بعد سقوط حائط برلين إبان نهاية الحرب الباردة، شهدت منطقة شرق أوروبا والبلقان تحولات جذرية إثر انهيار المنظومة السوفيتية التي حكمتها، بدءًا من كيانات كبيرة وتاريخية مثل بولندا والمجر ورومانيا تحولت بوصلتها السياسية من موسكو إلى برلين وواشنطن، وحتى الكيانات الهشة التي صنعها الأوروبيون، والتي انتهى بها الأمر منقسمة إما بشكل سلمي وهادئ، كما جرى مع تشيكوسلوفاكيا التي أصبحت جمهورية التشيك وسلوفاكيا فيما بعد، وإما بشكل عنيف وفوضوي، كما جرى مع يوغوسلافيا، والتي بدأ فيها الصراع المسلح بين الصرب والبوشناق والكروات، لتنقسم تباعًا إلى 7 دول (صربيا والبوسنة وكرواتيا وسلوفينيا والجبل الأسود ومقدونيا وكوسوفو).
مثلهما مثل معظم الدول الموجودة الآن في الشرق الأوسط وأفريقيا، كانت كل من تشيكوسلوفاكيا ويوغوسلافيا كيانات خلقتها القوى العظمى بعد الحرب العالمية الأولى في مؤتمر فرساي عام 1919، وهي كيانات تماثل ربما في تعدديتها الشديدة عرقيًا ودينيًا دولًا كثيرة كالعراق وسوريا ولبنان اليوم شكّلها الاستعمار أيضًا في نفس الفترة، دون أن يكترث بإرساء قواعد جديدة لتعايش تلك المجموعات أو البحث في إمكانية تعايشها من الأصل في ظل دولة قومية، وكما جرى في شرق أوروبا في تسعينيات القرن المنصرم، يبدو أن تراجع الدور الأوروبي والرغبة الأمريكية في الانسحاب من المنطقة قد فتحا الباب بالفعل أمام سقوط سمات المنظومة الاستعمارية في المنطقة ورسم واقع جديد.
للمفارقة إذن، يعني ذلك أن ما يجري وسيجري في المشرق وليبيا يعود بنا إلى مرحلة الشرق الأوسط القديم، بفعالية كافة عناصره الدينية والعرقية والقبلية، مع البحث عن إطار أوسع يستطيع ضم واستيعاب تلك العناصر بعد فشل الدول القومية الكلاسيكية في ذلك، تمامًا كما حدث مع تشيكوسلوفاكيا ويوغوسلافيا، واللتين لم تشهدا واقعًا جديدًا بقدر ما شهدتا بروز كافة المجموعات القديمة التي نجحت الدولة القومية في إسكاتها ليس إلا، وهو سكوت لا يدوم طويلًا كما رأينا، إذ عاد الواقع القديم بكل تفاصيله خلال سنوات قليلة ليعيد رسم الخارطة بشكل أكثر تفككًا ربما ولكن أكثر دقة.
كيف سيبدو إذن ذلك الشرق الأوسط “الجديد”، أو بالأحرى “القديم،” بينما يجري له ما جرى لجيرانه في شرق أوروبا، وما هي السمات الرئيسية التي ستعود، أو عادت بالفعل، للشرق الأوسط؟
العودة للطاولة الإقليمية: بين تركيا وإيران
لعل السمة الرئيسية للشرق الأوسط قديمًا والتي عادت للظهور منذ عقد على الأقل، هي عودة اللعبة إلى نطاق القوى الإقليمية بعد أن كانت القوى الدولية قد استلمت زمام الأمور لحوالي قرنين منذ صعود القوتين الإنجليزية والفرنسية، فقبل القرن التاسع عشر كان النفوذ والصراع على المنطقة منقسمًا بين الدولتين العثمانية والصفوية، حتى بدأ تلاشي دور القوة الفارسية مع سقوط الصفويين وصعود القاجاريين الضعفاء في إيران، ثم انحسار قوة العثمانيين وتفكك دولتهم مع مطلع القرن العشرين، لتصبح العلاقات بين لندن وباريس هي المحدد الرئيسي لطبيعة المنطقة، ولاحقًا العلاقات بين الأطراف الإقليمية المختلفة منفردة مع واشنطن.
لماذا عادت اللعبة تحديدًا إلى تركيا وإيران؟ وهل كونهما القوتين الأبرز قبل الاستعمار مباشرة يفسّر كونهما حاليًا اللاعبين الأساسيين؟ في الحقيقة لا يُعَد هذا السبب بذاته تفسيرًا أبدًا، ولكن طبيعتهما كقوتين كبيرتين في المنطقة قبل الاستعمار نأى بهما عن الاستعمار المباشر على غرار الدول العربية، وهو ما أدى إلى الحفاظ على كيان كل منهما التاريخي والجغرافي بشكل كبير، واحتفاظ دولة كل منهما بقوة غير هيّنة كان لها أن تلعب عاجلًا أم آجلًا دورها من جديد، على العكس من دول مصطنعة بالكامل كليبيا لا يتسنى لها أن تلعب أي دور، أو كالسعودية تمتلك المال ولكنها تعاني من عوامل ديمغرافية شتى تحول بينها وبين التحول لقوة من المقام الأول.
السبب عن تأخّر لعب هذا الدور إذن على مدار القرن العشرين، والذي شهد شبه تراجع لكليهما، هو أولًا عزوف تركيا عن الاشتباك مع المنطقة كجزء من عقيدة الدولة الأتاتوركية على مدار ثمانين عامًا، وثانيًا ضعف الدولة القاجارية في إيران، يليها اتجاه الملكية البهلوية الغربي تمامًا فيما بعد، واللذين لم يساعدا أيضًا على اضطلاع إيران بأي دور إقليمي بارز، حتى قامت الثورة الإيرانية عام 1979، ليتأخر الدور الحتمي لإيران عقدًا كاملًا جراء الحرب مع العراق، ثم يبدأ في الظهور بالفعل مع صعود رفسنجاني في الستعينيات، والتحالف الذي نسجه مع نظام حافظ الأسد في سوريا، ثم حزب الله في جنوب لبنان، ليضع بذلك بذور الدور الذي نراه اليوم.
بالإضافة لتلك الأسباب، كان التحالف الوثيق بين الولايات المتحدة وكل من تركيا وإيران (البهلوية) أثناء الحرب الباردة سببًا في تعزيزها لقوتيهما العسكريتين بشكل كبير جعل جيشا البلدين الأقوى في المنطقة إلى جانب إسرائيل (وباكستان كذلك)، وهي استراتيجية هدفت بها واشنطن إلى احتواء القوة السوفيتية من التمدد إلى المنطقة العربية أو جنوب آسيا، وتشكيل سد منيع محيط بها، وهي أيضًا نفس الدول (باستثناء إيران ما بعد الثورة) التي تعتمد عليها الولايات المتحدة منذ سقوط السوفييت في تحجيم الدور الروسي في البلقان والقوقاز وآسيا الوسطى، وهو ما يعني أن هناك أسبابًا كانت مواتية لتعزيز القوة التركية والإيرانية علاوة على رصيدهما الموروث من عصر العثمانيين والصفويين.
مسألة المشرق تعود من جديد
خريطة المشرق العرقية والطائفية والدينية
الملمح الثاني والبارز الآن هو ملف المشرق ومصير كافة الشعوب والمجموعات الدينية والطائفية والعرقية الموجودة فيه، لا سيما وأنه يُعَد “بلقان” المنطقة العربية إن جازت تسميته كذلك، وهو الأكثر هشاشة لأسباب عدة، أولها خارطته المصطنعة تمامًا، على العكس من مصر أو المغرب العربي، وقيام المنظومة الجمهورية الحاكمة في دولتيه الأكبر، العراق وسوريا، على قمع كل من خالفها، حيث قام نظام صدام البعثي في العراق على قمع الشيعة والأكراد، في حين قام نظام الأسد البعثي في سوريا على الاستناد للطائفة العلوية دون غيرها، وذلك على العكس مثلًا من ملكيات الخليج، والتي وإن كانت كياناتها مصطنعة أيضًا، إلا أنها نجحت على مدار عقود في ترسيخ أركان حكمها وكسب شرعية كبيرة، لا سيما مع وجود قاعدة اقتصادية نفطية.
يتضمن ملف المشرق ملفات عدة، أولها وأهمها حاليًا الملف السوري، فسوريا ككيان هي ربما الدولة القومية التي تلاشت تمامًا فعليًا من على الخارطة، لتحل محلها مجموعة من القوى المرتكزة ديمغرافيًا لمجموعات معيَنة، فداعش ترتكز لقبائل العرب السنة الموجودة في شرق سوريا وغرب العراق، والنظام السوري يستند للجنوب والغرب الأكثر تعددية من الناحية الطائفية بوجود العلويين والدروز والشرائح العربية السنية الـ”حضرية” المرتكزة لدمشق والتي قد تتمتع باشتراك مصالحها الاقتصادية مع النظام، ثم المعارضة الموجودة في الشمال في حلب ومحيطها، وهي تاريخيًا تمتعت بكيان منفصل عن دمشق في عصور عديدة، وبارتباط أكبر بتركيا يفسر علاقتهما الوطيدة حاليًا، ثم قوة الأكراد في المناطق الكردية بالشمال على الحدود مع تركيا.
الملف الثاني هو ملف العراق، والذي لا تزال فيه السلطة في بغداد متماسكة بكيانها الشيعي الممتد جنوبًا حتى البصرة، فهي لم تخسر سوى الصحراء الواقعة إلى غربها، والتي كانت في الحقيقة جزءًا من سوريا في الخطط المبكرة لسايكس بيكو قبل أن يقرر البريطانيون ضمها لانتدابهم العراقي، وتلك المساحات بالطبع آلت لداعش بالأساس نتيجة اتصالها مع شرق سوريا، أما في الشمال فهناك حكومة كردستان العراق، وهي واحدة من أكثر المناطق استقرارًا بشكل جعلها تجذب حتى لاجئين عراقيين هاربين إما من داعش أو من بطش النظام الشيعي في بغداد، مما يعني فعليًا انقسام العراق إلى كيانين شيعي وكردي إذ اعتمدنا على خارطة العراق القديمة.
الملف الثالث هو لبنان، وهو الكيان الهش الذي صنعه الفرنسيون وكان جزءًا من سوريا الكبرى قبل ذلك، وهو مهدد الآن نتيجة ما يجري في محيطه السوري، وارتباطه سياسيًا بما يدور هناك، لا سيما وأنه رُغم تماسكه حتى الآن ككيان قومي بالمعنى التقليدي إلا أن تماسكه يعتمد على عوامل شاذة عن القواعد السياسية الكلاسيكية المفترض تواجدها في دولة قومية، فهو يمتلك قوات حزب الله في الجنوب والتي تحكم فعليًا المناطق الشيعية، ثم الميليشيات المختلفة السنية والمسيحية التي يُعَد الجيش اللبناني الضعيف وسيطًا بينها لضمان بقاء الدولة ككيان توافقي في الحقيقي لا قومي، وذلك التوازن الهش بالطبع في مهب الريح إثر وصول مجموعات سنية متطرفة لشمال لبنان، علاوة على مليون لاجئ سوري يميلون بالكفة الديمغرافية لصالح السنة.
خريطة المشرق (داعش بالرمادي، النظام السوري بالبُني، المعارضة السورية بالأخضر، كردستان العراق وأكراد سوريا بالأصفر، والنظام العراقي بالأصفر الداكن)
الملف الأخير هو ملف فلسطين، وللمفارقة هي القضية الأقل جذبًا للانتباه الآن بعد أن كانت حتى التسعينيات هي القضية الرئيسية وصولًا لمعاهدة أوسلو وتأسيس السلطة الفلسطينية، والتي تقبع الآن في رام الله تحت ظل الهيمنة الإسرائيلية التي تزداد يومًا بعد يوم، وتقترب بشكل واضح من حتمية حل الدولة الواحدة، العنصرية اليهودية حال استمرت الإدارة الإسرائيلية الحالية في الأغلب، والديمقراطية بين العرب واليهود حال مالت الموازين ضد إسرائيل وهو أمر بعيد حتى الآن، والـ”جيب” المقاوم الوحيد حتى الآن إن جازت تسميته كذلك هو في غزة، وهو قائم باستمرار الحاجة للمقاومة، بيد أنه يفتقد بالطبع للقدرة على امتلاك زمام الأمور سياسيًا نظرًا لصغر حجمه والحصار الواقع تحته، علاوة على استحالة قيامه منفردًا بتغيير المعادلة بدون الضفة.
كما هو واضح، لرسم صورة أوقع للمشرق ينبغي لنا أن نرسم حدود القوى الموجودة لا الدول، فهناك الدولة الإسرائيلية في فلسطين، ثم “جيب المقاومة” في غزة، ثم نظام الأسد في جنوب وغرب سوريا مع حليفه بجنوب لبنان، ثم المعارضة السورية بحلب ومحيطها وقوة الأكراد إلى جوارها، ثم حكومة كردستان العراق وداعش إلى غربها تستحوذ على معظم منطقة “البادية” كما تسمى، ثم النظام الشيعي ببغداد ممتدًا حتى البصرة، وهي المنطقة التي يحيط بها شمالًا قوتا إيران وتركيا، وجنوبًا كُتلة الخليج، وغربًا القوة المصرية الضئيلة وغير القادرة على لعب دور حقيقي منذ أربعة عقود، والتي بدأت تعاني هي الأخرى من لعنة المشرق بعيدًا عن سلطة الدولة في وادي النيل في كل من سيناء والصحراء الغربية.
***
تماثل تلك الصورة التي تبدو جديدة في أذهان الكثيرين ما كان عليه الشرق الأوسط في الحقيقة قديمًا ليس إلا، فلبنان طالما كان جزءًا مما يجري في سوريا بشكل أوسع، ودمشق وحلب طالما وقعتا في مُلك نظامين مختلفين، وشمال العراق الكردي كثيرًا ما استقل عن جنوبه في بغداد أو كان واقعًا تحت إمرة حلب أو فارس، وقد كان ولاية مستقلة مثله مثل حلب أيام العثمانيين، علاوة على البصرة والتي كانت هي الأخرى كيانًا منفصلًا في عهدهم وليس غريبًا عليها أن تطالب بالحكم الذاتي الآن، ثم لدينا سيناء والتي كثيرًا ما خرجت عن سلطان القاهرة في أوقات ضعفها، ومساحات الصحراء الغربية الشاسعة، أو صحراء برقة كما عُرِفَت سابقًا التي غالبًا ما غاب عنها أصلًا مفهوم السلطة المركزية قبل أن يتم تدشين مشروع دولة قومية مصرية، وغيرها الكثير.
في ظل هذا التفكك بالطبع لا يتوقع أحد أن يستمر التشرذم بلا نهاية، فتلك القوى المختلفة في الشرق الأوسط القديم طالما انضوت تحت جناح إمبراطوريات أو دول كبرى، كالعثمانيين والصفويين والأيوبيين والفاطميين وغيرهم، بيد أن غياب هذه الفكرة في المنظومة الحالية يعني ببساطة أن تلك الكيانات الصغيرة قد تعود إما في صورة دولة قومية صغيرة، على غرار الحالة البلقانية، أو ولاية في كيان فيدرالي أوسع، وهو أمر مرهون بالطبع باللعبة الجارية بين تركيا وإيران بالأساس وغيرهم من قوى ضالعة في المشهد، والتي إما سيتسنى لها التوصل لماهية كيان كهذا، وإما ستضطر للتعامل مع “بلقنة” المنطقة بالكامل.