يُعد السفر بين أروقة الإدارة التونسية أحد أبرز الابتلاءات التي يُمكن أن تعترضك في حياتك اليومية في تونس، فبالإضافة للبيروقراطية التي تعاني منها أغلب دول العالم الثالث، يساهم التعقيد المبالغ فيه على مستوى الإجراءات التي يجب أن تسلكها للحصول على ورقة ما في أن يفقدك كل جميل في مزاجك الذي تبذل الأمرين من أجل جعله منشرحًا.
الأسبوع السابق، وللتخفيف عن بعض ذنوبي، كنت مدفوعًا لممارسة رياضات العدو الريفي وماراثون المشي، إضافة لرياضة الصبر في حضرة الإدارة التونسية لقضاء شأنًا شخصيًا، ومن بين الإدارات التي مررت بها، كانت ما يُطلق عليها هنا في تونس “لقباضة” وهي المؤسسة التي تهتم باستخلاص الضرائب وما يتعلق بها من إجراءات.
دخلت هذه المصلحة الإدارية وقد تمكنت مني حيرة كبيرة ووجوم أكبر كنتيجة لعشرات الأوراق والأداءات التي اعترضتني، إجراءات تعمدت أن أكتشفها بنفسي هذه المرة لأنها ليست من الأشياء التي قد تقدم لك في الجامعة، وليست مما يُحكى فيُفهم معتمدًا على نظرية “اللي يسأل ما يتوهش”.
وفي خضم حيرتي الوجودية لفهم أكوام الأوراق والأداءات التي لم أقدر أن أتحسس جدواها، وأثناء توجهي لأحد شبابيك الخدمات لتقديم بعض الوثائق، قاطع مساري أحد المواطنين “الشرفاء” الذي لم يتفطن لوجودي خلفه مادًا يده نحو الموظف الشريف، وفي كفه وريقات بعضها أخضر وبعضها أحمر، ارتبك الموظف المسؤول عن جمع ضرائب الدولة والمؤتمن على خزائنها، احمر وجهه وازرق لأنه تفطن لأني أتابع المشهد، فما كان منه إلا أن صاح في وجه من أراد أن “يشجعه” على المزيد من البذل والعطاء، “لا .. لا”، ففهم المواطن الشريف القصة، فقال بكل براءة “لم أتفطن له .. لم أره”، وغادر مبنى الإدارة، ليتبعه الموظف الشريف طالبًا مني الانتظار قليلًا، ليتم التشجيع على ما يبدو في الهواء الطلق.
يطلق عليها في تونس رشوة أو قهوة، وبقشيش في عدد من البلدان الأخرى العربية، و”متابش” في أفريقيا الوسطى، فيما تعرف بـ”بروبينا” في أمريكا اللاتينية ووعاء خمر في أوروبا، وهي ظاهرة باتت تنخر مجتمعاتنا، وخاصة تونس، حتى باتت من الدارج، متى ذهبت للمستشفى العمومي وأردت أن يتم الاهتمام بمريضك الذي صاحبته سيُعرض عليك أن تدفع لقاء ذلك، متى وردت سلعة وكانت كل إجراءاتك قانونية، قد يُعرض عليك أن “تفرح” بأعوان الديوانة حتى لا يتم تعمد تعطيل عملية الحصول عليها.
أرقام مفزعة حول الرشوة في تونس
وفي هذا السياق، أكد تقرير للبنك الأوروبي سنة 2014 تفشي الرشوة والفساد في تونس ومصر بدرجة أكبر من الأردن والمغرب، وبين أن الفساد الذي كان سببًا في قيام الثورات في العالم العربي تواصل في تونس، وهو من أهم العراقيل التي تواجه الشركات والاقتصاد، وذكر التقرير أن عدم الاستقرار السياسي والفساد وممارسات المنافسين في القطاع غير الرسمي هي أهم القيود التي تواجهها الشركات في مصر وتونس وبدرجة أقل في الأردن والمغرب.
وقد أكدت الشركات التي وقع استجوابها من قِبل البنك أن 2.7% من إجمالي المداخيل السنوية تصرف تحت مسمى الرشوة المقنعة أو هدايا لمسؤولين حكوميين أو موظفين؛ لتسهيل معاملاتها على مستوى الجمارك أوالضرائب والتراخيص لتفوق بذلك نفس النسبة المسجلة في بلدان جنوب المتوسط وشرقه 0.9%، وتنظر الشركات في مصر والمغرب إلى الفساد على أنه ثاني أكبر عقبة، ووضعته شركات في الأردن وتونس في المرتبة الرابعة.
على مستوى آخر، كشفت مصادر من الجمعية التونسية للمراقبين العموميين، من خلال دراسة تم إنجازها حول انتشار الفساد الأصغر في تونس، أن التونسيين يدفعون ما قيمته 450 مليار من المليمات لتسهيل معاملاتهم، وكان رئيس الجمعية شرف الدين اليعقوبي قد اعتبر أن الفساد الصغير قد ارتقى إلى مرتبة الوباء الذي ينخر الإدارة التونسية، وأنه ظاهرة ما انفكت تتفاقم، حسب 77% من التونسيين، وتحولها إلى داء عضال.
وأكد حوالي 27% من التونسيين أنهم دفعوا رشوة وشاركوا في عملية فساد تتمثل في دفع رشاوى صغيرة تتراوح بين خمسة دنانير و50 دينارًا سنويًا، وتعد هذه النسبة كافية حسب منظمة الشفافية الدولية لدق ناقوس الخطر، وتُقدر كلفة الفساد في تونس بحسب تقرير منظمة الشفافية الدولية بنسبة 2% من الناتج الداخلي الخام، أي ما يعادل نقطتين من نسبة النمو السنوية، وتضاهي قيمة هذه الخسائر نقدًا وفق غلوبل فاينيشل إنتغريتي 1.2 مليار دولار أمريكي في السنة، أي 110 دولارات بالنسبة للشخص الواحد تضيع كل سنة في المعاملات غير المشروعة.
كيف ينظر التونسيون للرشوة؟
وبحسب استطلاع آراء نُشرت نتائجه خلال السنة الماضية من طرف ذات الجمعية، يعتبر 77% من التونسيين أن الرشوة لم تتراجع بعد الثورة وأنها في تزايد من سنة إلى أخرى، وحسب منظمة الشفافية المالية فإن نسبة الرشوة في تونس قوية ولا بد من اتخاذ موقف قوي للحد من الظاهرة.
كما يعتبر 70% من التونسيين أن الفساد الصغير ورغم انعكاساته السلبية فإنه يسهل معاملاتهم اليومية، وتحتل المعاملات مع الأمن والجمارك صدارة القطاعات المعنية بالرشوة والفساد، تليها قطاعات العدالة والصحة والجماعات المحلية، ويشمل بلديات ومعتمديات كما يشمل الإعلام، وقطاعات أخرى مثل البنوك والتأمين والرياضة.
وبحسب استطلاع الآراء، من أكبر الأسباب التي تؤدي إلى دفع الرشوة هي الإجراءات الإدارية الطويلة والمحسوبية بنسبة 92%، وتحتل تونس الكبرى صدارة ترتيب الجهات التي تمارس فيها الرشوة بنسبة 60% نظرًا إلى أنها المكان الذي ترتكز فيها الإدارات الكبرى ومراكز الخدمات.
وتشير الدراسة إلى أن الرجال هم أكثر من يدفع الرشوة بنسبة 64%، مقابل 36% من السيدات، ويمثل 70% من دافعي الرشوة الفئة الأقل من 45 سنة، وهم ممن دخلهم أقل من 400 دينار، ورغم نظرة التونسي إلى هذه الظاهرة كشكل من الانحطاط الأخلاقي وخرق لمبادئ الدين؛ فإنه يرى أن الرشوة تسهل المعاملات اليومية بنسبة 70% من المستجوبين، والنفاذ إلى الخدمات الإدارية حتى الأكثر بساطة منها والأقل كلفة مثل الحصول على مضمون ولادة أو الخدمات البلدية، ويبدو أنه لا يوجد أي قطاع بمنأى عن الرشوة والفساد، ويكثر الفساد بحسب التونسيين في قطاعات الأمن، الديوانة، العدل، الخدمات الصحية، والجماعات المحلية.
ورغم وجود تشريعات جذرية تجاه ظاهرة الرشوة، تلوح الحاجة إلى هندسة مجتمعية تقطع مع التطبيع الحاصل مع الرشوة كنظام حياتي عادي، فالعمل على بث مثل هذه القيم في النشء القادم من خلال المناهج التعليمية على الأقل يبدو أجدى من مئات القوانين التي لا تُطبق، والتي إذا أُريد تطبيقها قد تكون هي نفسها متورطة في هذه المنظومة.
الرشوة في أرقام
ـ حوالي 77% من التونسيين يعتبرون أن ظاهرة الرشوة في تفاقم.
ـ 37% من التونسيين فقط يرفضون تقديم الرشوة.
ـ 60% من الرشاوى تقدم في تونس الكبرى.
ـ 64% ممن يدفعون الرشوة هم من الرجال.
ـ 43% من التونسيين يعتبرون أن الرشوة تسهل الأمور، فيما يعتبر 39% منهم أنها عادة.
ـ الأمن والديوانة هما على رأس القطاعات المتهمة من المواطنين بالرشوة، يليهما العدالة والصحة والجماعات المحلية من بلدية ومعتمدية.
ـ 41% من المرتشين أجرهم دون 400 دينار و38% بين 401 و800 دينار.
ـ 450 مليار دفعها التونسيون كرشاوى في 2013، وهي تقريبًا المعدل السنوي.
ـ 27% من التونسيين دفعوا رشوة صغيرة.