تحولت فكرة السيطرة والسطوة من قبل الاحتلال الإسرائيلي على المسجد الأقصى إلى بث أفكار تمهد لتهويده، من قبيل أفكار التقسيم المكاني والزماني بين المسلمين واليهود، فتغيرت سياسة الاعتداء من مجرد اقتحام المسجد الأقصى وإيذاء المرابطين والمعتكفين داخله، إلى الاقتحام لتمهيد نشر فكرة التقسيم الزماني للمسجد وساحاته بين الفلسطينيين والإسرائيليين، ليكون المسجد ملكًا للمسلمين أوقات الصلاة فقط وما عادها فهي أوقات المستوطنين للتواجد داخل ساحاته، كخطوة استباقية للتقسيم المكاني للمسجد الأقصى، فيما يعتبر فلسطينيون أن هدف التقسيم الزماني والمكاني الأساسي يتمثل في تغيير النهج المتبع من قبل الاحتلال من الاعتداء على المسجد الأقصى إلى الاعتداء على هوية المسجد الأقصى.
تلا تلك المحاولات في ترويج ونشر مثل هذه الأفكار لبسط السيطرة بشكل مشروع على المسجد الأقصى، حديث حزب الليكود الإسرائيلي مطلع العام الجاري حول فرضية تطبيق تلك الفكرة في التقسيم حال نجاحه في فرض سيطرته على المسجد الأقصى وذلك من خلال الاقتحامات المتكررة له، وافترض الحزب أنه سينجح في فرض فكرة التقسيم الزماني عنوةً تليها خطوة أخرى لفرض التقسيم المكاني بكثرة اقتحامات المسجد الأقصى من قبل المستوطنين وقوات الاحتلال، وقال الحزب آنذاك أنه حال اتمامه تلك الخطوات كما رتب لها، فإنه سينجح في بناء الهيكل الثالث مكان قبة الصخرة بمعاونة دولية ومحلية، وذلك وفق حسابات ومخططات الحزب الحاكم في إسرائيل الذي يتزعمه بنيامين نتنياهو، الذي حصد أغلبية المقاعد في الانتخابات التشريعية في مارس/آذار الماضي بزخم الدعوة إلى بناء هذا الهيكل.
الحزب اليميني في إسرائيل دعا أنصاره لمشاركة واسعة في اقتحامات المسجد الأقصى الأخيرة التي بدأت منذ مطلع الأسبوع الحالي، واعتبر الحزب في إعلانه المنشور على مواقعه الإلكترونية أن مشاركتهم في اقتحامات المسجد الأقصى “لأجل القدس والمدينة المقدسة”، وأضاف في رسالته للمستوطنين: “اعمل لأجل تسيون… شباب الليكود يدعوكم لمشاركتنا في الصعود لجبل الهيكل”، كما أعلن الحزب أن الاقتحام سيكون نوعي ويأتي ضمن احتفالاتهم بأيام التوبة التي تسبق عيد الغفران التلمودي.
تزامنت بداية الأعياد اليهودية الأحد الفائت مع بداية آخر سلسلة من الهجمات الصهيونية الشرسة على المسجد الأقصى، تزعمها تلك المرة رفقة رسمية من وزير الزراعة أودري أرئيل، الذي أعلن عزمه آداء الصلاة اليهودية في باحة المسجد الأقصى وعدم الاكتفاء بزيارة المكان. وقد قامت قوات الاحتلال وعشرات المستوطنين باقتحامات يومية للمسجد الأقصى، أصابوا فيها عشرات من المعتكفين والمصلين بالمسجد جراء استخدام الرصاص والقنابل الغازية والصوتية، كما ألحقوا أضرار بالغة في محتويات المسجد ونوافذه وتسببوا في دمار نسبي بمختلف أركان وباحات المسجد الأقصى، كما أحرقوا خلال تلك السلسلة من الاقتحامات جزءً من محتويات المصلى القبلي، في حين تم تضييق الخناق وتشديد الإجراءات على المصلين ومنع كل من دون الخامسة والأربعين من الوصول للمسجد.
إجراءات إسرائيلية مهدت لتقسيم المسجد الأقصى
تلك الاقتحامات العنيفة أعقبتها تصريحات إسرائيلية من رئيس الوزراء بنيامين نتانياهو أكد فيها سعيهم الدؤوب لتقسيم المسجد الأقصى زمانيًا ومكانيًا، إذ قال أنه يريد الحفاظ على الوضع الراهن في المسجد الأقصى والذي يجيز للمسلمين الوصول إلى المسجد الأقصى في كل ساعة من ساعات النهار والليل، ولليهود بدخوله في بعض الساعات بخلاف أوقات صلاة المسلمين، لافتًا إلى تحرك إسرائيل بكل الوسائل للحفاظ على الوضع الراهن في “جبل الهيكل”، ويعني المسجد الأقصى، وكانت مصادر مقربة من الرجل قد تحدثت عبر صحيفة معاريف الإسرائيلية عن زيارة قريبة لنتنياهو إلى المسجد الأقصى للوقوف على الأوضاع الأمنية هناك، كما تحدثت عن استنفار أمني إسرائيلي وتعزيزات أمنية كبيرة في القدس تحسبًا لوقوع أية مواجهات إسرائيلية-فلسطينية.
المخططات الرامية إلى فرض التقسيم لم تتوقف عند هذا الحد وحسب، بل إن رئيس الوزراء الإسرائيلي عقد اجتماعًا ضم عددًا من الوزراء المعنيين بالقدس وقادة أمنيين بينهم وزير الأمن الإسرائيلي، موشيه يعالون، ووزير الأمن الداخلي غلعاد إردان، ووزيرة القضاء أييلت شاكيد والنيابة العامة، بالإضافة إلى المستشار القضائي للحكومة يهودا فاينشطاين، وذلك لمناقشة آليات التصدي للمصلين والمعتكفين بالمسجد الأقصى الذين يعوقون قوات الاحتلال والمستوطنين من تنفيذ مخطاطتهم، وأكد الرجل في اجتماعه أنه يسعى للسماح للمستوطنين بدخول المسجد الأقصى في أي وقت، كما سيمنع أي اعتداءات ضدهم تمنعهم دخول المسجد، وسمح للشرطة باستخدام الرصاص ضد أي شخص يصد المستوطنين عن دخول المسجد الأٌصى.
كما أكد أن الشرطة الإسرائيلية سيكون بإمكانها استخدام الرصاص وبنادق القنص ضد المرابطين في المسجد الاقصى، كما أكد أنه سيسرع في سن قوانين صارمة تتعلق بإصدار أحكام بالسجن الإداري وهدم المنازل وفرض غرامات على عائلات “رماة الحجارة” والمولوتوف والألعاب النارية، فيما تحدثت القناة العبرية الثانية عن اتخاذ الاحتلال خطوات أمنية جديدة في القدس بحسب أوامر رئيس الحكومة من فرض سنوات بالسجن تصل من 5:4 سنوات لكل من يلقي الحجارة، و10 سنوات لمن يقذف زجاجة حارقة، إلى فرض غرامة مالية تصل إلى 100 ألف شيكل لذوي القاصرين الذين يرشقون الحجارة.
رافق ذلك إجراء مسبق من الكنيست الإسرائيلي الذي كان قد أقر قانون مكافحة الإرهاب الإسرائيلي الشهر الماضي بالقراءة الأولى، والذي بموجبه تفرض عقوبة تصل إلى 20 عامًا سجن لقاذفي الحجارة، كما حوت بعض بنوده على أدوات جديدة تمكن إسرائيل من قمع أي نشاط احتجاجي معارض لها، وبين إقرار الكنيست للقانون وسلسلة الاقتحامات الأخيرة، كان قرارًا من وزير الدفاع الإسرائيلي موشيه يعالون الأربعاء، بحظر جماعة “المرابطون” التي تضم نساءً ورجالًا بالمسجد الأقصى، معتبرًا إياها سببًا في خلق التوتر والعنف، وتسعى إلى تقويض سيادة إسرائيل على جبل الهيكل.
وبحسب مسؤولين فإن الاحتلال قد فرض حظرًا على جماعتين فلسطينيتين إسلاميتين وهما “المرابطين” و”المرابطات” بتهمة أنهما شاركتا في احتجاجات عند المسجد الأقصى منددة بالزيارات المتزايدة للمستوطنين، هذا بالإضافة إلى إعداد قوائم بأسماء الناشطين والناشطات واستصدار أوامر لمنهم منع دخول المسجد الأقصى، والتي لا طالما استخدمها الاحتلال في إبعاد من لا يرغب خاصة من النشطاء وذوي التأثير عن باحات المسجد الأقصى المبارك.
يجدر الإشارة إلى أنه في مايو\آيار الماضي تقدم عدد من أعضاء الكنيست الإسرائيلي بمسودة اقتراح مشروع قانون يُقنّن دخول اليهود المسجد الأقصى لإقامة صلواتهم، ويقضي كذلك بفرض غرامات وعقوبات على المتصدين من الجانب الفلسطيني لاقتحامات المسجد الأقصى، ويقترح القانون بشكل أساسي اعتماد التقسيم الزماني والمكاني، كما ناقش القانون بناء كنيس يهودي بجانب المسجد القبلي المسقوف، وهددت حينها المتقدمة الرئيسية بهذا الاقتراح لمشروع القانون “ميري ريجب” من حزب الليكود التي تترأس لجنة الداخلية بالكنيست بأنها ستعمل على إغلاق المسجد الأقصى المبارك أمام المسلمين، في حالة تصديهم لمثل هذه الصلوات او الاقتحامات، وتزامن معه تصريح من نائب وزير الأديان الإسرائيلي “إيلي بن دهان” أكد فيه أنه أنهى وضع لوائح وترتيبات وتشريعات لصلوات يهودية في المسجد الأقصى، وهي بانتظار مصادقة “نتنياهو” فقط، بحسب ما ذكرته صحيفة “يديعوت أحرونوت “.
تقسيم الأقصى بغلاف ديني إسرائيلي
ولا يشكل التقسيم المكاني والزماني هاجسًا لدى السياسيين الإسرائيلين وحسب، بل إن الموضوع يشغل بال رجال الدين منهم بشكل كبير، مع إدعاءات الحاخامات بعدم شرعية تواجد المسلمين بالمسجد الأقصى، وتحاول إسرائيل تعضيد ذلك تاريخيًا من خلال إقامة الحفريات التي بدأت أولى مراحلها بعد حرب 1967 لتبرير مزاعمهم أنهم أصحاب الأرض، وأن عودتهم المزعومة إلى أرض إسرائيل قد جاءت من منطلقات دينية، وليست بدوافع سياسية أو اقتصادية فقط، كما أن وزارة الأديان الإسرائيلية تسعى عبر مساعٍ رسمية وقانونية إلى التقسيم بدعوى أن منع اليهود من أداء طقوسهم فيه خرق لحرية العبادة.
المفوضية اليهودية التي توازي دار الأوقاف الإسلامية في العمل والتي أقيمت في مايو\آيار من العام 2014، حتى تعمل على تقنين اقتحامات اليهود لساحات الحرم وإقامة الصلوات والشعائر التلمودية، أشرفت على متابعة الخطط التي كانت تعدها اللجان البرلمانية المختلفة في الكنيست الإسرائيلي بشأن تأمين اقتحامات اليهود للمسجد خلال موسم الأعياد اليهودية وغيرها من الأمور التي مهدت لتطبيق فكرة التقسيم المكاني والزماني.
ماذا يعني التقسيم الزماني والمكاني للأقصى؟
المشروع الذي يهدف لتقسيم المسجد الأقصى بين المسلمين وإسرائيل يحمل شقين وهما، التقسيم الزماني والتقسيم المكاني، وكانت إسرائيل قد بدأتهما بشكل عملي بالفعل، أما الأول فيعني تخصيص أوقات معينة لدخول المسلمين المسجد الأقصى وأخرى لدخول اليهود، ويقتضي منه اقتسام ساعات اليوم وأيام الأسبوع والسنة بين اليهود والمسلمين، ومن خلاله يرى الجانب الإسرائيلي أنه يستوجب على المسلمون على مغادرة الأقصى من الساعة 07:30 حتى 11:00صباحًا، وفي فترة الظهيرة من الساعة 1:30 حتى 2:30، وفترة ثالثة بعد العصر، لتخصيص هذا الوقت لليهود بحجة أنه لا صلاة للمسلمين في هذا الوقت ليتم السماح لليهود بأداء ثلاث صلوات في اليوم داخله، كما يتم تخصيص المسجد الأقصى لليهود خلال أعيادهم، والتي يقارب مجموع أعدادها نحو 100 يوم في السنة، إضافة إلى أيام السبت طوال السنة، كما يحظر رفع الأذان خلال الأعياد اليهودية.
أما التقسيم المكاني فيعني تخصيص أماكن بعينها في المسجد الأقصى لكلًا من الطرفين، إذ يهدف إلى تخصيص أجزاء ومساحات من المسجد الأقصى يقطتعها الكيان الإسرائليلي ليحولوها لكنائس يهودية لأداء صلواتهم فيها، وقام الاحتلال خلال الفترات السابقة بتصويغ طرق ومسارات خاصة لهم للتمهيد للتقسيم المكاني، ويشمل التقسيم المكاني كذلك بسط السيطرة بالقوة على جميع الساحات الخارجية للمسجد الأقصى أما الأماكن المسقوفة مثل مصلى قبة الصخرة والمصلى المرواني فتكون للمسلمين، ويشمل هذا التقسيم مخططات لبناء الكنيس اليهودي والهيكل، فلم تعد تخفى تلك المطامع، بل بات التصريح بها أمرًا عاديًا وحقًا مشروعًا كما يرى الجانب الإسرائيلي.
زادت وتيرة المطالبات بالتقسيم الزماني والمكاني بداية العام الحالي، وزادت معها وتيرة الإجراءات التعسفية، ففي رمضان الماضي سمحت سلطات الاحتلال للمصلين بدخول المسجد بحرية طيلة الشهر وبمجرد انتهائه بدأت سياستها التعسفية وقالت أن الوقت قد آن لدخول اليهود المسجد الأقصى وإقامة صلواتهم، رغم أنه ومنذ احتلال شرقي القدس في حرب الخامس من يونيو\حزيران 1967، سعت إسرائيل لتقسيم المسجد الأقصى في البداية لينتهي الأمر بهدمه وإقامة الهيكل، إلا أن أوراقها في هذا الصدد باتت معلنة وخطواتها مرتب لها ومعلومة.
لم يعد أمر التقسيم الزماني والمكاني للمسجد الأقصى بالقدس مخططًا، بل بات أمرًا واقعًا تعمل السلطات الإسرائيلية على تطبيقه بالقوة، إذ بات هذا الأمر يحتل قائمة الأولويات الكبرى لدى الاحتلال، وهذه الخطوات المتسارعة التي تقوم بها سلطة الاحتلال، لا تؤكد غير إصرارها على المضي قدمًا في مخطط التقسميم الزماني والمكاني للمسجد الأقصى، كما حدث منذ 22 عامًا تقريبًا مع الحرم الإبراهيمي بمدينة الخليل.