لم يكن الربيع العربي الذي انطلقت شراراته من تونس مُرحّبا من طرف دول عديدة خشيت أن يصلحها مدّ انتفاضات الشعوب على حكومات القهر والإستغلال؛ دولة الإمارات لم تكتف بالخشية بل مضت في عمليات استباقية كان عنوانها إفشال مشاريع الإنتقال الدّيمقراطي في دول الرّبيع حتى لا تكون مُحفّزا لباقي الشّعوب.
ولئن كان التّدخل الإماراتي في مصر وليبيا بالخصوص واضحا وضوح الشّمس، اُختير لتونس اللعب في مناطق الظّل رغم الإتفاق على نفس الرّؤية : إفشال التّجربة.
هذا الموقف الإماراتي الحادّ تجاه حكومات ما بعد الثّورة لم تُفلح مُبادرات تلطيف الأجواء التي بذلتها الحكومات التّونسية المُختلفة في زحزحته ولو قليلا، ورغم أن صانع القرار الإماراتي راهن بالمكشوف على حزب نداء تونس في الفترة التي سبقت الإنتخابات ليُقصي حركة النّهضة من المشهد السياسي التونسي، ورغم نجاح “حصانها الرّابح” في التّقدّم في الإنتخابات البرلمانية الأخيرة وبالتّالي قيادته للتحالف الحكومي، ظل البرود الدّبلوماس بين الدّولتين واضحا. برود صامت أخرج للعموم مُؤخّرا بعد تأكّد التّونسيين من وجود قرار سياسي يمنع منح تأشيرات للتونسيين أو حتّى تجديد تأشيرات الإقامة لمن تحصّلوا عليها سابقا.
في هذا السياق، ونقلا عن صحيفة الشروق التونسية، أطلقت مجموعة من التونسيين حملة جمع امضاءات تتعلق بلائحة ستوجه الى الرّئيس التونسي، الباجي قائد السبسي، للفت نظره الى الاضرار الاقتصادية والاجتماعية التي لحقت بهم بعدما بات واضحا تراجع السلطات الاماراتية على منح التأشيرة، وعلى عدم تحديد إقامات التونسيين المقيمين في الامارات العربية المتحدة الذين انتهت مدة صلوحية وثائق إقامتهم.
حين يُمنع أطبّاء من حضور مُؤتمرات علمية دولية فقط لأنهم تونسيون
انكشاف الفيتو الإماراتي تُجاه التّونسين ليس وليد اليوم في الحقيقة؛ في شهر مارس/آذار الماضي، رفضت السلط الإماراتية تمكين طالبين وأستاذ جامعي تونسين تأشيرة الدخول لأراضيها لحضور فعاليات مؤتمرين علمييين وهما المؤتمر العالمي حول التبغ أو الصحة في نسخته السادسة عشرة والمؤتمر ومؤتمر حول البحث الإكلينيكي في دول المغرب العربي على التوالي، رغم أنّ تنظيمهما كان من طرف منظّمات دولية وليس دولة الإمارات.
ياسين وإسكندر السافي طالبين متميزين نجحا في شدّ انتباه منظّمات عالمية فوجّهت إليهما دعوة لحضور مُؤتمر دولي، عانا الأمرّين من أجل توفير كلفة السفر والإقامة بهدف التّزوّد العلمي، إلا أنهما مُنعا من الإلتحاق بزملائهم من العالم أجمع لاعتبارات سياسويّة لا علاقة لها بمجال الطّب ولا العرف الأكاديمي بالمرّة.
وفي تعليقه حول الحادثة، قال ياسين أنه تعجّب مما تعرّض له، وإنه من غير المعقول أن يحق لأشخاص لا دخل لهم لا بالعلم و لا بالصحة و لا بالبحث العلمي ان يرفضوا حضور طالب أو باحث في ظل حضور العشرات من جنسيات أخرى، وأضاف أنّ المشهد لا يمكن إلا أن يُشعرك بالذل و المهانة، وأنه تعرّض للمرّة الأولى في حياته لما أسماه “تمييزا عنصريّا” فقط لأنه من بلد لا يعج بمليارات الدولارات من البترول؛ تجدرالإشارة إلى الحركة الإحتجاجية التي قام بها أطباء من الولايات المُتّحدة الأمريكية وطبيب سوري من خلال مُقاطعة المُؤتمر تضامنا مع الشابين.
الطّالبين السّابق ذكرهما لم يكونا استثناء في الحقيقة، إذ تمّت مُعاملة البروفيسور الحبيب غديرة بالمثل، وهو بروفيسور في الطب وله إسهامات بحثية هامّة جدا في المجال الطّبي. في حديثه حول ما تعرّض له، قال غديرة أنّه وبناء على دعوة من طرف منظّمي مؤتمر حول البحث الإكلينيكي في دول المغرب العربي كأستاذ مُحاضر،فتوجّه لسفارة الإمارات بطلب الفيزا لمدة 4 أيام ليتمّ رفض طلبه ما اضطرّه لمُهاتفة السّفارة باعتبار أن الرّفض لم يكن مُعلّلا فكانت الإجابة : “الأمر لا يتعلّق بشخصك، بل فقط لأنك تونسي”.
ما أسباب هذا السّلوك العدائي؟
أن تتجمّد العلاقات الدّبلوماسية خلال عهد حكومة الترويكا كان يُمكن أن يُبرّر بالحاجز النّفسي الذي بنته الإمارات تُجاه كل القوى التي كانت ترفع شعار التغيير والدّفاع عن حق الشّعوب في تقرير مصيرها، إلا أن تواصله في عهد حكومة حزب نداء تونس، وهي التي أهدت لرئيسه سيارتين مُصفّحتين خلال حملته الإنتخابيّة، يطرح أكثر من تساؤل.
بعض التّحاليل أرجعت هذا السّلوك العدائي إلى مشروع سما دبي، وهو مشروع استثماري عملاق تعهّدت شركة سما دبي بإنجازه في تونس، إلا أنها أخلّت بالتزاماتها لتُرفع بها قضيّة وبرئيسها محمّد بن راشد المكتوم، نائب رئيس دولة الإمارات، ما استوجب بحسب بعض المصادر الإعلامية التونسية بطاقة جلب دولية في حقّه، وهو ما لم تستغه الإمارات قبل أن تتراجع الدّولة التونسية عن مسار التّقاضي.
وفي الحقيقة، تبدو الأمور أعقد من أن تتعلّق بمشروع استثماري، ولعلّ الرّجوع لتصريح الصّحفي سفيان بن فرحات، وهو صحف تونسي مُقرّب من دوائر الحكم في تونس، حينما قال إن الرئيس التونسي الباجي قائد السبسي أبلغه في لقاء خاص بأن دولة الإمارات العربية المتحدة ربطت أي مساعدة اقتصادية لتونس بتكرار “المشهد المصري” واستبعادة الإسلاميين تماما من الساحة.
وقال بن فرحات في حديث في برنامج أخبار قناة نسمة ،إن السبسي أسر له في لقاء شخصي بأن المعونات الاقتصادية التي كانت مُنتظرة من الإمارات “كلفتها باهظة”، وبأن للإماراتيين “أجندة سياسية” لا يمكنه المضي في تحقيقها، باعتبار أنهم يريدون صراحة إعادة إنتاج المشهد المصري في تونس، في إشارة إلى الانقلاب واستبعاد الإسلاميين.
ويبدو أن عدم مُضي الرّئيس التونسي في الإستجابة لرغبة الإمارات في سحق إسلاميي تونس أسوة بما نجحت في مصر يقف وراء هذا البرود الذي أصبح مكشوفا والذين شمل حتى المواطنين العاديين من خلال رفض تمكينهم من تأشيرات في حين يدخل الإمراتيون تونس بدون تأشيرة حتّى.