ترجمة وتحرير نون بوست
كتبت سوزان كولبل وكاترين كونتز ووالتر ماير:
عندما وصل فيزار كراسنيكي إلى برلين ورأى صورة بيرنهاور شتراسه الشهيرة للجندي الذي يقفز فوق الأسلاك الشائكة للوصول إلى الغرب، كان يعلم بأنه قد وصل إلى مبتغاه، وولج إلى عالم مختلف، يسعى لأن يصبح جزءًا منه، ولكن ما لم يكن يعرفه حينها هو أن حلمه سيصل إلى نهايته بعد 11 شهرًا، في 5 أكتوبر 2015، وبحلول ذاك الوقت، يجب عليه مغادرة البلاد، كما هو منصوص عليه في تصريح الإقامة المؤقتة الذي حصل عليه.
كراسنيكي ليس لاجئ حرب، كما أنه لم يتعرض للاضطهاد في وطنه، بل في الواقع، ليس لديه ما يخشاه في بلده الأم كوسوفو، فهو يقول بأنه هرب من شيء يعتبره أسوأ من الصواريخ وبنادق الكلاشنيكوف، إنه اليأس، وقبل مغادرته، وعد كراسنيكي والدته المريضة في بريشتينا بأنه سيصبح مهندسًا معماريًا، ووعد خطيبته بأنه سيؤمن حياة طيبة لهما معًا، “أنا لا أحد من حيث أتيت، ولكنني أسعى لأثبت نفسي”، يقول كراسنيكي.
ولكن في كوسوفو، من الصعب أن تثبت نفسك، إلا إذا كان لديك نفوذ أو كنت جزءًا من المافيا، وهما الأمران اللذان يكونان غالبًا وجهان لعملة واحدة؛ فبشكل عام، ثروة البرلمانيين في كوسوفو تخول كل واحد منهم لأن يكون مليونيرًا، وفي ذات الوقت، يعمل كراسنيكي سبعة أيام في الأسبوع كنادل، ويكسب فقط 200 يورو، حوالي 220 دولارًا، شهريًا.
ولكن انعدام الأفق الحياتي ليس سببًا معترف به رسميًا للجوء، ولهذا السبب تم رفض طلب كراسنيكي في البداية، بالتوازي مع رفض طلب 30.000 شخصًا من كوسوفو الذين تقدموا بطلبات للحصول على اللجوء في ألمانيا منذ بداية هذا العام، والكوسوفيون ليسوا وحدهم في هذا المضمار، فهذا العام، شهدت ألمانيا وصول 5514 شخصًا من مقدونيا، 11.642 من صربيا، 29.353 من ألبانيا، و 2425 من مونتينغرو، ومن أصل 196.000 شخص تقدموا بطلبات للحصول على اللجوء الأولي في ألمانيا بحلول نهاية يوليو، كان 42% منهم ينحدرون مما كان يعرف سابقًا بيوغوسلافيا، وهي المنطقة التي باتت تعرف الآن باسم غرب البلقان.
موجة النزوح الجماعي في المنطقة تكشف بأن جراح حروب البلقان لم تلتئم بعد، فسلوفينيا وكرواتيا هما الآن أعضاء في الاتحاد الأوروبي، ولكن كوسوفو، التي انفصلت عن صربيا واستقلت قبل أوانها في عام 2008، تقطعت بها سبل الحياة ونُبذت، وصربيا مازالت ترزح تحت وطأة مسألة كوسوفو التي بقيت دون حل، كما أن النظام السياسي في البوسنة والهرسك أضحى على حافة الانهيار بعد 20 عامًا من انتهاء الحرب هناك، ومقدونيا أمضت عقدين من الزمن في غرف الانتظار في الاتحاد الأوروبي ومنظمة حلف شمال الأطلسي “الناتو”، وذلك بفضل الضغط اليوناني نتيجة لخلاف بشأن اسم البلاد، والعواقب التي نجمت عن جميع ما تقدم كانت مرهقة وكثيرة؛ نقص الاستثمارات، انعدام نظم الرعاية الاجتماعية، الفساد والجريمة المنظمة، ارتفاع معدلات البطالة، الفقر، الإحباط، والغضب.
فقدان الثقة
أظهر استطلاع أجرته مؤسسة فريدريش إيبرت الألمانية بأن حوالي ثلثي الشباب الذين تتراوح أعمارهم بين 14 إلى 29 عامًا يسعون لترك ألبانيا، وكذلك يأمل أكثر من نصف الشباب الواقع ضمن ذات الفئة العمرية في كوسوفو ومقدونيا، وكل ذلك نتيجة لفقدان الثقة بديمقراطيات هذه البلدان الناشئة، والأمل بتحصيل حياة أفضل.
التقدم بطلب للحصول على حق اللجوء في أوروبا هو السبيل الوحيد لهؤلاء الشباب للحصول على تصريح للإقامة هناك، ولكن تقريبًا جميع الطلبات التي يتم تقديمها من شباب بلدان غرب البلقان يتم رفضها في نهاية المطاف؛ ففي عام 2014، تم الاعتراف بحق اللجوء لـ0.2% من صربيا، 1.1% من كوسوفو، و 2.2% من ألبانيا، علمًا أن أحد الموضوعات التي تمت مناقشتها في قمة اللجوء في برلين في 9 سبتمبر، كانت احتمالية ضم ألبانيا ومونتينيغرو وكوسوفو إلى قائمة “البلدان الآمنة” جنبًا إلى جنب مع صربيا ومقدونيا والبوسنة والهرسك، على أمل أن يساعد تغيير القواعد على إحجام العديد من الأشخاص عن الهجرة من دول البلقان إلى ألمانيا.
في الواقع، لا يكاد يوجد سبب حقيقي لمنح حق اللجوء للمهاجرين من دول البلقان، فحتى منظمات حقوق الإنسان ليس لديها أي اعتراضات حقيقية حول تصنيف هذه البلدان على أنها “آمنة”، مع بعض الاستثناءات التي ينبغي أن تنطبق على الأقليات مثل السنتي والروما (الغجر)، فضلًا عن المثليين الجنسيين، ولكن هل هذه هي الوسيلة الناجعة لوقف هؤلاء الأشخاص اليائسين من القدوم إلى أوروبا؟ وما هي الأوضاع التي يفر منها فيزار كراسنيكي وأمثاله؟ وما قيمة الأمان السياسي بالنسبة للأشخاص المعدمين والفقراء؟
البحث عن أجوبة لهذه الأسئلة يأخذنا إلى ألبانيا وكوسوفو، أفقر دول البلقان ومصدر أكبر عدد من طالبي اللجوء في الأشهر الأخيرة، وصربيا، التي تم تصنيفها على أنها “بلد منشأ آمن” خلال كامل العام الماضي.
كوسوفو: السجن الكبير
فوتشيترن، المدينة الصغيرة الواقعة في شمال بريشتينا، تحمل رقما قياسيًا حزينًا، فتقريبًا عُشر سكانها البالغ عددهم 70.000 نسمة، غادروا إلى ألمانيا، أو عادوا منها سابقًا، وذلك إبان إغلاق مصنع الجلفنة في المدينة العام الماضي، والذي كان أكبر منشأة تستقطب العمال هناك، ومنذ ذلك الوقت باشرت موجات النزوح الجماعية، حيث قام البعض ببيع منازلهم أو مجوهراتهم لدفع ثمن الرحلة، وجميع السكان تقريبًا أصبحوا يرزحون تحت وطأة الدين، وفجأة لم يعد أحد من السكان يرغب بالبقاء في مدينة فوتشيترن بعد الآن.
يستقل المهاجرون حافلات إلى مدينة سوبوتيتسا الواقعة على الحدود الصربية الهنغارية، ومن ثم يقوم المهربون بأخذ مجموعات مؤلفة من 60 إلى 70 شخصًا في رحلة تستغرق ثماني ساعات عبر غابات هنغاريا، متجنبين المرور على مواقع الخفر الحدودية.
“كنت أشعر بأن جميع سكان كوسوفو كانوا هناك”، قالت توتا كيلميندي، 30 عامًا، المرأة الجذابة بخدودها النضرة وعيناها الزرقاوتين، وهي تمسح دموعها، مستذكرة كيف اصطحبت ابنتها معها في رحلتها الباردة في منتصف شهر فبراير، ومررت أمامنا صورًا التقطتها على هاتفها الذكي تظهر الفندق الذي باتت به في صربيا، والقطار الذي استقلته إلى النمسا، والأسرة التي صورتها وهي تستقل حافلة في ولاية بادن فورتمبيرغ الواقعة جنوب غرب ألمانيا، متجهة إلى مخيم استقبال المهاجرين.
كيلميندي وزوجها يعيشان في بيت أهل زوجها في قرية قرب فوتشيترن، حيث كانت العائلة تملك بقرة واحدة، وكيلميندي كانت تحلم بتعلم مهنة تصفيف الشعر، وزوجها يحلم بأن يكسب أكثر من الـ15 يورو التي يكسبها يوميًا من عمله في قيادة سيارة أجرة غير قانونية، وفي يناير سمعت العائلة أخبارًا على شاشة التلفزيون تفيد بأن ألمانيا تسعى لاستقطاب العمال الأجانب وتقبل اللاجئين، لذا قاما باقتراض 3000 يورو من الأقارب، وغادرا القرية، ولكن حلم العائلة الصغيرة تقوض قبل بضعة أسابيع، وكيلميندي وزوجها، عادا، مثل كثيرين آخرين، إلى فوتشيترن.
وفي هذا اليوم، كيلميندي كانت تجلس في مكتب الرعاية الاجتماعية، آملة بأن تحصل على الوظيفة الشاغرة التي طرحتها منظمة إغاثة دولية في منصب مساعد إقليمي، وتحضرت لمقابلتها بأحمر شفاه فاقع، وبلوزة من الشيفون الأبيض.
“لقد كنا نخدع أنفسنا”، قالت كيلميندي، في إشارة إلى رحلة العائلة إلى ألمانيا، ولكن هذا الوضع ليس مستغربًا ربما ضمن هذا البلد الصغير الذي يبلغ عدد سكانه 1.8 مليون نسمة فقط، حيث يعيش واحد من كل أربعة أشخاص على الأقل بدخل لا يتجاوز الـ1.20 يورو يوميًا، وثلثي الكوسوفيين هم من فئة السكان الذين تقل أعمارهم عن الـ30 عامًا، و70% منهم عاطلون عن العمل، ومن هذا المنطلق، العديد من الأسر بالكاد كانت ستستطيع البقاء على قيد الحياة بدون الـ600 مليون يورو التي يتم إرسالها سنويًا إلى أفراد الأسرة في كوسوفو من أبنائهم وذويهم الذين يعملون في المهجر، حيث تمثل هذه الحوالات المالية حوالي نصف الناتج المحلي الإجمالي للبلاد.
إدارة متخمة
أولئك الذين ليسوا جزءًا من النظام في كوسوفو بالكاد يملكون فرصة للهرب من براثن الفقر، على الرغم من أن كوسوفو تتلقى أكبر قدر من المساعدات الخارجية للفرد الواحد من أي بلد آخر؛ فالاتحاد الأوروبي يدفع 250 مليون يورو لبعثة الاتحاد الأوروبي لسيادة القانون، بعثة أيوليكس، التي فشلت في تطوير المؤسسات الدستورية ومحاربة الفساد.
ذات المجموعة من السياسيين الفاسدين يشغلون ويحتلون جميع المناصب الحكومية العليا، مما أدى إلى تشكيل جهاز إداري متخم ومتضخم بحوالي 100.000 موظف، حيث يتم شغر المناصب الحكومية عادة من قِبل أقارب وأنصار أولئك الذين يشغلون المناصب السياسية، ويتم التعامل مع الممتلكات العامة وكأنها ممتلكات خاصة؛ فعلى سبيل المثال، تم بيع محطة للكهرباء في الآونة الأخيرة لأحد أقارب الرئيس التركي بسعر خصم كبير، والأرباح التي تحققها البلاد يتم ضخها ضمن قنوات مظلمة وغير شرعية، كما أن إجراءات المحاكمات تمتد لأوقات طويلة جدًا، وأكبر دليل على ذلك تراكم أكثر من 500.000 قضية في البلاد لا تزال قيد النظر في المحاكم.
البلاد لم تفتح أي ملف تحقيق حول الـ13.000 مواطن الذين لقوا حتفهم خلال الحرب، حيث أصبح الضباط السابقون في جيش تحرير كوسوفو يشغرون المناصب الحكومية الآن، وفقط في بداية شهر أغسطس الماضي أعلن البرلمان عن موافقته على تشكيل محكمة خاصة للتحقيق في جرائم الحرب.
تم تحرير الكوسوفيين من الظلم الصربي منذ انتهاء الحرب قبل 16 عامًا، ولكنهم حتى الآن لا زالوا يعيشون ضمن قفص كبير؛ فكوسوفو هي البلد الوحيد في البلقان الذي يحرم مواطنوه من الوصول إلى أوروبا ويحتاجون لتأشيرة دخول “فيزا” لدخول دول الاتحاد الأوروبي، كما أن كوسوفو ليست عضوًا في الأمم المتحدة، فضلًا عن أنه لا يُسمح لها بالاشتراك باسمها للمنافسة في مونديال كأس العالم لكرة القدم.
وهكذا كان الوضع في فوتشيترن، فلا أحد من السكان كان مهتمًا على وجه الخصوص لتحري صحة خبر قبول ألمانيا للعمال الأجانب على أرض الواقع، ولم يتحقق أحد من الشائعات التي كانت تقول بأن المهربين ربما نشروا هذه المعلومات لخلق آمال كاذبة لدى الشعب، وكما يقول رئيس بلدية فوتشيترن، باجرام مولاكو 66 عامًا، وهو أستاذ رياضيات سابق ذي نظرة ثاقبة، أثناء جلوسه على طاولة مؤتمر كبيرة في قاعة المدينة، “السائقون والمهربون وأصحاب الفنادق ربما جمعوا أكثر من 10 مليون يورو جرّاء موجة النزوح الجماعي من كوسوفو”، فضلًا عن أن الحكومة في بريشتينا تلقي باللوم في موضوع زيادة أعداد اللاجئين على شبكات التهريب الدولية، حيث اعتقلت الشرطة 54 شخصًا من المشتبه بانخراطهم بهذه الشبكات.
“أصبحنا نتمتع بحياة”
في فصل الربيع، دعا مولاكو مواطنيه للبقاء في وطنهم، متحدثًا عن فرص عمل جديدة، ودعم لمزارعي البطاطا ومربيي النحل، داعيًا الأشخاص للعمل بجد فقط لتحصيل رزقهم، ولكن لا أحد كان يريد سماع ذلك؛ فعدد الأشخاص الذين يغادرون المدينة واصل ارتفاعه بالتزامن مع اطراد عدد المهربين، وهبطت أسعار تهريب البشر يومًا بعد يوم، وفي نهاية المطاف، وصل سعر التهريب إلى هنغاريا إلى مبلغ لا يتجاوز الـ200 يورو فقط؛ لذا أصبح الجميع اليوم يسعى لتجربة حظه، حتى لو كان ذلك يتضمن رؤية أوروبا لمرة واحدة في حياته فقط، حيث غادر أكثر من 100.000 كوسوفي البلاد في الأشهر الـ12 الماضية، بما في ذلك 48.000 شخص في الأشهر الثلاثة الأولى من هذا العام وحده، وأغلبهم اتجه إلى ألمانيا وفرنسا، ولم يعد من هؤلاء سوى 13.000 شخصًا حتى الآن.
ربما لا تعارض الحكومة كليًا موضوع الهجرة الجماعية، ذلك أن المهاجرين النموذجيين يتراوح عمرهم ما بين الـ20 إلى 34 عامًا، وهؤلاء عاطلون عن العمل، ولا يتمتعون بالتدريب الملائم، ويكسبون ما لا يزيد عن 450 يورو في الشهر، كما أن كوسوفو تتمتع أيضًا بأعلى معدل مواليد في أوروبا، وفي كل عام يبلغ حوالي 40.000 شخص سن العمل، مما يخلق المزيد من الضغوطات على سوق العمل.
فيزار كراسنيكي لا يريد العودة إلى بلاده، وحيث قابلناه في مقهى يقع بميدان ألكسندر في برلين، كان ينفث دخان الشيشة، وهو يرينا هاتفه المحمول، الذي جمع ضمنه قائمة لا تنتهي من أرقام الكوسوفيين في برلين وألمانيا وأوروبا كلها، وأوضح بأنه يتحدث معهم على الهاتف، ويرتبون أحيانًا لإجراء ألعاب كرة القدم، ولكن الأهم من ذلك كله هو أنهم يتنافسون فيما بينهم لكسب سباق الشخص الذي سيبقى لفترة أطول في ألمانيا، وعندما يعاني أحدهم من نقص في المال، يدعمه أترابه نفسيًا من خلال قولهم “نحن فقراء، ولكن أصبحنا نتمتع بحياة”.
في السويد يتم ترحيل المهاجرين بعد أربعة أيام فقط، كما يقول كراسنيكي، ولكن فنلندا تتمتع بأنظمة أكثر تحررًا، لذا فإن كراسنيكي يفكر بالذهاب إلى فنلندا بعد 5 أكتوبر، وهو تاريخ نهاية إقامته بألمانيا.
ألبانيا: في دوامة الهجرة
مالي تافاج يقف في حقل لدرس الحنطة يبعد خمسة كيلومترات من الحدود مع كوسوفو، حيث يجمع الحزم المجففة، ويهزها في السماء صافية ومن ثم يضربها بكتلة خشبية لفصل الحبوب.
جمع، هز، وضرب الحبوب هو الإيقاع اليومي الذي يعيشه تافاج، حيث يباشر عمله بالحقل ابتداءً من الساعة الثامنة صباحًا جنبًا إلى جنب مع شقيقته بادي، والده بايران، ووالدته نادرة، لإنتاج الأعلاف اللازمة لأبقارهم الثلاث، وعملية درس الحنطة تستغرق حوالي 8 ساعات، ولكن بجميع الأحوال، ليس هناك مهام كثيرة أخرى يمكن القيام بها في نوفوسيج.
نوفوسيج هي قرية صغيرة تقع في شمال شرق ألبانيا، أكواخها مصنوعة من حجارة الشوراع، وشوارعها غير مرصوفة أو معبدة، الدجاج ينقر في التراب، وكبار السن يمتطون ظهور الحمير، والأطفال يرعون الخراف، وقبل عدة سنوات، كانت تعداد سكان القرية يبلغ حوالي 2000 نسمة، ولكن الآن لم يتبق منهم سوى 300 شخص، “جميعهم أصبحوا في ألمانيا”، يقول تافاج.
الرجل النحيل البالغ من العمر 23 عامًا، وأحد عشاق نادي إي سي ميلان، روى لنا قصته وهو يمسح العرق من جبينه؛ فحين التحق بالجامعة، رتّب خياراته للاختصاص الذي يرغب بدراسته من الأعلى إلى الأدنى، مصنفًا دراسة الاقتصاد في المقام الأول، ومن ثم الصحافة، ومن ثم اختصاص الغابات، وحينها اختارت له الحكومة اختصاص الغابات، وبالمحصلة، أصبح تافاج اليوم يعرف أسماء جميع أنواع الأشجار المحلية باللغة اللاتينية، ولكنه لم يحصل على وظيفة؛ فألبانيا تعاني من معدل البطالة يبلغ 30%.
بادي، نادرة ومالي تافاج يقومون بدرس الحنطة بالقرب من نوفوسيج
هناك حوالي ثلاثة ملايين ألباني لا زالوا يعيشون في البلاد، وذات العدد تقريبًا غادروا البلاد سابقًا، وألبانيا تقع بالمرتبة التاسعة في ترتيب البنك الدولي من حيث نسبة المهاجرين إلى عدد سكان البلاد؛ ففي الأشهر السبعة الأولى من هذا العام، تقدم أكثر من 29.353 ألباني للحصول على اللجوء في ألمانيا، بما في ذلك 7500 طالب لجوء في يوليو وحده، وإحصائيًا، بعد السوريين والكوسوفيون، أصبح الألبان المجموعة الثالثة الأكثر طلبًا للجوء في ألمانيا.
بدأت أحدث موجة للهجرة من ألبانيا بالتزامن مع انطلاق الشائعات التي انتشرت في القرى، كما يقول السكان، حيث وصلت الإشاعة من كوسوفو في بداية هذا العام، حول فتح الحدود لصربيا، واستقبال ألمانيا لعدد كبير من اليد العاملة.
انتظار المعجزة
العشرات من أصدقاء تافاج وأقاربه غادروا القرية واتجهوا نحو الحدود إلى بريزرن، حيث دفعوا 200 يورو لاستقلال حافلة تقودهم إلى ألمانيا، ومنذ أن تم إلغاء شرط الحصول على التأشيرة في عام 2010، بات يسمح للألبان بقضاء ثلاثة أشهر في السنة كسياح في منطقة الشنغن، ولكنهم لدى وصولهم إلى ألمانيا، يقدمون طلبًا للجوء، ويتلقون 143 يورو كمساعدات شهرية، وينتظرون العمل، أو معجزة ما لتحصل.
ألبانيا بلد تتميز بالتحولات المستمرة، ابتداءً من تحولها إلى النظام الشيوعي، ومرورًا بالاضطرابات التي عانت منها على الحدود والحرب الأهلية التي نشبت فيها، وانتهاءً بتحولها إلى الديمقراطية البرلمانية، كما تم ترشيح ألبانيا للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي قبل عام من الآن، ولكنها أيضًا بلد تتفشى ضمنه ممارسات الإتجار بالبشر والجريمة المنظمة.
عانت ألبانيا منذ عام 2014 من 72 تفجيرًا تم ربطها بتصفية النزاعات الجنائية، سواء الخاصة منها أو السياسية، والعائلات الألبانية بأكملها تضطر أحيانًا لالتزام منازلها جرّاء التهديدات بالانتقام من الدم التي يتم تسويتها في الشوارع، فضلًا عن أن ألبانيا تقع في المركز 110 ضمن ترتيب الفساد الصادر عن منظمة الشفافية الدولية.
ألبانيا أيضًا هي أفقر دولة من بين الدول الأوروبية الـ37 وفقًا لإحصائيات المكتب الإحصائي الأوروبي “يوروستات”؛ فبعد عام 1990، تم إغلاق التعاونيات الزراعية، ودخلت البلاد في طور الفوضى الصناعية، كما غادر حوالي نصف العلماء والأكاديميين من البلاد، وتشير الإحصائيات بأن واحدًا من كل شخصين من الألبان يعمل في مجال الزراعة اليوم، ويبلغ متوسط الناتج المحلي الإجمالي بالنسبة للفرد الواحد 3486 يورو سنويًا، وهذا يشكل ثُمن متوسط الدخل الفردي في دول الاتحاد الأوروبي، كما أن متوسط الأجر الساعي في ألبانيا يبلغ حوالي 2 يورو.
ولكن في الوقت عينه، لا يتعرض أي شخص للاضطهاد في ألبانيا بسبب انتقاده الحكومة، كما لا يوجد حرب تدور رحاها في البلاد، والسنتي والغجر لا تتم ملاحقتهم أو قتلهم، فضلًا عن أن ألبانيا بلد متسامح مع المثلية الجنسية، وإذا تم تصنيف ألبانيا كبلد منشأ آمن، سيصبح من السهل ترحيل مواطنيها، ولكن هل يحل هذا الإجراء المشكلة؟
في فترة ما بعد الظهر، تمت دعوتنا إلى منزل مالي تافاج وعائلته، المنزل هو عبارة عن كوخ بسيط مصنوع من الحجر، يتقاسم فيه الأبوان غرفتهما مع الأخ الأصغر، ويتقاسم تافاج سريره مع شقيقته، وعندما يحل الليل، تطفق أحاديث الهجرة لتدور فيما بين أفراد العائلة، حيث تقول بادي “كامرأة، لا بد لي من البقاء، ولكنني أرغب بأن يغادر أخي قريبًا”.
“توخيًا لمصلحة والداي”
يبلغ الدخل السنوي لعائلة تافاج حوالي 3500 يورو، فهم يكسبون 20 سنتًا عن كل كيلوغرام يبيعونه من البطاطس، و2.5 يورو عن كل كيلوغرام من لحم العجل، “من المؤسف أننا لا نستطيع أن نقدم للأطفال مستقبلًا ملائمًا في هذه البلاد”، تقول الأم.
في اليوم السابق، تحدث تافاج مع بعض المهاجرين الذين يعيشون في لندن والعائدين إلى ألبانيا لقضاء فترة الإجازة، حيث عاد هؤلاء بحلل جديدة، وجلبوا معهم المال من إنجلترا، وتشير الإحصائيات بأن التحويلات المالية من المهجر تشكل عُشر الناتج المحلي الإجمالي للبلاد، “يجب عليّ أن أعيل والداي عندما يتقدمان بالسن، ولكن كيف لي أن أفعل ذلك؟”، يقول تافاج.
في شريط فيديو نشرته الشرطة الألمانية شاهده تافاج على الفيسبوك، يقول المتحدث بأنه لا يوجد احتمالات للجوء الألبان في ألمانيا، وتافاج في قرارة نفسه يرغب فعلًا بالبقاء في ألبانيا، ولكنه يقول “لكنني سأذهب على الأرجح، توخيًا لمصلحة والداي”.
إيدي راما لديه ما يقوله في هذا المجال، “أنا أعرف أن ألمانيا هي بلد مغرية”، يقول راما، ويضيف “مبلغ 11 يورو في اليوم، تصريح العمل المؤقت، والقدرة على إدخار القليل من المال في تلك الأشهر الثلاثة، كل ذلك جدير بالاهتمام بالنسبة للكثير من الألبان”.
راما هو رجل بشوش وطويل القامة، كان غير ما مرة أستاذًا للفنون، كما كان رئيس بلدية العاصمة الألبانية تيرانا، وهو الآن رئيس وزراء البلاد، مكتبه في تيرانا، يبعد حوالي ثلاث ساعات بالسيارة من قرية تافاج، ومن على مكتبه يقول لنا بأنه يسعى لتحقيق حلم ألبانيا بالانضمام إلى الاتحاد الأوروبي.
على مدى عقود، عوّل اقتصاد البلاد على طفرة قطاع البناء والتحويلات المالية القادمة من المغتربين في المهجر، ولكن اليوم تنوعت مصادر اقتصاد البلاد لتشمل صناعة الغزل والنسيج، التعدين، الاتصالات، الطاقة، والسياحة، “ولكن تحقيق نتائج ملموسة يستغرق وقتًا طويلًا”، يقول راما.
عملية الإصلاح في البلاد وصلت إلى طريق مسدود، حيث تظاهر عشرات الآلاف عندما رفعت الحكومة الضرائب على السجائر والبنزين، وأعلنت عن خططها لفرض ضريبة دخل أعلى، الناس يغادرون ألبانيا لأن التغيير يستغرق وقتًا طويلًا، ولمنع المزيد والمزيد من المواطنين من الهجرة، فإن رئيس الوزراء يحث الاتحاد الأوروبي لتصنيف بلاده على أنها “آمنة” في أسرع وقت ممكن، لأنه يعلم بأن مفاوضات الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي لن تبدأ طالما استمرت أعداد كبيرة من الألبان في طلب اللجوء في بلدان الشمال.
راما أيضًا لديه حلم، حلم بحثه مع المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل عندما زارت تيرانا في يوليو الماضي، يتمثل بدخول ألمانيا في برامج تعاون مع مدارس التجارة الألبانية، حيث تقوم هذه المدارس بإعداد الألبان لنوع من الأعمال لا يرغب المواطنون الألمان بأدائه، وراما يطلق على هذه الفكرة لقب “الفكرة المغيّرة للقواعد”، ويضيف قائلًا “خمسون مدرسة تجارية، وخلال ثلاث سنوات، كل شيء سيصبح هنا مختلفًا”.
صربيا: الهروب من برد الشتاء
معظم المهاجرين البلقان يأتون من ألبانيا وكوسوفو، ولكن واحدًا من كل خمسة مهاجرين ينحدر من صربيا أو مقدونيا، البلدان اللذان تم اعتبارهما “دولًا آمنة” منذ عام 2014، وعلى الرغم من ذلك، فقد ارتفع عدد طلبات اللجوء لمواطني صربيا بنسبة 45% مقارنة مع الأشهر السبعة الأولى من عام 2014، علمًا أن نسبة المواطنين من صربيا الذين سمح لهم بالبقاء في ألمانيا عام 2015 لا تتجاوز الـ0.1%، فلماذا إذن يستمر الصربيون بالقدوم؟
خلال الأشهر الثلاثة الأولى من هذا العام، كان 91% من طالبي اللجوء الصربيين في ألمانيا من طائفة الروما (الغجر)، رغم أن التمييز ضد الغجر في صربيا هو أقل من التمييز الممارس ضدهم في هنغاريا وجمهورية التشيك وسلوفاكيا، ولكن الحاجة هي الأساس الذي يدفع هؤلاء المواطنين للهجرة، “نحن أيضًا نريد أن نحصل على جزء من الازدهار الألماني، وهذا هو السبب الذي يدفع الكثيرين للهجرة”، يقول فيتومير ميهايلوفيتش، رئيس المجلس الوطني للروما، الذي يمثل 600.000 مواطن روما في صربيا، من مكتبه الذي يطل على كنيسة سان مارك في بلغراد.
أم من طائفة الروما مع أطفالها في مخيم بضواحي بلغراد
ويتابع ميهايلوفيتش موضحًا بأن جميع الأحاديث حول الغش في حالات اللجوء في أوروبا هي أحاديث غير صحيحة ومضللة، فما يبحث عنه شعبه في الواقع هو اللجوء الاقتصادي، وهذا يعني أن الشعب لا يفر من البلاد لأسباب سياسية، ولكنه مع ذلك يعاني من تهديدات أخرى، حيث يوضح ميهايلوفيتش بأن 80% من الصربيين الغجر لم يكملوا تعليمهم الابتدائي، لأن التمييز الممارس ضدهم يخلق حلقة مفرغة من المعاناة، وتهميش السكان الذين يعيشون في منطقة ماهالا، وهي مستوطنة الغجر، يباشر بالظهور والتبدي لمعظم سكان المستوطنة منذ اقترابهم من سن التعليم، وحينها لا يستغرق الأمر طويلًا حتى يبدأ شعور اليأس بالتنامي بين هؤلاء السكان.
الظروف تتبدا في أسوأ حالاتها خلال أشهر الشتاء الباردة، ولمنع الناس من التوجه من صربيا إلى أوروبا الغربية، يقترح ميهايلوفيتش أن يرسل الألمان الخشب للتدفئة، المواد الغذائية، ومستلزمات النظافة، واتخاذ تدابير أخرى قصيرة الأجل، “الساعة آذنت بالفعل”، يقول ميهايلوفيتش محذرًا، ويتابع “الأمور ستتعقد مع دخول الشتاء، وستباشر حينها الموجة المقبلة من اللاجئين بشق طريقها إلى الشمال”.
8 أشخاص يعيشون ضمن 12 مترًا مربعًا
هالكيك الحساني هو من بين أولئك الذين يخططون لأداء الرحلة إلى الشمال في وقت قريب، حيث أمضى هذا الرجل، البالغ من العمر 42 عامًا، تسع سنوات وهو يعمل لصالح شركة لجمع القمامة، ولكنه أصبح عاطلًا عن العمل منذ فترة طويلة، ويعيش الآن مع زوجته وأطفاله الستة ضمن مساحة لا تتجاوز الـ12 مترًا مربعًا في منطقة ماكيس 1، وهي مستوطنة فقيرة تقع على حافة بلغراد وتحيط بها القمامة والكلاب الضالة والأطفال الذين يلعبون في العراء، وفي الوقت الراهن على الأقل تعيش عائلة الحساني في هذه المنطقة، علمًا أن المدينة تسعى لطرد العائلة لأنهم تركوا البلاد للسفر إلى ألمانيا في عام 2011، وبذلك، يُصادر حقهم في العيش هنا.
استقلت عائلة حساني الحافلة في عام 2011 من بلغراد إلى إسن، حيث قدموا طلبًا للجوء هناك، وبعد نحو عام من ذلك، رفض المسؤولون الألمان طلباتهم، لكنهم استمروا بالعيش في ألمانيا لمدة 15 شهرًا آخر، “لقد كانت الحياة هناك تشابه العيش في أمريكا” يقول حساني، ويتابع “لقد حصلنا على بدل يبلغ 900 يورو في الشهر فضلًا عن المواد الغذائية ومستلزمات النظافة”.
ولكن بعد ذلك، تم قطع هذه المساعدات، وظهر عناصر الشرطة في صباح أحد الأيام في الساعة الثالثة صباحًا ليقودوا العائلة إلى المطار، حيث تم نقلهم إلى الوطن على متن رحلة لخطوط أدريا الجوية من فرانكفورت في 25 فبراير 2014، وحينها أخفى الحساني هويته التي ختمتها الشرطة الاتحادية الألمانية بكلمة “مُرّحل”، ولكن هذا الأمر لم يصبه بالهلع، حيث يقول “قيل لي بأن مدة المنع تستمر لعامين فقط، وسيُسمح لنا بدخول ألمانيا مرة أخرى في فبراير، وأخطط مع عائلتي للذهاب إلى هناك مرة أخرى”.
رئيس الوزراء الصربي ألكسندر فوسيتش لديه بعض النصائح ليقدمها للألمان، حيث يقول “أعيدوا شعبنا إلى وطنه مرة أخرى، والأهم من ذلك، لا تعطوهم أي أموال”، علمًا أنه حاليًا لا يوجد أي مصلحة لفوسيتش لفتح أي نزاع مع الألمان، خاصة بعد أن رفع الاتحاد الأوروبي شرط الحصول على تأشيرة للصربيين للسفر إلى منطقة الشنغن في عام 2009، وأن أي نزاع مع الألمان سيكون بمثابة انتكاسة كبيرة لرئيس الوزراء وسياساته لفتح صربيا، والتي تشمل مفاتحات حذرة مع كوسوفو وتنفيذ إصلاحات اقتصادية مؤلمة.
ولكن الصربيين الغجر ليسوا الوحيدين الذين يتجهون إلى ألمانيا؛ فبلغراد أصبحت نقطة عبور لعشرات الآلاف من السوريين والأفغان والإيرانيين الذين يتدفقون إلى شمال أوروبا عبر تركيا واليونان، كون الاتحاد الأوروبي، وهو حلم هؤلاء اللاجئين، يقع على بعد 200 كيلومتر من العاصمة الصربية، لذا يصل إلى صربيا حوالي 2500 لاجئ كل يوم، كما أن عددًا كبيرًا من اللاجئين أيضًا يعبرون باتجاه مقدونيا المجاورة، لدرجة اضطرت معها الحكومة المقدونية إلى إعلان حالة الطوارئ.
بغية توجيه رسالة معينة، ظهر رئيس وزراء صربيا في 19 أغسطس الماضي في الحديقة خلف محطة بلغراد المركزية، حيث يتجمع آلاف اللاجئين قبل المرحلة الأخيرة من رحلة اللجوء المتمثلة بالوصول إلى هنغاريا، وقبل يوم واحد فقط من الزيارة، كان اللاجئون يخيمون في هذه المنطقة وسط جبال القمامة، وقطع الملابس الممزقة، والفضلات البشرية، ولكن في صباح يوم 19 أغسطس، قام مرفق الصرف الصحي بتنظيف الحديقة تمهيدًا لقدوم فوسيتش المحاط بالكاميرات، ليعبر حينها عن حسن ضيافته ومودته تجاه اللاجئين، وكون معظم الموجودين هناك لم يكونوا يعرفون محدثهم، قام رئيس الوزراء بالتربيت على رأس صبي لاجئ، واختفى مرة أخرى على الفور.
على هامش مؤتمر دول البلقان الغربية الذي عقد في هوفبورغ في فيينا، جاء منظمو المؤتمر بفكرة مبدعة لإقامة حدث خاص واستثنائي؛ ففي 26 أغسطس، أقيمت مبارة لكرة القدم بين فريق ممثلي الدول الأعضاء الحاليين في الاتحاد الأوروبي (FC EU) ضد فريق ممثلي دول مستقبل الاتحاد الأوروبي (FC Future EU)، حيث كان يضم هذا الفريق الأخير رئيس الوزراء الصربي فوسيتش، وزير خارجية كوسوفو هاشم تاتشي، ورئيس وزراء ألبانيا إيدي راما، وهؤلاء الرجال الذين لم يتصافحوا منذ أمد بعيد، لعبوا جنبًا إلى جنب ضمن فريق دول مستقبل الاتحاد الأوروبي، في بادرة قد تكون جيدة لوأد العداوات القديمة، ومحاولة إيجاد وسيلة لوقف الهجرة الجماعية.
المصدر: دير شبيغل