يُنتج العالم كل عام أكثر مما أنتجناه في مئات السنين؛ فلماذا يزداد الفقراء فقرًا؟
يبدو السؤال السابق شديد البساطة، إلا أن الإجابة أثبتت أنها شديدة التعقيد أيضًا، فالحديث عن العدالة في توزيع الثروة على الناس يستدعي بدوره الحديث عن إنتاج الثروة، وعندما ننظر إلى الثروة، نكتشف أن المنتج الرئيسي للثروة حول العالم هم من يمكن دمجهم تحت لفظة الفقراء السابقة.
وعلى الجانب الآخر من الفقراء نرى الأغنياء، وهي لفظة وإن كانت أقل شمولًا من الفقراء، إلا أنها تشمل تحتها تنوعًا كبيرًا من الأفراد والهيئات والدول.
في سبيل فهم أوضح للإشكالية السابقة، نبدأ بمحاولة سريعة لتعريف أطرافها الثلاثة؛ الثروة، الأغنياء، الفقراء، وبعد ذلك نحاول أن نضع ما عرفناه سابقًا مع بعضه البعض في سياق يمكن أن يعطي معنى للحديث، وأن يجعل الإجابة على السؤال الذي بدأنا به أكثر إمكانية.
دائمًا ما نذكر في سياق الحديث صفة لفترة أو إنسان ما بأنها “مما قبل التاريخ”، وإذا تجاوزنا الدروج اللغوي للصفة يمكن لنا أن نبدأ التفكير في أصلها الحقيقي.
ما يتعارف عليه الناس اليوم بالتاريخ هو المرحلة التي بدأ الإنسان فيها أن يروي قصة حياته في العالم، أي هي اللحظة التي أدرك الإنسان فيها وجوده وبدأ الحديث عن نفسه وما حدث له، تثبت الدراسات الأثرية والجيولوجية أن وجود الإنسان قد سبق على هذه المرحلة بآلاف السنين، إذ يبدأ ما نعرفه الآن بالتاريخ مع ظهور المدن الدول في مناطق ما بين النهرين، والهلال الخصيب، ووادي النيل، ولا شك أن ما تركه البشر من رسوم على جدران الكهوف حول العالم في فترات تسبق هذا بكثير يدل على سبق وجود البشر على التاريخ.
كل الحديث السابق عن التاريخ يأتي في هذا المقال لسبب، وهذا السبب هو صلة لا يمكن إغفالها بين تدوين التاريخ وما يعرف بالثروة، بدأ التاريخ في مدن/ دول كان أهم ما يميزها عما قبلها هو الاعتماد على الزراعة الثابتة، فعلى العكس من مرحلة طويلة اعتمد فيها البشر على الصيد وجمع الثمار لكسب عيشهم، سمح تطور الزراعة المعتمدة على ري الأنهار بأن ينتج الإنسان أكثر مما يحتاج، وإذ بدأ الفائض عن الحاجة في التكون؛ بدأت إمكانية وجود أفراد لا يزرعون لحصد قوتهم، وإنما يمكن أن يقوموا بخدمات أخرى مقابل الحصول على رزقهم.
من بين هذه الوظائف يمكن الإشارة إلى الكتاب، وهي صفة أوسع مما نصطلح عليه بالكتاب من الصحفيين والأدباء، إذ شملت وظائف الكاتب بجانب كتابة تاريخ المدينة وقصتها ما نصطلح عليه اليوم بالوظائف البيروقراطية، كتدوين كميات وتواريخ الحصاد، أو توزيع الحصاد على الناس بحصص معينة.
ومن المفروغ منه مثل هذه الوظيفة كانت بلا شك وظيفة مرموقة وشديدة الحساسية، أولًا لندرة من يستطيعون القيام بها، وثانيًا لقربها الشديد من مراكز السلطة المتحكمة في توزيع الأقوات.
ولكن في نهاية الأمر، كانت الثروة في ذلك الوقت تتمثل في المحصول نفسه بالإضافة إلى كل ما يسمح بإنتاج المزيد منه كالأرض والمياه.
لا يختلف هذا الحال كثيرًا عما نعيشه الآن سوى في شكل المنتجات التي نعرفها بالثروة، بدأ التغير بظهور النقود كاختراع جديد بعد أن كانت المقايضة المباشرة هي القاعدة، أصبحت إمكانية اختزان الثروة أكثر كفاءة بكثر من ذي قبل، إذ لا يمكن للنقود أن تتلف عند تخزينها لفترات طويلة كالمحاصيل والمواشي، حققت النقود إمكانية الاكتناز أكثر من الحاجة، في مقابل حالة كان يجب أن يستهلك فيها كل ما ينتجه الناس كي لا يتلف.
تبع هذا التطور واحدًا آخر على قدر مشابه من الأهمية، وهو تحول البشرية التدريجي من الاعتماد على الزراعة إلى الاعتماد على المنتجات المصنوعة، بدأ هذا التطور من تحويل الحبوب إلى خبز قابل للأكل، ومر بالثورة الصناعية في القرن التاسع عشر ليبدأ البشر في الاعتماد على كافة أنواع المنتجات المصنوعة كالمركبات والآلات؛ ولا يبدو أنه ينتهي بالاعتماد على أكثر الأجهزة الإلكترونية تعقيدًا كالهواتف الذكية والحواسيب في زمننا هذا.
بالتدريج بدأت الحاجات البشرية في التطور من كونها مرتبطة بقدرة الإنسان على استكمال حياته بلا مخاطر كالموت جوعًا أو بردًا، وانتقلت لتصبح أكثر اهتمامًا بتحسين جودة حياة الإنسان وجعلها أكثر سهولة ورغدًا.
وبالتوازي مع هذا استمرت وظيفة الكاتب العتيقة في التصاقها بالإنتاج الإنساني من دون المشاركة فيه بشكل مباشر؛ كما استمرت في التطور لتأخذ العديد من الصور الأكثر تعقيدًا كوظائف البنوك في يومنا هذا.
بهذا الشكل يمكن تعريف الثروة بكونها الفائض عن الحاجة الممكن استخدامه في غير سد الجوع وغيره من الحاجات الأساسية، وتعريف الأغنياء بمن هم يملكون كميات أكبر وأكبر من الثروة.
بالتدريج مع بزوغ نجم ما نعرفه اليوم بالرأسمالية، بدأت الثروة في التحول إلى ما يطلق عليه رأس المال، وهو الثروة التي تستخدم في جلب المزيد من الثروة في دائرة مفرغة، أصبح من الممكن استثمار الثروة المدخرة في مجالات من الصناعة وغيرها لتدر المزيد من الأرباح، ومع زيادة الأرباح يصبح من الممكن تلبية المزيد من الرغبات (لا الحاجات) عبر شراء المنتجات وتسهيل الحياة.
تراكمت الثروة تدريجيًا مع حركة الزمن في أيدي قلة من الناس، وبدأوا في استخدامها كرأس مال يجلب المزيد، إلا أن المحقق هو أن صناعة المزيد من المنتجات يتطلب العمل كالزراعة والصناعة، وإن كان أصحاب الأموال لا يعملون في المصانع لمشاركتهم برؤوس الأموال، كما لا يشارك الكتاب ومن يشبههم بالإنتاج نفسه بل يعملون على جانبه، فمن الذي يقوم بالعمل في هذه الحالة؟
من يقوم بالعمل بصورته البدنية المرهقة في هذه الحالة هم الأقل حظًا، يمكن إدراج أغلبية من نعرفهم بالفقراء تحت هذه الفئة، فإذ يعمل العامل يوميًا بجسده في صناعة المنتجات أو زراعة الأرض، هناك صاحب أرض أو مصنع ينتظر نصيبه من الأرباح (وهو النصيب الأكبر)، وهناك محاسب أو موظف ببنك يراقب على سير العمل ويضمن استمراره؛ وهؤلاء لقلة عددهم وقربهم لصاحب العمل يحصلون أيضًا على نصيب أكبر من العامل بكثير.
وإن كنا قد حاولنا تعريف الفقراء والأغنياء والثروة فيما سبق، فنحن لم نقدم إجابة عن السؤال الحقيقي، إن كان العالم ينتج المزيد والمزيد كل يوم، فلماذا يزداد الفقراء فقرًا، ويزداد عددهم يومًا بعد يوم؟
يمكن الزعم هنا أن طبيعة نظام الإنتاج والاقتصاد في صورتها الحالية توجب خلق المزيد والمزيد من الفقراء، لأن زيادة الثروة تتطلب زيادة العمل، وزيادة العمل تتطلب المزيد والمزيد من الفقراء ممن يعملون في المصانع والمزارع.
ومع زيادة العمل والثروة التي تأخذ رأس المال، تزداد رغبات من يملكون الكثير من الأموال في حياة أكثر رغدًا، مما ينتج المزيد من الحاجات غير الضرورية لسد الجوع وحفظ الحياة، وتزداد رغبة من هم دون الأغنياء أن يصبحوا مثلهم أملًا في هذه الحياة اللطيفة واليسيرة، ليستمر نظام الإنتاج في ترسيخ نفسه في الواقع وعقول الناس.
وبالتوازي مع هذا، تفرض الرغبة في المزيد من الربح استنزاف كل قدر ممكن من التكاليف، وبهذا الشكل تصبح قيمة ما يضعه الفقراء في العمل أقل وأقل، ويصبح الخلاص الفردي للشخص وانتقاله إلى طبقة أعلى تستطيع الاستهلاك بشكل أكبر هو الحل الوحيد والمبتغى الذي نعرفه بالنجاح، إذ يتطلب صعود الشخص إلى القمة سلمًا من معاناة الآخرين واستغلالهم قدر الإمكان، ويصبح جوع الملايين في أفريقيا وشرق أسيا ضرورة لاستمرار معدلات النمو الصحية لمؤشرات الاقتصاد في بورصات وال ستريت ولندن وفرانكفورت.