ترجمة وتحرير نون بوست
اثني عشر شخصاً لقوا حتفهم بسبب النهج المتغطرس الذي تنتهجه قوات الأمن المصرية، عموماً، والمتمثل بإطلاق النار أولاً ومن ثم طرح الأسئلة.
مجموعة من السياح المكسيكيين كانوا يقومون برحلة إلى الواحات الخضراء في الصحراء الغربية المصرية، وتوقفوا في استراحة لتناول وجبة من الطعام في إحدى الاستراحات التي تبعد عن الطريق العام بمسافة لا تتجاوز الـ500 متر، ولكنهم لم يتوقعوا بأن أغلبهم سيسقط بين قتيل وجريح بعد هنيهات.
هذا الحادث لايمثل حادثاً بالوصف الدقيق للكلمة، بل إن ما جرى يمثل كارثة صحراوية تجسد اللامبالاة العنيفة بحياة البشر التي تضرب بجذروها عميقاً داخل جسد أجهزة الأمن المصرية، وهذا “الحادث” المأساوي يعيد إلى الأذهان ذكريات أشد مأساوية، ويرسخ في الألباب فكرة وصول العنف الغير الخاضع للمساءلة إلى نقطة لم يعد معها تصرفاً من قبيل الصدفة، بل أضحى روتيناً يمارس بانتظام.
المعلومات التي يتحكم بها النظام
ما نعرفه عن الحادثة، هو قيام جماعة الدولة الإسلامية (داعش) بادئ ذي بدء ببث صور مخيفة تهدف إلى اثبات صدها لهجوم قوات الأمن المصرية، وتدميرها لمركبات الجيش المصري، كما عرضت جثة مقطوعة الرأس لجاسوس تابع للجيش المصري.
وفي ذات اليوم، قامت قوات الأمن المصرية بإهمال منقطع النظير بإزهاق حياة اثني عشر روحاً بريئة، وبدون شك، أولئك الذين قضوا نحبهم يمكننا وصفهم ببساطة بأنهم ضحايا لجرائم قتل.
هناك بعض الأدلة الحاسمة التي ظهرت بالفعل لتتصدى بقوة للرواية الرسمية، وعلى وجه الخصوص التصريح بالمرور الذي وقعته السلطات بموافقتها على مرور رحلة السفاري الطويلة للسياح بجزء من المنطقة الصحراوية المصرية، والتي تبين وصول المجموعة إلى المنطقة في يوم 13 سبتمبر.
ووفقاً لتصريح نشرته صحيفة دي فيلت عن أحد المسؤولين من شركة ويندوز مصر، وهي الشركة المسؤولة عن رحلة السفاري للسياح، فإن إطلاق النار حصل في حوالي الساعة الثانية ظهراً بالتوقيت المحلي، بالتزامن مع تجمع السياح لتناول الطعام.
أما وفقاً لبيان الحكومة الرسمي، فإن الحادثة وقعت “إبان مطاردة كانت تقوم بها قامت قوات الأمن، وتصادف حينها وجود قافلة من الحافلات السياحية التي تقل السياح المكسيكيين، وحينها وقع إطلاق النار بالخطأ”.
هذه الرواية لا تتناغم مع القصة التي روتها مصادر شركة ويندوز والتي تقول بأن المجموعة المؤلفة من 14 مكسيكياً وامرأة واحدة من الولايات المتحدة “سلكت مجراها المعتاد، في ظل وجود الحراسة الأمنية”، وأكد أحد المصادر بأن الطريق الذي سلكته قافلة السياح هو “ذات الطريق الذي سمحت لهم قوات الأمن بعبوره مسبقاً”.
هذا الرواية يدعمها وجود عناصر من الشرطة المحلية على متن الحافلة التي تتقدم الركب، والذين أصيبوا ببعض الجروح نتيجة لاستهداف قوات الأمن وتمت معالجتهم منها، وهؤلاء كانوا سينبهون القافلة في حال جنوحها لدخول منطقة محظورة.
وعلاوة على ذلك، وطالما أن الصحراء الغربية وكما يصفها الخبير الأمني الرفيع في مجموعة ليفانت غروب، دانيال نيسمان، هي منطقة “خارج السيطرة” فلماذا لم يتم تطبيق نظام في المنطقة لتجنيب النشاط السياحي عن مناطق الخطر بمسافة لا تقل عن 50 كيلو متر؟
جزء من المشكلة، كما يوضح نيسمان، هي المساحة الكبيرة والمفتوحة للصحراء الغربية، وهي المشكلة التي تتشابك وتتفاعل مع “اضطلاع الجيش بمهام تفوق طاقاته في ظل ضعف التجهيزات التي يعاني منها”، ومن هذا المنطلق، كان نيسمان لطيفاً ودبلوماسياً للغاية عندما لم يذكر بأن الجيش هو أيضاً دون مستوى التدريب والخبرة المتطلبين.
في حال أقرينا بأن هذه المشاكل تقع خارج نطاق سيطرة الأجهزة الأمنية في البلاد، فلا بد من أن نعترف بأن باقي القضايا هي من صنع أيديهم، وجميع ذلك يتزامن مع الفترة التي ترزح فيها مصر تحت وطأة الأعباء الاقتصادية الضخمة، والتي تكثفت جرّاء تعطل السوق في جنوب شرق آسيا في الآونة الأخيرة، مما أدى إلى نقص في العملة الأجنبية، وتدني في مستوى السياحة منذ ثورة 2011، علماً أن السياحة بالنسبة لمصر مورداً حيوياً ولا غنى عنه، فإذا كان النيل هو شريان حياة مصر، فإن السياحة هي الهواء الذي تتنفسه.
الخطأ القاتل الذي حصل في الصحراء الغربية، ليس حالة منفردة بأي شكل من الأشكال، كون الهجمات العديدة التي تمت في سيناء في الأشهر الأخيرة، أعطت انطباعاً متميزاً بأن قوات الأمن لا تهتم بتاتاً بالمدنيين أثناء تصديها للأخطار الأمنية، وجوهر هذا الأمر يتمثل بعدم مساءلة أولئك الذين يحملون البنادق، لأن النظام قد تم تأسيسه بعناية لعزل شريحة معينة من الطبقة الحاكمة.
ونتيجة لذلك، فإن مصر أضحت دولة بوليسية بحكم الأمر الواقع، حيث تنص المادة 8 من قانون مكافحة الإرهاب الجديد على عدم إمكانية محاسبة قوات الأمن على الأفعال التي يرتكبونها أثناء أدائهم لوظائفهم، وهذه الدينامية، تكسب قوات الأمن ميزة الإفلات من العقاب؛ التي تجعل من المرجح والمحتمل ارتكاب مآسي ككارثة الصحراء، بالتوازي مع توأم الإفلات من العقاب المتمثل بالغطرسة الأمنية.
“هذا هو النظام في هذا البلد، وليس لديك الحق في السؤال”، يقول المتحدث العسكري العميد محمد سمير.
وبعبارة أخرى، تم إزهاق أرواح 12 شخصاً لأن قوات الأمن لم تطبق معايير ضبط النفس المعقولة، فعلى سبيل المثال، لم يتم إطلاق طلقات تحذيرية في البداية، قبل أن يتم إطلاق الرصاص الحي على السياح.
ومن هذا المنطلق، هناك نوعان من العوامل التي كان ينبغي أن يكون لها أهمية قصوى في اعتبار كل من الجيش والشرطة؛ فأولاً، العملية وقعت في الصحراء الغربية المقفرة والواسعة إلى حد كبير، مما يفسح مجالاً كبيراً لرؤية الأهداف بشكل واضح، لذا كان ينبغي أن يكون مجال الخطأ في هذه الحالة مساوياً للصفر، وثانياً، وضمن هذا الفضاء المفتوح البعيد عن أي أهداف عسكرية، لم يكن الوضع يمثل حالة تهديد وشيك للحياة بالنسبة لقوات الأمن، مما لم يكن يستلزم معه هذه الاستجابة المميتة، سيّما إذا أخذنا بعين الاعتبار بأن المنطقة هي مقصد سياحي مهم.
انعدام المساءلة
الوضع الذي زاد من تعقيد السيناريو، تمثل، مرة أخرى، بغياب الشفافية وتأخر رد الفعل الملائم الواجب اتخاذه من قِبل الشرطة والجيش، في عصر الإنترنت السريع الذي يتطلب سرعة فلكية في الاستجابة للأحداث الخطيرة؛ فالأحداث أخذت مجراها في الساعة الثانية ظهراً، ومع ذلك تأخر البيان الرسمي لوزارة الداخلية، حتى الساعة الواحدة والنصف صباحاً بالتوقيت المحلي، مما يحذو بنا للقول بأن تأخر ورود رد الفعل الملائم الواجب اتخاذه تجاه كارثة إنسانية من هذا الحجم تحمل في طياتها تقويضاً هائلاً للعلاقات العامة، هو قضية هيكلية سياسية تتعمد نقص الشفافية، وتفسح مجالاً كبيراً لظهور روايات بديلة لجسر هوة هذا الفراغ الرسمي.
وبالنظر إلى التداعيات الدبلوماسية التي قد تنجم عن هذه الورطة، كان يجب أن يحدث شيئان، أولاً إصدار اعتذار صريح وقوي، يوضح فيما الضحايا التي تحمل الجنسية المصرية وتلك التي تحمل جنسية أجنبية، ولكن هذا الأمر غاب عن البيان بشكل صارخ، وثانياً، حتى عندما أشرقت الشمس، استمرت وزارة الخارجية المصرية بصمتها، وهي زلة كبيرة أخرى من الحكومة المصرية التي كان ينبغي أن تكون على أصابع قدميها السياسية في مثل هذه الظروف الصعبة.
ومما زاد الطين بلة، تعمد اللغة المبهمة للبيان عدم إيضاح الطريقة التي تعاملت بها القوات الأمنية مع الضحايا، علماً أن هذا الأمر لا يعد تفصيلاً هامشياً في مثل هذه الحالات.
والأمر الأخطر، هو أن بيان وزارة الداخلية، إلى جانب بيان المتحدث الرسمي باسم وزارة السياحة، أوضح اتجاه النية الحكومية حيال معالجة الحادثة، حيث تم التشديد على أن السيارات لم تكن مرخصة، وأنها كانت توجد في منطقة محرمة.
لذلك، فإن موضوع الاعتذار الرسمي ليس مطروحاً، وكما يرى أحد المصادر من شركة ويندوز مصر، من المرجح أن يُلقى باللوم مباشرة على الشركة، حيث يقول “أنا لا أعرف ما إذا كانت الحكومة ستوجه اتهامات ضدنا أم لا، ولكنني متأكد من أنها ستقوم بذلك”، وتابع موضّحاً وجهة نظر الكثير من المصريين “من أجل الحصول على حقوقك في هذا البلد، يجب أن يكون لديك شخص قوي لمساعدتك”.
ولكن في مصر، تتركز القوة الوحيدة في أيدي الرجال الذين يمثلون مصالح الدولة، وليس في يد ضحايا عنف الدولة، سواء وقع هؤلاء ضحايا للنوايا المقصودة أو ضحايا “للخطأ”.
بالنسبة للكثير من المصريين، قضية الصحراء تعزز الوضع الذي يهابه الكثيرون منهم، والمتمثل في أن الموت قد يصبح شريكهم في حال أصبحوا جزءاً من ثنائية قوات الجيش أو قوات الشرطة.
وحتى عند حدوث مثل هذه المأساة، فإن منع الصحفيين والجمهور على حد سواء من الوصول إلى المعلومات، هو جزء لا يتجزأ من القانون الجديد لمكافحة الإرهاب، الذي يعطي الدولة حق الوصول الحصري إلى المعلومات، ويخولها، في ذات الوقت، الحد من قدرة الصحفيين لأداء وظائفهم.
حتى الآن لم يصدر أي إعلان رسمي عن الأعداد الدقيقة للمكسيكيين والمصريين الذين تم استهدافهم في الحادثة، والبيانات حول هذا الموضوع تقتصر على العدد الذي أوردته صحيفة دي فيلت التي نقلت عن المصدر قوله بوقوع ثمانية ضحايا من المكسيكيين إلى جانب أربعة مصريين، بما في ذلك الدليل السياحي.
عمرو إمام، وهو محام في مجال حقوق الإنسان تربطه صلة قرابة مع الدليل السياحي المتوفى، أقسم عبر تغريده له على حسابه في تويتر بأنه سيبقى يحارب للحصول على حقوق قريبه حتى آخر نفس في صدره، وأكد إمام بشكل حاسم بعد زيارته لموقع المأساة بأن موقع الحادثة لم يكن محظوراً، “وإلا كيف كان للمجموعة أن تدخله؟” يقول الإمام، ووجهة نظره هذه يؤكدها تقرير للنيويورك تايمز، يشير إلى أن السياح في الواقع “مروا عبر عدة حواجز عسكرية قبل وصولهم للموقع”.
بالمحصلة، عمرو إمام لا ينبغي أن يقف وحيداً في معركته، وأي شخص يتمتع بذرة من الشعور تجاه ما هو حق وما هو باطل، لا ينبغي أن يبقى صامتاً إزاء هذه المأساة.
في نهاية المطاف، مثل هذه القضايا التي تنطوي على محاسبة ممارسات الجيش والشرطة، تتمتع بتاريخ طويل من تشويه وإخفاء الحقائق، والتحقيق الذي طالبت به الحكومة المكسيكية، ووعدت السلطات المصرية بإجرائه، يحب أن يلبي أعلى معايير الاستقلالية، وبذات الطريقة، ينبغي أن يتم تركيز الاهتمام أيضاً على النمط المنتظم لاخفاء حقيقة الضحايا المدنيين الذين يقعون ضحية لاستهدف طائرات النظام المصري في شمال سيناء كجزء من حملة “الحرب ضد الإرهاب”.
أخيراً، وفي حال صمت الشعب المصري اليوم عن كارثة الصحراء، فقد يرى أمثال هذه الكارثة تقترب لتقع في الشوارع التي يقطن فيها عما قريب.
المصدر: العربي الجديد الإنجليزية