ترجمة وتحرير نون بوست
كان الحماس يطفق بين تجمع الصحفيين داخل البرلمان البريطاني قبل بضعة أيام، إبان استعداد زعيم المعارضة الجديد جيريمي كوربين لمواجهة رئيس الوزراء ديفيد كاميرون في أول مواجهة رسمية لهما تحت قبة مجلس العموم، ولكن اتضح فيما بعد بأن اللقاء جرى بشكل اعتيادي، حيث ادعى كلا الجانبين النصر، وغادر كتاب وستمنستر وهم يشعرون بالفراغ واليأس، ولكن قصة أفضل كانت تحدث خارج قبة مجلس العموم، مع قيام الناشطين الذين يرتدون ثياب معتقلي غوانتانامو البرتقالية ويقيدون أنفسهم بالسلاسل، بتسليط الضوء على المحنة المستمرة للندني الأخير الذي يقبع في معتقل غوانتانامو، وهي القصة التي لم يعد يُنظر إليها على أنها تستحق النشر، فهذا الاحتجاج الأسبوعي أصبح يُنظر إليه وكأنه عادة من عادات اجتماعات مجلس العموم التي لا تستحق النشر والتركيز.
ومع ذلك، تقبع خلف هذه الاحتجاجات قصة مذهلة ليتم سردها حول الجواسيس والكذب والمكائد السياسية التي تدين بعض أكثر الشخصيات نفوذًا في العالم؛ فنحن نعرف بأن السجين البريطاني، والأب لأربعة أطفال، تم إقرار إطلاق سراحه من قِبل رئيسي جمهورية أمريكيين متعاقبين، وثلاثة رؤساء وزراء بريطانيين، وبالتالي يبقى السؤال الكبير: لماذا لا يزال شاكر عامر يقبع في غياهب سجن غوانتانامو الأمريكي؟
في وقت سابق من هذا الأسبوع أكد لنا البيت الأبيض بأن قضية عامر تعد أولوية بالنسبة للرئيس الأمريكي باراك أوباما، وهذا الأمر قد يكون صحيحًا، ولكن مع ذلك لا أحد ابتداءً من واشنطن ووصولًا إلى الوايت هول يمكن أن يفسر لنا لماذا لا يزال عامر رهن الاعتقال؛ فبعد حوالي 14 عامًا، لا يزال هذا الرجل معتقلًا دون محاكمة ودون أي تهم موجهة ضده، علمًا أنه من حيث إساءة تطبيق أحكام العدالة، يجب أن تصنف قضية شاكر عامر كأخطر قضية تنتهك أبسط قواعد العدالة.
الرئيس الأمريكي أوباما، الذي يضطلع بمنصب القائد العام للجيش الأمريكي أيضًا، والذي يمكن وصفه بأنه أقوى رجل في العالم، يرغب بالإفراج عن عامر، وكذلك كان يريد سلفه جورج دبليو بوش.
لكن، وكما اكتشفت هذا الأسبوع خلال محاولتي لاستجلاء إجابة مباشرة من قِبل الولايات المتحدة حول المحنة المستمرة لشاكر عامر، تبين لي بأن حل هذه المعضلة هو أمر معقد وصعب على نحو غير معهود؛ فالإدارة الأمريكية الحالية جنبًا إلى جنب مع الإدارات الأمريكية السابقة، كانت صريحة وشفافة على نحو لا يصدق حول أساليب التعذيب، والأساليب التي يستخدمها عناصر الجيش والمخابرات في استجواب المعتقلين، كما صرحت بدون مواربة عن الدور الذي تلعبه أمريكا في عمليات الخطف والترحيل السري والتعسف في استعمال الحق التي استعملتها في خضم الحرب ضد الإرهاب، ولكنها توارب وتتستر على حالة شاكر عامر على وجه الخصوص.
وفي الوقت الذي تستمر فيه الحكومة البريطانية برفض الاعتراف بدورها في تجاوز القانون الدولي وانتهاك حقوق الإنسان، رغم أنها أنفقت الملايين لشراء الصمت وتعويض الضحايا بشرط إسقاط الدعاوى القضائية، فتحت الحكومة الأمريكية ملفاتها، وأفرجت عن الوثائق السرية بالتفصيل، موضحة سلوكها الوحشي، ولكن مع ذلك، وعندما يتعلق الأمر بقضية المواطن البريطاني، السعودي المولد، شاكر عامر، يبدو أن هناك إحجام عام عن الاعتراف بأي شيء؛ فشخص ما أو حتى بعض الإدارات في واشنطن، تبذل قصارى جهدها لمنع إطلاق سراحه، ولكن محاولة العثور على الجاني في هذا النطاق هو أشبه بمحاولة احتجاز الظلال، وهذه القضية استقطبت انتباه السياسيين البارزين في البرلمان البريطاني من مختلف الأحزاب، وبشكل خاص زعيم حزب العمل الجديد جيريمي كوربين، الذي شن حملة بلا هوادة لأكثر من عقد من الزمان لإطلاق سراح عامر.
في مارس كان هناك قرار تم تمريره بالإجماع في مجلس العموم حول ضرورة إطلاق سراح شاكر عامر، وكان كوربين أحد أهم المناصرين لهذا القرار، “لقد صدر القرار بتبرئته وإطلاق سراحه قبل أن يتسلم الرئيس أوباما مقاليد الحكم” قال كوربين، وتابع “تنهار قوة الرئاسة الأميركية عندما ندرك بأن الرئيس يدخل بحملته الانتخابية معولًا جزئيًا على وعود بإغلاق معتقل غوانتانامو، كما وجه بالتحديد أمرًا بالإفراج عن الأشخاص الذين لم توجه لهم التهم، ولكنهم مع ذلك لا يزالون يقبعون في السجون”.
كما ذهب كوربين للقول بأنه وآخرين من أعضاء البرلمان عقدوا عدة اجتماعات مع وزارة الخارجية على مر السنوات، ومع ذلك يقول بأنه “في حيرة من أمره لفهم السبب الذي يقف خلف منع إطلاق شاكر عامر”، ومن ثم طرح كوربين سؤالًا يود الكثير منا الحصول على إجابة له، ولكن إجابته ما زالت معلقة في الهواء ودون حل، “هل عامر محتجز لأنه يعرف أكثر من اللازم، أم لأنه شهد الكثير من حملات الإضراب عن الطعام، والتعذيب والوحشية التي تمارس ضمن معتقل غوانتانامو؟”.
ذات هذا السؤال طرحته للمكتب الصحفي للبنتاغون الأسبوع الماضي، حيث أوضحت بأنه باعتبار أن الرئيس الأمريكي هو أيضًا القائد العام للجيش الأمريكي، فإن أوامره يجب أن تتم إطاعتها، لذا فإن عدم إطلاق سراح شاكر عامر يمكن اعتباره عصيان من قِبل الرتب الأدنى تجاه الأوامر الصادرة من الرتب الأعلى، ولكن للأسف، كانت الإجابة التي حصلت عليها تفتقر للوضوح الذي كنت أسعى إليه، حيث جاءت الإجابة لتقول “إلى أقصى حد ممكن، وبما يتفق مع مصالح أمننا القومي، سيتم ترحيل المعتقلين إلى بلادهم، أو توطينهم، أو مقاضاتهم في المحاكم الفيدرالية أو أمام اللجان العسكرية، ووزارة الدفاع الأمريكية ستعمل بسرعة على تنفيذ جميع عمليات نقل المعتقلين المحتملة، بمجرد إيجاد بلدان مضيفة مناسبة، والوصول إلى نتيجة ناجعة حول الضمانات الأمنية المناسبة”.
كما استفسرت فيما إذا كان يوجد أي شخص يعمل بشكل مباشر على عصيان أوامر القائد العام، وجاءت الإجابة لتقول “النقل لا يتم إلا بعد اتخاذ وزير الدفاع، بالتنسيق مع الوكالات، قرارًا بأن النقل يصب في مصلحة الأمن القومي للولايات المتحدة، وأن التهديد الذي يشكله المعتقلون للولايات المتحدة أو أشخاص الولايات المتحدة أو مصالحها، سيكون مخففًا إلى أبعد الحدود”.
وعندما استفسرت فيما إذا كانت الاستخبارات البريطانية قد طلبت من الولايات المتحدة عدم إطلاق سراح شاكر عامر، قيل لي بأنه ليس هناك أي تعليق حول المسائل الاستخباراتية.
وبعدها عمدت للاتصال بالبيت الأبيض مرة أخرى، وبعد عدة أيام من الانتظار، أكد لي مسؤول رفيع المستوى في الإدارة بأن “الإدارة الأمريكية تضع قضية شاكر عامر في قمة أولوياتها”، ولكنني لم أحصل على أي إجابات للاستفسارات حول سبب تأخير الإجراءات، والمراوغة والتعتيم الذي يعم القضية، حيث جاء في الرد ” فريق الأمن القومي التابع للرئيس الأمريكي منخرط بأكمله في محاولة إغلاق معتقل جوانتانامو، ونحن نستمر في وضع اللمسات الأخيرة على خطة لعرضها في نهاية المطاف على الكونغرس، والحقيقة هي أننا في الوقت الذي نلتزم فيه بنقل المعتقلين المؤهلين للنقل، إلا أن التزامنا هذا محكوم بظروف أخرى، كتخفيف أي خطر أمني قد يواجه الولايات المتحدة، وضمان المعاملة الإنسانية للمحتجزين، وجهودنا لملاقاة مثل هذه الظروف، والتي يمكن أن تختلف باختلاف المعتقلين والبلد الذي سيستقبلهم، هي دقيقة ومدروسة، ووضع اللمسات الأخيرة لهذه الترتيبات يستغرق وقتًا ليس بقصير”.
في وقت سابق من هذا العام سافر جيريمي كوربين مع وفد برلماني يضم النواب أندرو ميتشل، آندي سلوتر، وديفيد ديفيس إلى واشنطن، ولكنهم عادوا إلى بريطانيا دون أي تفسير حول سبب استمرار اعتقال شاكر عامر.
عامر يعاني اليوم في معتقله من مجموعة من الأمراض النفسية والجسدية المدمرة نتيجة لاحتجازه دون أي سند قانوني لمدة تجاوزت الـ13 عامًا، وليس من المستغرب، أن تشمل هذه الأمراض اضطراب ما بعد الصدمة، الإجهاد، الاكتئاب، والرهاب، ووفقًا للبروفيسور رمزي قاسم، فإن ممارسات التقييد والتعذيب وسوء المعاملة، تركت المعتقل اللندني بحالة صداع مدمر وحالة من الربو غير المعالج، كما يقول أستاذ القانون، الذي يمثل عامر في معركته مع السلطات الأمريكية، بأن حالته الواهية وتدهور صحته، تعني بأنه إطلاق سراحه ولم شمله مع زوجته وأولاده في لندن، أصبح اليوم أمرًا أشد إلحاحًا من أي وقت مضى.
وفي الوقت عينه، وقّع أكثر من 40 عضوًا من البرلمان عريضة تدعو الإدارة الأمريكية لإطلاق سراح شاكر عامر من سجنه في معتقل غوانتانامو، بعد أن تم اعتقاله حتى الآن لمدة 13 سنة بدون أي تهمة، كما أشارت العريضة إلى صدور القرار بنقل المعتقل مرتين؛ مرة في عهد الرئيس بوش في عام 2007، وأخرى في عهد الرئيس أوباما في عام 2009؛ مما يعزز من صحة الدعوة التي وجهها رئيس الوزراء البريطاني للإدارة الأمريكية بغية إطلاق سراح عامر وإعادته إلى المملكة المتحدة، وذكرت العريضة أيضًا القرار الذي اتخذه مجلس النواب بالإجماع في 17 مارس 2015 حول ضرورة الإفراج عن شاكر عامر، وأكدت على أن هزيمة الإرهاب لن تتحقق إلا من خلال التمسك بمبدأ سيادة القانون، الذي يوجب حماية حقوق السيد شاكر عامر.
بعض المناصرين لقضية عامر، يخشون من أن يصبح “سجينًا إلى الأبد”، لأنه يعرف الكثير عن خبايا غوانتانامو، وشهد انتهاكات كثيرة ومريرة لحقوق الإنسان في ذاك المعتقل على مر السنين، ووجهة النظر هذه، رغم أنها غير اعتيادية، يتقاسمها مجموعة متنوعة ومنتقاة من المؤيدين للإفراج عن عامر، بما في ذلك النائب المحافظ ديفيد ديفيز والمعتقل السابق في غوانتانامو معظم بيج؛ فخلال مناقشة في مارس في مجلس العموم، قال ديفيز “لقد كان شاكر ممثلًا للأسرى في النزاعات في غوانتانامو، وهذا قد يجعل منه هدفًا محتملًا، وبالإضافة إلى تعرضه للتعذيب بشكل شخصي، يُقال بأنه شهد على تعذيب أناس آخرين، وهذا قد يكون السبب الكامن خلف الإحجام عن الإفراج عنه، لأن ذلك من شأنه أن يحرجهم، وبصراحة، سوف يخرج كل ما كان يحصل هناك إلى العلن في مرحلة ما”.
من جهته يؤكد بيج بأن المعتقل يتمتع بشخصية كاريزمية، واصفًا إياه بأنه “أحد المتحدثين الأقوياء الذين يمكنهم التأثير على الناس إلى حد كبير، وربما الولايات المتحدة متخوفة مما قد يقوله عامر بعد إطلاق سراحه، أكثر من تخوفها من متابعة ظلمها في قضيته”.
القائد السابق لمعتقل غوانتانامو، الكولونيل مايك بومجارنر، سعى للحصول على مساعدة عامر للتفاوض على إنهاء الإضراب عن الطعام الذي حصل في عام 2005، ووصف بومجارنر النفوذ الكاريزمي لعامر أمام وسائل الإعلام بقوله “لقد كان يتم معاملته هناك وكأنه نجم غنائي عالمي، وفي بعض الأماكن التي ذهبت إليها لم يسبق لي وأن رأيت رجالًا بالغين وملتحين وأشداء يبكون على مرأى من رجل آخر، إلا في حالة عامر، لقد كان الأمر وكأني أرافق بون جوفي في السجن أو شيئًا من هذا القبيل”.
وفي نفس العام، عام 2005، توفي ثلاثة سجناء مضربين عن الطعام، وبينما زعم مسؤولون أمريكيون بأن وفاتهم هي “انتحار” وشكل من أشكال “الحرب غير المتكافئة”، يقول آخرون، بما في ذلك جنود أمريكيون سابقون كانوا حاضرين حينها، بأن هناك شيئًا أكثر شرًا حدث في تلك الواقعة، وإن عامر، الذي يلقبه بعض الحراس بـ”البروفيسور”، كان شاهدًا على ذلك، علمًا أن الوثائق المتعلقة بهذا الحادث سرية للغاية، وحتى الآن السلطات الأمريكية غير مستعدة للإفراج عنها.
كشخصية الدكتور بن ماكينا في فيلم هيتشكوك عام 1956، يبدو أنه من المرجح بأن شاكر عامر هو “الرجل الذي يعرف أكثر من اللازم”، وفي حال كنا متأكدين بأن قصته كتبت بيراع كاتب سيناريو هوليوودي، فلا بد لنا من القول بأن نهاية قصة عامر السعيدة، التي يطالب النشطاء بتحقيقها، لما تكتب بعد.
المصدر: ميدل إيست مونيتور