يرغبون بمراجعة تخلي اليابان عن دورها العسكري بعد الحرب العالمية الثانية، كما أن حكومته تضم 15 عضوًا من حركة نيبون كايغي القومية، وهم من أنصار عدم الاعتذار عن جرائم طوكيو ضد الإنسانية أثناء احتلالها لكوريا وسواحل الصين في الحرب العالمية (لنتخيّل لو قالت المستشارة الألمانية مِركِل ذلك عن جرائم هتلر لنُدرك مدى حساسيته.)
القائمة طويلة بالطبع ولا تسع لكل البلدان التي وصلها اليمين، فهناك إنجلترا التي وصل فيها حزب استقلال بريطانيا لمجلس العموم لأول مرة بمقعد واحد، وتركيا التي زادت فيها أصوات الحركة القومية بحوالي 50%، في نفس الوقت الذي يشهد فيه جنوبها الشرقي عودة حزب العمال الكردستاني وخطاب القومية الكردي، ثم لننظر لأم الديمقراطية، أمريكا، والتي وصل فيها حزب الشاي المتطرف لنجاحات غير مسبوقة، وأخيرًا إلى إسرائيل التي يهيمن فيها حاليًا حزب الليكود وحلفائه من الصهاينة اليمينيين.
كتائب أزوف الأوكرانية تحمل علمها وعلم النازية وعلم حلف الناتو
لماذا تقدّم اليمين المتطرف وتراجع اليسار والليبراليون؟
منذ اندلاع الثورة الفرنسية وحتى الركود الكبير في النصف الأول من القرن العشرين، مالت الظروف عادة لصالح الأحزاب اليسارية والتقدمية، والتي بنت قواعدها الاجتماعية استنادًا لنقدها للنظام الموجود اقتصاديًا وسياسيًا، ورؤيتها الخاصة لكيفية إصلاحه، سواء أكان ذلك الإصلاح تدريجيًا أو راديكاليًا، وهو إصلاح تم بالفعل بينما رجحت كفة أحزاب اليسار المعتدل نوعًا ما وحدث التعاون بينها وبين أحزاب يمين الوسط لإصلاح المنظومة بالفعل على مدار القرن الماضي، والذي شهد نموًا اقتصاديًا متزايدًا تمتع بسببه كل جيل بمستوى معيشي ومنظومة رفاهة أفضل من الجيل الذي سبقه، وهو ما رسّخ شرعية المنظومة الديمقراطية المتأرجحة بين المحافظين والاشتراكيين.
الآن، وبينما يشهد العالم في العقود الأخيرة نمو الصين والهند والبرازيل، ومجموعات مختلفة من الدول الأصغر كإندونيسيا وتركيا، لا يبدو أن هيمنة الغرب السياسية والاقتصادية ستستمر بجلب نفس معدلات النمو والرفاهة لأهلها، بل وبالنظر لزيادة التعداد السكاني عالميًا في مقابل تضاؤل الديمغرافيا في أوروبا، يبدو وأن الاقتصاد الأوروبي سيعاني تبعات انكماش الطبقات العاملة من الشباب في المستقبل بشكل كبير، وهو ما يعني أن الأجيال القادمة ستبدأ في استشعار تراجع عجلة النمو والرفاهة، بل ولعلها تشعر بذلك بالفعل منذ الأزمة المالية التي وقعت عام 2008.
النتيجة الطبيعية كانت أنه ولأول مرة، أصبحت الظروف مواتية لنمو الحركات المتطرفة بدلًا من الإصلاحية، كما تراجعت شرعية الديمقراطية بوضوح كما رأينا في بلدان شتى وأكثرها أوروبية، وهي حركات ينفّس فيها الشباب عن غضبه من الأحوال الاقتصادية تارة، كما يطلق العنان لتوجهاته المتطرفة والعنصرية تارة أخرى، وهو أمر طبيعي لأن الأزمات الاقتصادية تتوسع لتشمل المجال السياسي والاجتماعي، وهو ربما ما يفسّر صعود النبرات المعادية للمهاجرين الذين يستشعر البعض تهديدهم للقيم الأوروبية من داخلها في الوقت الذي تتعرض فيه أوروبا لانكماش قوتها ووزنها من خارجها.
كاريكاتير يسخر من المستشارة الألمانية مرِكل واقتصاد اليورو الذي لم يحترم الديمقراطية اليونانية
علاوة على الوضع الاقتصادي المتغيّر عالميًا، يشعر الكثيرون أن المنظومات الحاكمة لبلادهم ليست في الحقيقة ديمقراطية، وأوروبا تحديدًا هي المثال الأبرز نظرًا لنمو مؤسسات الاتحاد الأوروبي في دورها وميزانياتها والسيادة التي تتمتع بها بشكل خصم كثيرًا من سيادة الدول الأوروبية منفرده رُغم أنها مؤسسات غير منتخبة بشكل مباشر، وهو ما يعتبره الملايين بطول أوروبا وعرضها معارضة صريحة للمبدأ الديمقراطي أصلًا، ويُشعرهم بأن ممارسة السياسة في بلدانهم ليست كافية لتغيير الأوضاع فيها رُغم كونها ديمقراطية، مما يفتح الباب بالتبعية مرة أخرى أمام الفكر المتطرف تجاه بروكسل ومؤسساتها.
أمريكا هي أيضًا في طريق تضاؤل شرعية الديقراطية وإن كان هذا الاتجاه بطيئًا فيها نظرًا لنموها الاقتصادي المستمر، فإن لم تكن في واشنطن مؤسسات كالاتحاد الأوروبي تسلب البيت الأبيض أو الكونجرس أيًا من صلاحياته، إلا أن الشركات الكبرى في سوق أمريكا الحر تفعل ذلك بشكل أو آخر، فأعضاء الكونجرس معظمهم من المليونيرات، كما أن الأموال تحدد بشكل كبير مسار الانتخابات الرئاسية والبرلمانية في واشنطن، ولم يكن غريبًا إذن، كما أظهر استطلاع وورلد فاليوز World Values، أنه حين سُئل الأمريكيون عن مدى ديمقراطية المنظومة الحاكمة في بلادهم، قال ثُلثهم بأنها ليست ديمقراطية على الإطلاق.
بينما يفقد العامة إيمانهم بالديمقراطية، يبدو الأغنياء هم أيضًا في طريقهم للتأثير على المنظومة نحو اليمين المتطرف أكثر من ذي قبل للحفاظ على مصالحهم، وترشح الملياردير الأمريكي العنصري دونالد ترامب هو أحد تجليات ذلك التوجه، والذي أدى لبروز حزب الشاي مؤخرًا، ولم يكن مجرد حادثًا عابرًا أو ترشيحًا استثنائيًا لرجل “أخرق” كما سمته مجلة شبيغل الألمانية يعشق الأضواء ويكره غير البيض، وهو توجه مرة أخرى سيعزز من فقدان العامة لإيمانهم بالمنظومة أكثر وهكذا تستمر الدائرة.
كاريكاتير يسخر من المرشح ترامب وأبراجه الطويلة المعروفة في مدن شتى حول العالم
لا شيء يبقى للأبد، ولا حتى الديمقراطية
لطالما آمن باحثو العلوم السياسية وعلماء الاجتماع بأن الديمقراطيات ما إن استقرت بشكل كافي وأصبحت في نظر مواطنيها المنظومة الوحيدة المقبولة، فإنها تتمتع برسوخ تام يستحيل معه تخيل انهيارها بسهولة، لا سيما وأنها تمنح العامة دورًا في إدارة الشؤون اليومية في نفس الوقت الذي تتم فيه إدارة الشأن العام السياسي والاقتصادي بطريقة رشيدة وكفء، بعيدًا عن فاشيات الحزب الواحد، بيد أن الديمقراطية على ما يبدو لم تعد المنظومة الوحيدة المقبولة في نظر مواطنيها هذه الأيام، كما أنها أصبحت محكومة بشبه فاشيات متجاوزة للأحزاب التقليدية، وهو ما ينعكس بوضوح في تراجع تلك الأحزاب أمام زحف الحركات المتطرفة.
مع صعود هذه الحركات في منظومة ديمقراطية، لن يكون صعبًا تخيل وصول أحدهم لسدة الحكم يومًا ما، وهو هاجس ينتاب الروائي المثير للجدل في فرنسا ميشيل ويلبك، والذي تتناول روايته الأخيرة وصول مارين لو بِن لجولة الإعادة في فرنسا وتهديدها للنظام بشكل تضطر معه الأحزاب التقليدية لترشيح شخصية مسلمة توافقية، وكأنها تفضل أن يحكم الإسلام فرنسا، كما يخشى أصحاب الهواجس من المتطرفين هناك، على أن تنهار المنظومة الديمقراطية، وهو مرشح يحقق الفوز فعلًا في رواية ويلبك لتبدأ الأنماط الثقافية الإسلامية في التسلل بشكل أفقي عبر المجتمع الفرنسي.
لو بِن هي في الحقيقة الشخص الأبرز في أجندة الانتخابات الأوروبية، والتي من المتوقع أن تصل للإعادة في 2017 في تحقيق لنبوءة ويلبك، ولكن بغض النظر عن شخصها، وبالنظر للأحوال في الغرب، وهو مهد الديمقراطية، يبدو أن العملية السياسية التقليدية قد فقدت بريقها بالفعل لصالح حركات شبابية تجد في النازية بديلًا أكثر إثارة على الأقل وإن لم يكن بديلًا أفضل، وهي حركات لن ينافسها مستقبلًا ربما سوى تضاؤل أعدادها هي ديمغرافيًا مقابل المهاجرين وأغلبهم مسلمون، مرة أخرى في تحقيق لنبوءة ويلبك بأن المهاجرين يومًا ما قد يكونوا عامودًا لاستمرار الديمقراطية في أوروبا، وفي نفس الوقت ربما سببًا لتآكلها بثقافتهم المحافظة “غير الديمقراطية.”
في النهاية لا يسعنا إلا أن نقول أن تراجع الديمقراطية في حد ذاته ليس خطورة على الحضارة، بل لربما كان الإيمان المُطلَق بها والاعتقاد بأنها كمنظومة حاكمة لعالم ما بعد الحرب العالمية الثانية قابلة للاستمرار للأبد هو المشكلة الأساسية، فالتاريخ يقول لنا أن المبادئ والأفكار السياسية تتبدل بتبدّل أحوال ومصالح الأمم، وأن الثابت فقط هو بحث الأمم الدائم على مر العصور عن منظومة سياسية كفء لإدارة شؤون العامة وخدمتهم، أما الخطر الرئيسي حاليًا فهو أن التراجع يتم لصالح تقدّم الحركات اليمينية المتطرفة، والتي رُغم عدم قدرتنا على إنكار أسباب صعودها الحقيقية الكامنة في مساوئ المنظومة الديمقراطية، إلا أننا لا يمكن بحال أن نغفل أنها ستعود بالعالم للخلف ولن تقدّم البديل الذي يطمح له الكثير من “نقاد الديمقراطية.”
من يسعه أن يقدّم بديلًا كهذا إذن؟ للحديث بقية.