البصرة المدينة الحالمة على ضفاف شط العرب والمعانقة أطرافها لسواحل الخليج، الحاملة لروح وعبق التاريخ فهي ضمن مديات حضارة ودولة (سومر) فعاصمة ومدن سومر الرئيسية مثل (لاغاش Lagash وآور Ur) غير بعيدة عن البصرة سوى 70 كيلومترًا إلى الشمال الغربي، موقعها على الضفة الغربية لنهر شط العرب وهو المعبر المائي الذي يتكون من الالتقاء العظيم بين نهري دجلة والفرات أكسبها أهمية إستراتيجية كبيرة كما أن إطلالتها المتواضعة على البحر(الخليج العربي) من جهة مدينة الفاو زاد من تلك الأهمية لتكون محط الأنظار على مر العصور والأزمنة.
للبصرة حدود دولية مع المملكة العربية السعودية والكويت جنوبًا وإيران شرقًا، فمنها انطلق السندباد البحري لخوض رحلاته العجيبة ضمن أساطير ألف ليلة وليلة، وهي أيضًا أحد المواقع المحتملة وفقًا للأساطير السومرية والتوراتية الغربية لجنة عدن والتي يُعتقد أنها في منطقة الأهوار العظيمة والتي تصل مساحتها إلى عشرين ألف كيلو متر مربع؛ فقد تكونت هذه الأهوار نتيجة الفيضان الهائل في نهري دجلة والفرات في العام السابع الهجري الموافق للعام الميلادي 628، إن أهوار البصرة هي الموقع الذي يُطلق عليه العهد القديم “جنات عدن” كما أسلفنا حيث تشير الدراسات والبحوث التاريخية والأثرية إلى أن هذه المنطقة هي المكان الذي ظهرت فيه ملامح السومريين وحضاراتهم وتوضح ذلك الآثار والنقوش السومرية المكتشفة.
للأهوار تأثير إيجابي على البيئة فهي تعتبر مصدر جيد لتوفير الكثير من المواد الغذائية من الأسماك والطيور والمواد الزراعية التي تعتمد على وفرة وديمومة المياه مثل الرز وقصب السكر، يعيش سكان الأهوار في جزر صغيرة طبيعية أو مصنعة في الأهوار، ويستخدمون نوعًا من الزوارق يسمى بـ “المشحوف” في تنقلهم وترحالهم، وقد تعرضت للتجفيف في التسعينيات من القرن الماضي وتحديدًا بعد انتفاضة العام 1991 أو ما يعرف بالانتفاضة الشعبانية، عقابًا لسكان الأهوار الذين انتفضوا ضد نظام صدام حسين، ولم يتبق سوى 4% من إجمالي مساحتها بعد تجفيف 96% منها، حيث تُعد الأهوار من أجمل المناطق السياحية لو كان الاهتمام بها بالمستوى المطلوب، والبصرة الموطن الأول لأول عملة عربية إسلامية حيث ضرب أول درهم في سنة 40هجرية/ 660 ميلادية، حيث تحتفظ المكتبة الوطنية بباريس بهذا الدرهم وقد نشره (لافوكس) سنة 1887م.
في البصرة يرقد نبي الله العزير، عليه السلام، أحد أنبياء الديانة اليهودية، وذكر المؤرخون ومن بينهم ألكسندر أداموف، في كتابه “ولاية البصرة بين حاضرها وماضيها”، أن نبي الله العزير – عليه السلام – دُفن في بلدة صغيرة كانت تسمى “زمزوم” على نهر دجلة، وأن السفن كانت تنقل الزائرين إلى المرقد، حيث كان يقصدها الناس من مناطق بعيدة، ويرى المؤرخ شهاب الدين أبو عبد الله ياقوت بن عبد الله الحموي 574 – 626 هـ، أن اليهود العراقيين لا يشكون في صحة وجود القبر في مكانه الحالي، بناحية العزير، التي يؤمها أيضًا المسلمون من العرب وغيرهم، ويعلل بعض المؤرخين أن كثرة اليهود العراقيين في البصرة والعمارة يعود إلى وجود المرقد، حتى شاع اسم “عزرا” بين أولادهم، تيمنًا باسم النبي العزير عليه السلام، إضافة إلى أقدم دير، حيث أطلق على المدينة بالاسم ذاته (40 كم) شمال المدينة، ارتبط اسم البصرة بالنخيل والتمر منذ القدم، حتى أصبحت موطنًا لأجود أنواعه، وبه اشتهرت، حيث تمتد على ضفاف الأنهار وتنتشر بساتين بمحاذاة الشاطئ، الذي يبلغ طوله 241 كيلومترًا، وتزداد كثافةً وتوسعًا من منطقة أبي الخصيب حتى نهاية اليابسة العراقية في رأس الييشه بالفاو.
البصرة بحق وريثة الحضارات فقد تعاقبت عليها منذ أقدم العصور العديد من الحضارات بدءًا بالحضارة السومريّة (ت. 4،250-960،1 ق.م.)، والّتي جاءت من بعدها الحضارة البابليّة القديمة (ت. 960،1-600،1 ق.م.)، ثمّ الحضارة القسّيّة – الآشوريّة (ت. 600،1-200،1 ق.م.)، ومن بعدها الحضارة الآشوريّة – البابليّة الوسطى (ت. 200،1-700 ق.م.)، وانتهاءً بالفترة البابليّة – الكلدانيّة الجديدة (ت. 700-538 ق.م.).([1])
سادت حضارة السومريين معظم الجنوب العراقي والكويت خلال العصر النحاسي وبداية العصر البرونزي، أما البابليون وهم من الأقوام السامية الناطقة باللغة الأكادية والذين أسسوا دولتهم في وسط وجنوب العراق وكانت عاصمتهم “بابل” وقد قام الملك حمورابي بإقامة إمبراطورية مؤلفة من عدد من المقاطعات والتي كانت جزءًا من الإمبراطورية الأكادية ، أما الأشوريون فهم أول دولة قامت في مدينة آشور في شمال بلاد ما بين النهرين، وتوسعت في الألف الثانية ق.م. وامتدت شمالاً لمدن نينوى، نمرود وخورسباد، ولقد حكم الملك شمشي مدينة آشور عام 1813 ق.م، واستولي حمورابي ملك بابل على آشور عام 1760 ق.م.، إلا أن الملك الآشوري شلمنصر استولي على بابل وهزم الميتانيين Mittani عام 1273 ق.م، ثم استولت آشور ثانية على بابل عام 1240 ق.م، وفي عام 1000 ق.م. استولي الآراميون على آشور، لكن الآشوريين استولوا على فينيقيا عام 774 ق.م. وصور عام 734 ق.م. والسامرة عام 721 ق.م، وأسر سارجون الثاني اليهود في أورشليم عام 701 ق.م. وفي عام 686 ق.م.
دمر الآشوريون مدينة بابل وثار البابليون على حكم الآشوريين وهزموهم بمساعدة ميديا عام 612 ق.م، شن الآشوريون حملاتهم على باقي مناطق سوريا وتركيا وإيران، وما بين سنتي 883 ق.م. و612 ق.م أقامت إمبراطورية من النيل للقوقاز، ومن ملوكها العظام: آشوربانيبال، تغلات فلاصر الثالث، سرجون الثاني، سنحاريب، آشورناصربال، واسرحادون (والد آشور بانيبال) الذي كان مهووسًا بحب إذلال الملوك حيث كان يجبر الملوك التابعين له على المجئ إلى عاصمته والعمل في ظروف قاسية لبناء قصوره في نينوى، وآخر ملوك آشور المدعو آشور أو باليط الذي أقام مقر قيادة مؤقت في حران (الجزيرة الفراتية) بعد سقوط نينوى بيد البابليين بقيادة نابو بولاصر الكلداني محاولاً تأخير المذبحة الشاملة للشعب الآشوري.
كانت كتابة الآشوريين الكتابة المسمارية التي كانت تكتب علي ألواح الطين، وأشهر مخطوطاتها ملحمة جلجماش التي ورد بها الطوفان لأول مرة، وكانت علومهم مرتبطة بالزراعة ونظام العد الحسابي السومري الذي عرف بنظام الستينات وكانوا يعرفون أن الدائرة 60 درجة، كما عرفوا الكسور والمربع والمكعب والجذر التربيعي، وتقدموا في الفلك وحسبوا محيط خمسة كواكب، وكان لهم تقويمهم القمري وقسموا السنة لشهور والشهور لأيام، وكان اليوم عندهم 12 ساعة والساعة 30 دقيقة، وكانت مكتبة الملك آشور بانيبال من أشهر المكتبات في العالم القديم حيث جمع كل الألواح بها من شتى مكتبات بلاده.
الآشوريون هم من الأكديين الذين قطنوا المنطقة الشمالية من حوض نهر دجلة، بعد الهجرة من منطقة بابل خلال العهد الأكدي، اختلط الأشوريون مع الشعوب الجبلية الحيثيين والحوريين واستعدبو الآراميين (قبيلة الأخلامو والنبط) وقبائل العريبي أو الأعرابي (قبائل قيدار وقيدم وجندبو وسبأ وثمودي) والكلدان، ما يهمنا هنا هي البحوث الحديثة التي توصل إليها علماء التاريخ والآثار الغربيين والتي تشير إلى أن الأصول المبكرة في التاريخ لمدينة البصرة الحالية تتطابق مع مدينة (طريدون) الأشورية القديمة أي أن البصرة الحديثة قد بنيت على أنقاض مدينة (طريدون) والتي أسسها الملك الأشوري العظيم (نبوخذ نصر) وقد أسسها خلال القرن الثامن قبل الميلاد وقد استند هؤلاء العلماء الغربيين على مجموعة الآثار واللقى الأشورية التي اكتشفت في قضاء الزبير وما يحيط بها والّذي يبعد مسافة 23 كيلومترًا إلى الجنوب الغربي من البصرة الحاليّة، وخلال الفترة البابليّة – الكلدانيّة، استوطن عدد من قبائل الأعراب النبطيّة موقعًا قريبًا من البصرة الحاليّة، يقع على مسافة 23 كيلومترًا إلى الشمال الشرقي منها، حيث أسسوا مدينة أسموها “الأبله”، وهؤلاء الأنباط تعود أصولهم إلى جنوبي شبه الجزيرة العربية، ولكنهم أقاموا ممالك قوية في شمال شبه الجزيرة العربية وبلاد الشام، وقد أصبحت الأبله خلال هذه الفترة النبطية إحدى أهم النقاط المحورية والرئيسية للتجارة العالمية في المنطقة، حيث استقطبت تجارًا من بلاد قاصية ودانية، مثل بلاد فارس، الهند، الصين، وبيزنطة.
البصرة هي خزانة العرب وقبة الإسلام وهي دار العلم ومعدن المجتهدين والفضلاء وهي بحق فينيسيا الشرق، لكثرة أنهارها، وهي تاج الخليج أو لؤلؤة الخليج، حتى أن الخليج كان يسمى بأسمها “خليج البصرة” حسب الوثائق والخرائط العثمانية، ويقول إبراهيم الحيدري البغدادي عن أهلها: “إن أهل البصرة من أكرم الناس ومن ذوي الطبائع السليمة والأخلاق السهلة الأنيسة، الغريب لديهم مكرم والنزيل عندهم محترم، إمارة النجابة العربية عليهم ظاهرة ودلائل الشيم العربية عليهم باهرة، إذا أوذوا تحملوا، وإن كلفوا بما لا طاقة لهم به قبلوا، وإن غدروا سامحوا، وإن ظلموا سكتوا، صفاء الخاطر فيهم موجود”([2])
يمكن تقسيم تاريخ البصرة الإسلامي وما بعد الإسلامي، والّذي بدأ مع الفتوحات الإسلاميّة للعراق) وبلاد فارس في مطلع القرن الميلادي السابع، وحتى قيام الدولة العراقية الحديثة عام 1921م، إلى عشرة أقسام، يعكس كل قسمٍ منها تعاقب القوى المسيطرة التي تحكمت فيها والمناطق المجاورة لها خلال ثلاثة عشر قرنًا من الزمن، وهذه الأقسام العشرة هي كالآتي: 1-الخلافة الإسلامية الراشدة 638-661م، 2- الدولة الأموية 661-750م، 3- الدولة العباسيّة 750-1258م، 4- العصر المغولي – المملوكي 1258-1508م (وهي فترة تضم تشكيلة متنوعة من السلالات والأنظمة الحاكمة، غالبيتها ولكن ليس كلها من أصول مغولية أو من خلفيات أعدائهم، المماليك، كونها تشمل السلاجقة، والجلائريين، والبويهيين، وبعض السلالات الأخرى)، 5- العصر الصفوي (الفارسي) الأول 1508-1533م، 6-العصر العثماني (التركي) الأول 1533-1623م، 7-العصر الصفوي الثاني 1623-1638م، 8- العصر العثماني الثاني 1638-1914، 9- الغزو البريطاني 1914-1917، 10- الاحتلال البريطاني 1917-1921.