في مدينتي الغارقة بالأرقام بين الحصاد المر الذي طال 2070 من أهلها بقوائم الموت المعلقة في دائرة الطب العدلي إلى الـ 400 حاج الذين دخلوا الموصل قبل أيام محملين بالدمع بدلاً من ماء زمزم بعد منعهم من السفر لأداء الفريضة الخامسة.
مدينتي ثاني أكبر مدن العراق مساحة بعد الأنبار وأكثرها كثافة سكانية بعد العاصمة بغداد سلة خبز العراق وعروس شماله لم تحمها قلعة باشطابيا من أن يقع عليها الظلم ولم يمنع ثورها المجنحين عند أبوابها من قتل أبنائها ومنعهم من أبسط حقوقهم، لم يغفر لها ما تحمله من تاريخ وما قدمت من تضحيات، كان عليها أن تدفع الثمن دائمًا.
في صحراء الأنبار القاحلة وعلى رمضاء رمالها في صيف العراق الملتهب يقف حجاج الموصل ينتظرون دخولهم لعاصمة بلادهم، لأيام طويلة يجتهد بعضهم بتصبير بعض وتسكين خوف النساء والجميع مدرك أن الرحلة منذ البداية ستحمل لهم الكثير من المفاجآت.
حكومة بغداد الذي أربكها وصول ما يقارب الألف حاج من مدينة الموصل إلى حدودها وهي التي كانت قد ألقت الكرة في ملعب تنظيم الدولة “داعش” متمنية ألا يسمح للحجاج الموصليين أن يغادروا الموصل التي ما يزال أهلها يمنعون من الخروج إلا بالتهريب وبمخاطرة كبيرة جدًا منذ أن دخلها تنظيم الدولة، ولكن التنظيم أخذ الضمانات المطلوبة ودفع الكرة مرة ثانية إلى ملعب حكومة بغداد بسماحه للحجاج بالمغادرة، تحركت القوافل منطلقة من مدينة الموصل إلى أن توقفت عند تخوم العاصمة العراقية.
حر ونقص في الأدوية خوف وقلق وكبر في السن اجتمعوا عند الحاجة إنعام الدباغ التي فارقت الحياة لا بسقوط الرافعة ولا بحادث سير ولا حتى بتدافع على رمي الجمرات ولكن بظلم وتعسف من يحكم بلدها اليوم لتكون شاهدة أمام الله على ماحدث عند حدود بغداد، لم يستطع جسدها المتعب أن يتحمل هذا الإجهاد والخوف والتعب فكان الموت أرحم لها من أيام الانتظار الطويلة.
المشهد يتكرر من حاجة ثانية من نفس القافلة على جسر بزيبز لكن الرحمة الإلهية دفعت لها سيارة إسعاف أنقذتها في الرمق الأخير بعد أن أصابتها الذبحة القلبية.
بعد ضغط جماهيري وحملة على مواقع التواصل الاجتماعي لأيام دخل حجاج الموصل “الدواعش” كما يحلوا أن يسميهم البعض رغم أنهم أكثر من دفعوا ثمن ظلم داعش حسب الإحصاءات الأخيرة فإن نصيب الأسد من ضحاية التنظيم هم من أهالي مدينة الموصل.
يصل حجاج الموصل إلى جامع أم القرى ليستريحوا لأيام في انتظار مغادرتهم للديار المقدسة، وسط تلاعب نفسي كبير بين كلام عن منعهم من المغادرة وآخر عن منع جزء منهم، واستمر الجدال لأيام زارهم خلالها عدد من المسؤولين من محافظتهم لغرض التطمين.
كانت المخاوف في محلها؛ فلقد تبين أن عددًا كبيرًا من المقاعد قد سرق لحساب جهات غير معلومة يبدو أنها متنفذة في هيئة الحج والعمرة والدولة العراقية وتبدأ محاولات لتشريع قوانين تغطي هذه السرقة؛ فظهر قانون جديد لم يطبق على سبع عشرة محافظة عراقية وتم تطبيقه على الموصل فقط، إنه قانون تحديد عمر، فقد تم تحديد عمر الحاج من الرجال بـ 60 عامًا فما فوق والنساء بـ 45 سنة؛ ليمنع البقية بحج هذا القانون الذي يبدو أنه كان مخرجًا جميلاً في عراق اللادولة.
تصاعدات الاحتجاجات والمطالبات من الحجاج وأهالي المدينة وبعض ممثليهم في الحكومة وعبر مواقع التواصل الاجتماعي ليتم منح الحجاج مقاعدهم التي حصلوا عليها بالتسجيل منذ حوالي العامين وأكملوا كافة الإجراءات والموافقات قبل دخول تنظيم الدولة “داعش” للمدينة، بما في ذلك دفع تكاليف الحج ورسوم التسجيل والتأشيرات وغيرها.
كل ذلك التحرك تم مقابلته بالوعود والتسويف حتى غروب يوم 13 من سبتمبر الحالي؛ ليوقن 400 حاج من الموصل أن الأمل بحل قضيتهم العادلة والسماح لهم بالسفر قد تبدد.
حزم الـ 400 حاج حقائبهم عائدين إلى الموصل وألسنتهم تلهج بـ “حسبنا الله ونعمة الوكيل” وقلوبهم ما تزال تردد “لبيك اللهم لبيك .. لبيك لا شريك لك لبيك .. إن الحمد والنعمة لك والملك .. لا شريك لك”، والعيون محملة بالدموع التي كابروا أن تنهمر في بغداد.
دخلت القوافل بوابة الموصل وعند البوابة مقاتلين التنظيم بعضهم ما يزال ملثم وعيونه فقط ظاهرة، جميع من في القافلة قرأ ما تقول تلك العيون “العراق الذي تتشدقون به وبغداد التي ترنون للعودة إليها صدتكم عن البيت الحرام وأداء فريضة الحج، وما تزالون تعرفون أنفسكم بالعراق والعراقيين ولم توافقوا على منهجنا”.
ردوا بالعيون أيضًا “ليست بغداد ولا العراق من حرمنا حقنا، ولكن دخلاء حكموها كما تحكمونا أنتم، الجرح واحد والدم واحد والجلاد واحد، وإن تعددت الأسماء والأعلام والوجوه والألوان”.