ترجمة وتحرير نون بوست
يواجه أبو جورج إمكانية خسارة ثالث منزل لعائلته في تل أبيب – يافا، وهي المدينة التي كانت غير ما مرة جزءًا من فلسطين التاريخية، أبو جورج، الرجل الكهل الذي ترعرع في حي العجمي بيافا، يتذكر كيف كان يجلس وهو طفل صغير على سطح منزل عائلته المبني على الطراز العثماني، ليصطاد الأسماك في البحر الأبيض المتوسط، حيث كان يفصل منزله الفخم عن الشاطئ طريق صغير فقط، ورغم أن المنزل بقي كما كان عليه سابقًا، عقارًا رئيسيًا، ولكن صيد الأسماك من فوق سطح المنزل لم تعد عملية ممكنة الآن.
تم هدم منزل أبو جورج جزئيًا في أواخر التسعينات، جنبًا إلى جنب مع العديد من المنازل الأخرى في حي العجمي، حيث لم يتبق من المنزل سوى هيكله.
مغيرة من نهجها تجاه يافا، قررت بلدية تل أبيب – يافا، التي يحكمها العمدة رون هولداي، بأن يافا قد تكون الحل الملائم لأزمة السكن المتنامية في تل أبيب، وقررت إعادة تأهيل المنطقة بتطويرات جديدة، تتضمن تدمير المنازل القديمة لإفساح المجال لبناء أخرى جديدة، علمًا أنه حتى صدور هذا القرار، كان يُنظر إلى يافا إلى حد كبير باعتبارها مدينة غير مرغوب فيها، لأنها حي عربي يفيض بالجريمة، حيث تجاوزتها جميع خطط التنمية التي قررتها سياسات التخطيط الحضري سابقًا.
أحد التطويرات الجديدة التي أدخلت على المنطقة، تضمنت تحريك الشاطئ الذي كان ذات مرة قريبًا من منزل أبو جورج، لبناء حديقة أصبحت تشغر المكان الذي كانت موجات البحر تلاطمه سابقًا؛ فعندما دُمرت البيوت في يافا منذ خمسينات وحتى تسعينات القرن المنصرم، كان يتم ترحيل الأنقاض والنفايات إلى بحر منطقة العجمي، وكجزء من عملية التأهيل، حولت البلدية كومة القمامة الضخمة إلى حديقة.
يعيش أبو جورج الآن في منزل مؤلف من ثلاث غرف، بعد أن كان منزله الأصلي يضعف بمرتين حجم منزله الحالي، حيث أصبحت الجدران الداخلية القديمة للمنزل تخدم بمثابة جدران خارجية الآن، حتى أن أقواس المداخل الداخلية أصبحت مرئية من المشهد الخارجي للمنزل.
والد أبو جورج سبق له استئجار منزل العائلة، لذا يتمتع أبو جورج بحق البقاء ضمنه، ولكن هذه القاعدة لا تنطبق على أولاد أبو جورج أو أحفاده، ونتيجة لذلك، يسعى أبو جورج لشراء المنزل ليسمح لعائلة ابنه أن تعيش ضمنه، ولكن الدولة لم تسمح له بذلك.
تم هدم منزل أبو جورج جزئيًا في أواخر التسعينات، جنبًا إلى جنب مع العديد من المنازل الأخرى في حي العجمي، حيث لم يتبق من المنزل سوى هيكله
يقول يوديت إيلاني من لجنة الإسكان الشعبي في يافا، بأن إسرائيل تسعى لتطوير أرض منزل أبو جورج، لأنها محاطة بالمباني الجديدة، كما أنها تتمتع بوصول مباشر إلى شاطئ البحر، “بموجب القانون يجب أن يكون قادرًا على شراء المنزل، لأنه لم يتخلف عن سداد الإيجار، ولم يبنِ أية تجاوزات غير قانونية”، يقول إيلاني، ويتابع “لكن منزله محاط بالأبنية الجديد، والدولة لا تريد بيعه الأرض، لأنها تدرك بأنها إن لم تفعل ذلك، فإنها ستكون قادرة على استعادة الأرض مرة أخرى عندما يتوفى أبو جورج، ولكن الأخير لجأ إلى المحكمة للقتال من أجل الحق في شراء منزله”، من جهته يعلق أبو جورج على هذه المعضلة بقوله “هذا عقاب الذين يعيشون في العجمي”.
مجتمعات مغلقة
كان أول مشروع للمساكن باهظة الثمن التي بنيت في يافا في أواخر التسعينات، هو مشروع أندروميدا، ومجمع أندروميدا كان أول بوادر تحويل يافا إلى منطقة للسكن الفاخر والخاص، “بالنسبة للسوق كان مشروع أندروميدا مهمًا للغاية، لأن الناس رأوا بأنه يمكن بناء مشروع للأغنياء في يافا”، يقول هشام شبيطة، وهو محام في مكتب حقوق الإنسان في جامعة تل أبيب.
تم بناء أندروميدا كمجمع كامل ضخم، يحتوي على بركة سباحة خاصة، كما تم تسويره وإغلاقه أمام الجمهور، وهو الأمر الذي يعتبر غير قانوني، لأن المشروع قائم على الأراضي العامة، “هذا غير قانوني”، يقول شبيطة، الذي ينحدر أيضًا من يافا، والذي تقدم بدعوى ضد شركة البناء أمام المحكمة، وبعد معركة استمرت لمدة ثلاث سنوات، فاز شبيطة بالدعوى بحكم أجبر المجمع على فتح مساحاته أمام الجمهور، ولكن على الرغم من ذلك، وبعد مرور 10 سنوات، لا يزال دخول الجمهور إلى المجمع لا يحصل إلا إثر مضايقات عديدة.
وأوضح شبيطة بأنه في الوقت الذي تعمل فيه شركات البناء الخاصة على تعمير هذه المشاريع السكنية، لاتزال الدولة تمتلك زمام السيطرة على ما يحدث، ذلك أن الحكومة تملك 93% من الأراضي في إسرائيل، والدستور الإسرائيلي ينص على عدم إمكانية بيع الأراضي العامة لأي شخص كان، حيث تقتصر الحقوق التي يمكن ترتيبها على الأرض العامة على تأجيرها لمدة تصل إلى 99 عامًا.
“لذا فإن قرار ما إذا كانت الدولة ستبيع أراضيها هو قرار سياسي، ويمكن للدولة أن تقرر متى ستبيع الأرض، الآن أم في وقت لاحق، لأنها تسيطر على التوقيت، وهذا يعني أن الأمر ليس مرهونًا بسياسات السوق الحرة”، يقول شبيطة، ويتابع “نتيجة لامتلاك الدولة لخيار تحديد موعد بيع الأراضي العامة، فإنها تمتلك بالتبعية خيار انتقاء الجهة المشترية لهذه الأراضي، لذلك أعتقد بأن الدولة ستبيع الأراضي في يافا إذا كانت متأكدة بأنه سيتم شراؤها بشكل رئيسي من قِبل اليهود، بينما إذا كانت تظن بأن معظم المشترين سوف يكونون من الفلسطينيين، فستحجم حينها عن البيع”.
في حالة أندروميدا، كان من المعروف أن الساكنين سيكونون من أغنياء اليهود الذين يعيشون هناك، وعلى هذا النحو تم الترويج لهذا المشروع، “قبل التحسين كانت الدولة تسيطر على السوق، أما الآن فالدولة لا تحتاج لبسط سيطرتها بشكل مباشر، وكل ما عليها القيام به هو السماح للسوق بأن يقوم بعمله فقط”، يقول شبيطة.
في بعض الحالات لا تقتصر ممارسات شركات البناء على مجرد تسويق منازلها بين الأغنياء فقط، بل تتجاوز هذا الأمر لتسويق منازلها نحو فئة محددة فقط؛ فمثلًا مشروع يوبيا للبناء صرّح علنًا بأن مساكنه مخصصة لليهود فقط، وكما يقول شبيطة “ليس هناك قانون في إسرائيل يحظر التمييز في السكن في التعاملات ما بين الأفراد”.
سامي أبو شحادة، عضو لجنة الإسكان الشعبية في يافا، حرص على تذكيرنا بأنه على الرغم من أن التحسينات بدأت في يافا في تسعينات القرن الماضي، ولكن الحقيقة هي أن الفلسطينيين اضطروا باستمرار للخروج من يافا منذ عام 1948، ونتيجة للنزوح القسري؛ انخفض عدد السكان الفلسطينيين في يافا من 120.000 نسمة إلى 4000 نسمة فقط، ومن ثم أُنزلت مرتبة يافا لتصبح منطقة داخلية تابعة لبلدية تل أبيب، بحيث لم تعد يافا مدينة بحد ذاتها، “يافا لم تعد موجودة سوى في مخيلة وذاكرة الشعب”، يقول أبو شحادة.
“البلدة القديمة رمز جديد”، لافتة تعلن عن ترميم المباني في يافا
حتى من بين الـ4000 شخص الذين بقوا في يافا، قلة فقط من استطاعوا البقاء ضمن بيوتهم الأصلية؛ فقانون أملاك الغائبين، الذي صدر في عام 1948، والذي نقل ملكيات الأشخاص الذين تم طردهم إلى دولة إسرائيل، أخرج الكثير من المنازل عن سيطرة مالكيها الأصليين.
في ستينات القرن الماضي، تم تحويل حي المنشية الشمالي، حيث كان يعيش الآلاف من السكان، إلى متنزه للعامة، وخلال فترة السبعينات والثمانينات تم تدمير مئات المنازل في حي العجمي، وتم بعدئذ تجميد البناء والترميمات، مما منع أصحاب البيوت المدمرة جزئيًا من ترميم منازلهم أو إحداث إصلاحات حقيقية عليها.
غرامة الترميم
“تم إعلان العجمي على أنها منطقة مجمدة، وهذا يعني أن السكان أصبحوا ممنوعين من فعل أي شيء في منازلهم، فمن المحظور عليهم تجديدها، حتى لو كان السقف سيسقط على أم رؤوسهم”، قال أبو شحادة، علمًا أنه يوجد في المنطقة نحو 500 عائلة كسرت هذه القواعد حينها، واليوم يتم تغريمهم بمبالغ عقوبية.
“في السبعينات كان ينبغي أن تدفع غرامات قدرها 10.000 شيكل، ولكن الآن اطردت هذه الغرامات لتصبح نصف مليون شيكل، حوالي 128.000 دولار” قال أبو شحادة.
هناك عامل آخر ساهم في التحسين الجاري اليوم، ويتمثل ذلك بقرية الفنان التي تم إنشاؤها في البلدة القديمة في يافا خلال ستينات القرن الماضي، ويشير إيلاني بأن نمو قرية الفنان، وتزايد عدد المصممين والمحلات التجارية بالترافق مع هذا النمو، عمل على بدء تغيير النظرة حينها إلى يافا، ومازال هذا الأمر مستمرًا حتى اليوم.
“التحسين الذي جرى ضمن يافا له تبعات أخرى”، يقول أبو شحادة، ويضيف “لم يعد يوجد مكان ليذهب إليه الفلسطينيون، لأنهم محاطون بالمناطق اليهودية التي لا تحتوي على أي مدرسة عربية أو مساجد أو كنائس”، وهذا يعني بأن الكثير من العائلات تعيش في ظروف متصاعبة على نحو متزايد، وفي بعض الأحيان تصل الصعوبات إلى درجة عيش ثلاثة أجيال في بيت واحد، وتقاسم غرف النوم مع الكثير من الأشخاص.
لا مكان للذهاب إليه
أحمد بلحة الذي يعمل في بلدية يافا، يتفق مع الرأي القائل بعدم وجود مكان آخر ليذهب إليه السكان العرب، لكنه قال بأن البلدية “لا تملك ما يكفي من الأراضي التي يمكن بناء مشاريع الإسكان العام عليها، حيث بنت البلدية 26 منزلًا، بموجب خطة إسكان ميسر في يافا، ولكنها ليست كافية، والبلدية لا تملك المزيد من الأراضي”، علمًا أنه منذ بناء المنازل الـ26 في وقت مبكر من تسعينات القرن الماضي، تم مباشرة بناء مشاريع الإسكان الأكثر تكلفة.
اعترف بلحة بأن هذه المشاريع السكنية الباهظة تثير الانقسام الاجتماعي، وهي مشكلة يعاني منها بالذات المواطنون الفلسطينيون الذين يعيشون في يافا، ولكن على الرغم من ذلك يضيف بلحة قائلًا “يافا كانت مهملة لمدة 50 عامًا، والبلدية اليوم استطاعت سد هذه الفجوة، فهناك الكثير من المال يخصص ليافا، لتعمير وتجديد البنية التحتية، للسياحة، والحدائق، وللأطفال، والمنتزهات”.
نتيجة لترعرعه وهو يصيد السمك من سطح منزله، شب أبو جورج ليصبح صيادًا، مبحرًا من ميناء يافا لاصطياد السمك، ولكن هذا الأمر أيضًا أصبح صعبًا ونادرًا، “لقد قتلوا ميناء يافا”، يقول أبو جورج، ويتابع “كنا نرى الصيادين والسفن، والآن أصبحت المنطقة وكأنها حانة كبيرة، حيث تصطف الحانات في المنطقة، ويرتادها الكثير من السياح”.
أخيرًا، ومع مواصلة أبو جورج لكفاحه المضني بغية ظفره بحق شراء منزله، سيعيش ما تبقى من حياته وهو يشاهد التغييرات الجذرية التي يتم إجراؤها على مدينة يافا التاريخية من حوله.
المصدر: ميدل إيست آي