يشهد العالم العربي اليوم موجة نزوح كبيرة لكنها ليست المرة الاولى . شهد الوطن العربي منذ قرن والى اليوم عدة هجرات، منها ما كان له نتاج ادبي اثرى الادب العربي ومنها ما لم يخلف اثرا ادبيا يذكر .
أول موجة نزوح عربية بدأت في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، تحديدا السنوات الاخيرة منه شهدت ازدياد عدد المهاجرين من سواحل بلاد الشام الى العالم الجديد ” الأميركتين ” . قدرت اعداد من هاجر حينها ب 800.000 مهاجر . ازدادت نسب الهجرة في السنوات التالية حتى تجاوزت المليون في مطلع القرن العشرين . كان لهذه الهجرة اسباب :
– اسباب اقتصادية : اهمال الزراعة و الصناعة و تفشي الفقر و المجاعة
– اسباب اجتماعية : سيطرة الاقطاع على ثروات البلاد والصراع المستمر مع الطبقة الوسطى
– اسباب طائفية : الفتنة الموجودة بين المسلمين و النصارى و الدروز، وبالأخص في لبنان .
كل هذا وغيره دفع شريحة كبيرة من الناس الى المغادرة من ضمنهم شريحة كبيرة من المثقفين و الرواد.
ولما كان الأدب هو أحد أشكال التعبير الإنساني عن مجمل عواطف و أفكار و هواجس الإنسان بأسلوب فني. و لما كان الأدب يسير جنبا الى جنب مع الحياة و يستقي منها؛ كان من الطبيعي ان يتأثر الادب بالظروف التي تؤثر بالمجتمع . ونتيجة لهذا التأثر فقد تطور الادب العربي وتغير على يد هؤلاء المهاجرين الذين استحدثوا نوعا جديدا من الادب، عرف فيما بعد ب ” أدب المهجر “.
ثار ادباء المهجر على اللغة القديمة والاساليب النمطية نتيجة انفتاحهم على الحياة الغربية والأدب الغربي عامة و المدارس الفكرية الحديثة .
كان لأدب المهجر و بالأخص الشعراء الاثر الكبير على اثراء الادب العربي حيث عملوا كحلقة وصل بين الشرق و الغرب. نقلوا الاساليب الغربية الجديدة الى الادب العربي و نقلوا الحضارة العربية الى الغرب؛ بنتاجهم الادبي، الانشطة التي قاموا بها، و الترجمات التي نقلوها من و الى العربية . شكلوا العديد من الروابط و الاندية الادبية أبرزها ” الرابطة القلمية ” في امريكا الشمالية و ” العصبة الاندلسية ” في امريكا الجنوبية . وعلى سبيل المثال لا الحصر وممن لمع نجهم عربيا وعالميا : جبران خليل جبران، حيث بقي كتابه ” النبي ” ضمن اكثر الكتب مبيعا في العالم منذ صدوره 1923 الى يومنا هذا . كما احتل ايليا ابو ماضي مرتبة فريدة ضمن شعراء المهجر خاصة بعد اصداره مجلة ” السمير ” التي كانت ملتقى لكل شعراء المهجر فنشروا فيها اشعارهم وبقت مرجعا مهما الى الان . اما ميخائيل نعيمة فكان له نتاج غزير في كل من الشعر و النثر وله العديد من المؤلفات في القصة و النقد و الرسائل و السيرة الذاتية و الترجمة .
مخيم لجوء من القرن الماضي
استمرت الهجرات من الوطن العربي في السنوات التي تلت، لكنها كانت فردية و متقطعة و لم ترق لنزوح جماعي الى ان حدثت الهجرة الكبرى التالية في فلسطين عامي 1948 و 1967 اثناء العدوان الاسرائيلي . حيث نزح في الاولى اكثر من 800.000 لاجئ و في الثانية 450.000 . انتقل المهاجرون في الاولى الى الاردن ولبنان و الدول العربية المحيطة، اما في الهجرة الثانية فقد انتشروا في شتى بقاع العالم . لم تسفر هذه الهجرة عن ظاهرة ادبية بسمات واضحة و بقي الادباء داخل فلسطين بمكانة مرموقة اكبر و اثر اكبر على المجتمع . من ابرز شعراء هذه الفترة : محمود درويش و سميح القاسم .
كانت موجة الهجرة الكبيرة التالية من نصيب العراقيين بعد حرب الخليج الثانية تحديدا عام 1991 ، حيث نزح من العراق اكثر من مليونين لاجئ اغلبهم من الاكراد والعرب الشيعة . جاءت هذه الهجرة نتيجة لفشل ثورة شعبية ضد نظام الحكم آنذاك . تلتها موجة تطهير عرقي في المحافظات الشمالية والجنوبية مما دفع السكان الى النزوح خوفا من بطش النظام . نزحوا الى الدول القريبة المحيطة مثل سوريا و الاردن و لبنان بالإضافة الى السعودية . لم تنتج هذه الموجة اي حركة ادبية مؤثرة ايضا وكانت فترة ركود مقارنة مع الازدهار الذي شهده النصف الاول من القرن العشرين .
اليوم يشهد الوطن العربي اكبر موجة نزوح داخلية و خارجية. و الاف المهاجرين يعبرون يوميا عبر المتوسط الى اوربا بعد ان اغلقت الدول العربية بابها امام اللاجئين السوريين، العراقيين و الفلسطينيين . ابتدأت موجة النزوح بعد ثورات الربيع العربي الا ان الهجرة هذا العام سجلت ارقام قياسية متجاوزة كل السنوات الماضية . تقدر اوربا اعداد الذين وصلوا اليها اليوم بأكثر من نصف مليون لاجئ و يتوقع زيادتهم الى المليون مع نهاية العام الجاري، حسبما افادت المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين . هذا بالإضافة الى المهاجرين الذين نزحوا في الاعوام الماضية، والمهاجرين الذين اتجهوا لآسيا و امريكا.
ينزح العرب اليوم متجهين الى اوربا عبر البحر بعد ان اغلقت في وجههم جميع المنافذ الاخرى . المهاجرون العرب من مختلف الجنسيات الا ان النسبة الاكبر للسوريين و العراقيين و الفلسطينيين و لا تختلف اسباب هجرة القرن الواحد والعشرين كثيرا عن اسباب هجرة القرن التاسع عشر :
أسباب امنية : يهرب معظم اللاجئين من بلدانهم بسبب الحروب.
أسباب اقتصادية : تردي الاوضاع الاقتصادية وتفشي الفقر بعد اهمال الزراعة والتجارة و السياحة في ظل الحرب و فساد الانظمة الحاكمة في سوريا و العراق .
اسباب اجتماعية : انعدام فرص العمل والعدالة الاجتماعية و تركز ثورات الشعب لدى الطبقات الحاكمة .
أسباب طائفية : الفتنة بين الشيعة و السنة و الاحزاب الدينية المتطرفة و الاقليات من الاديان الاخرى .
أسباب سياسية : أذ أن الانظمة السياسية العربية الحاكمة لم تعد تستطيع مجاراة العصر ولا تلبية حاجات المواطنين . فتسبب هذا التخلف السياسي في ظهور جميع الاسباب التي سبق لنا ذكرها .
لوحة التغريبة الفلسطينية للفنان جميل بدوان
يذهب اللاجئون اليوم الى اوربا طمعا بغد افضل بعد ان باتت الحياة في بلدانهم مستحيلة . ضمن صور المهاجرين التي نراها اليوم، يصعب علينا تحديد ماهيتهم و وظائفهم و ماذا كانوا في بلدانهم و لكن مما لا شك فيه ان من بينهم طبقة كبيرة من المثقفين و المتفوقين و اصحاب الشهادات . لكن هل سيكون لهم نتاج ادبي و تأثير على مجتمعاتهم الاولى كما كان لمهجري النزوح الاول ؟