مازالت على موعدها مع الخوف، لم يبرحها بعد؛ مسلحون كثر، أطقم عسكرية تجوبها كأنها منطقة أمنية مغلقة، مداهمات واختطافات، وفوضى عارمة تكتسي نبضات ريحها الباردة ليلًا، حين تمشي في أحد أزقتها لا بد أن تلتفت إلى الخلف علّ أحدهم يطاردك، وهو لا شيء، غير التوجس.
نهارها إشاعات وتبادل نظرات بين الجميع، قد يكون الشك الذي أصبح يغلف كل شيء، وقد يكون الاعتذار، وإن بدا بصورة أخرى، من العتاب؛ من أوصل مدينة كانت تجمع الكل، إلى أن تصير طاردة حتى لبسمات صغارها، الذين فقدوا المرح والضحكات بعد أن سيطرت على أجواء المدينة القذائف والمضادات الأرضية التي أودت بحياة الكثير من أقرانهم.
“إذا عدتم عدنا” شعار تظاهرة في إحدى جُمع 2011، عام الثورة الشبابية، كانت تظاهرة مضادة في “السبعين” لأخرى في الستين، ميدان الثوار حينها، لا تدل على شيء، إلا ما تخبئه بعض القصور والغرف المغلقة من أسرار، وما يُدبر له من أمر سيقلب الأمور رأسًا على عقب في عاصمة اليمن التاريخية، عاصمة الوحدة، كما كان يحب الرئيس المخلوع علي عبدالله صالح تسميتها به في كثير من خطاباته.
عادت جموع غفيرة، في 21 من سبتمبر الماضي، لكنها لا تمت إلى الثورة السلمية بصلة، إنما تحقيقًا للوعد والوعيد الذي أطلقوه ذات يوم، كانت شمس صنعاء مستعرة، وكذلك القلوب، التي عملت على إخفاء توجسها من القادم، والمجهول، فمن يحوط بصنعاء ثم يلجها ذات مغيب، هم أعداء التغيير والمدنية والتشارك والمواطنة المتساوية.
أتوا.. نعم، وبأعذار واهية، دخلوها على حين غفلة من الوطنية والنضال ومصطلحات أخرى، دخلوها وليسوا بفاتحين، إنما ليهدموا المعبد على من فيه، حتى على أنفسهم، بعد أن قضوا على أحلام اليمنيين، بل وعاداتهم وتقاليدهم، التي غلفوها بطموحات أعداء لدودين للوطن وأهله، فمرروا أهدافهم، من حيث يشعرون، أو لا يشعرون.
عام سيكتمل تمامًا بعد أيام، لتكون الذكرى الأولى للمأساة التي عاشتها صنعاء نفسها، وعاشها اليمن حولًا كاملًا من الحرب، الدمار، التهجير، الضياع، والتفرق في مطارات العالم بحثًا عن أمل بالعودة واحتضان الأحلام من جديد، في بلد كان يحلم بأن يكون وطن الإيمان والحكمة، والأرض السعيدة، التي وُجِدت في صفحات الكتب، ولم تسجل نهائيًا في صفحات الواقع، الذي عمل على تسويدها عرابو التاريخ الأسود من جديد، رئيس سابق وزعيم جماعة قادمة من الكهوف، أرادوا جميعًا تمزيق تاريخ كامل من الانتفاضة والأحلام بمستقبل يسعد به كل مواطن في الأرض اليمنية.
تصريحات كثيرة عقب تحرير عدن جنوبًا منذ شهرين تقريبًا، بأن صنعاء أيضًا ستعانق التحرير موازاة لعيد الأضحى المبارك، قبله أو بعيده قليلًا، حدثت صنعاء نفسها بالتحرير والانعتاق، لكن الخوف والتوجس مازالا في بدايتهما، هل سيكون ذلك ممكنًا، كان مهرها ثمنًا بخسًا دراهم معدودات، 500 ريال، في عقد قرانها المشؤوم في ليلة من ليالي أيلول من العام 2014 في ارتفاع وقود، من التحالف الحوثي العفاشي، كما سُمي بعدها، فكم سيكون مهرها الآجل اليوم وقوات التحالف العربي والجيش الوطني على مقربة منها ليست بعيدة.
فها هو أيلول الذي له ذكريات طويلة مع هذه المدينة، منذ ستينات القرن الماضي، جاء يخطب ودها أيضًا، لكن ستظل التوجسات، هل سيدفع السكان في صنعاء كثيرًا؟ كما دفع غيرهم في مدن أخرى في الجنوب والوسط، ننتظر ذلك، ولن نريدها حفلة أخيرة لها ولضواحيها.