من أغرب سلوكيات الغرور لدى البريطانيين أنهم يحاضرون بقية العالم وعظًا عن الديمقراطية، تراهم يهزون رؤوسهم اعتراضًا على الأقليات الحاكمة في روسيا ما بعد العهد السوفياتي، بينما تجدهم يبيضون لهم أموالهم، وكم وعظوا بشأن غرسات الديمقراطية الخضراء وحول المدة التي يستغرقها استنبات المرج الإنجليزي.
أما تجاه الجنرالات المصريين الفاسدين والملطخة أياديهم بالدماء، فلا يملك وزير الدفاع البريطاني مايكل فالون سوى الإطراء والمديح، فلقد أشاد بعبد الفتاح السيسي لما له من “رؤية لمجتمع أكثر رخاءً وأكثر ديمقراطية”، وقال إنه يرى في مؤسسات مصر الإسلامية العليا مثل الأزهر ودار الإفتاء شركاء لبريطانيا في إستراتيجية مكافحة التطرف.
لقد جاء العشرات من المفاوضين من الشرق الأوسط إلى شمال إيرلاندا ليروا آلية فض النزاع وهي تمارس واقعًا في ستورمونت (مقر الحكومة المحلية) في بلفاست، والمفارقة العجيبة هنا أن هذه التجربة من المشاركة في السلطة توشك أن تنهار، وأذكر في هذا السياق التصريح الذي نسب إلى جنرال على رأس عمله في الجيش البريطاني، والذي أخبر صحيفة الصنداي تايمز – التي لم تسمه – بأنه إذا ما وصل جيريمي كوربين، زعيم حزب العمال المنتخب شعبيًا إلى السلطة – غالبًا من خلال انتخابات حرة ونزيهة – فإن الجيش سينفذ انقلابًا عسكريًا.
وهذا نص ما نسب إليه من تصريح:
“ستكون هناك استقالات جماعية على نطاق واسع وعلى كافة المستويات، وسوف تواجهون ما يمكن أن يوصف في الواقع بأنه تمرد، فلن تسمح هيئة الأركان لأي رئيس وزراء بأن يهدد أمن هذه البلاد، وأعتقد أن الناس سيلجأون إلى كافة الوسائل المتاحة لهم، مشروعة وغير مشروعة، لمنع ذلك، لا يحق لك أن تسلم أمن البلاد إلى شخص مارق”.
تعرض هذا الجنرال المجهول للتأنيب من قِبل وزارة الدفاع، ولكنه كان تأديبًا لطيفًا وخفيفًا، وصرحت وزارة الدفاع لصحيفة الإندبندنت بما يلي: “من الإنصاف القول بأن مثل هذه التعبيرات لا تساعد، لا أحد يعتقد بأنها فكرة جيدة أن يقوم ضابط كبير على رأس عمله بتقويض حكومة محتملة في المستقبل”.
إلا أن التحقيق في الأمر جرى استبعاده، وكانت تلك نهاية الموضوع، لم يتمخض عن ذلك غضب شعبي ولا دعوات للتحقيق فيمن عساه يكون هذا الجنرال الذي على رأس عمله، إنما جرى التعامل مع الأمر على أن ما بدر منه كان تعليقًا كيسًا، وبالفعل، فقد نقلت صحيفة الإنبندنت عن مصدر سياسي القول إن الجنرال كان يعبر عن قلق آخذ بالانتشار بين كبار المسؤولين، مضيفًا: “وما صرح به الجنرال لا يعكس مستوى القلق الذي ينتاب القوات المسلحة، وهو قلق بالغ ومفزع جدًا”.
بالطبع، كان تصريح الجنرال أنغامًا تطرب لها آذان الحكومة التي ما فتئت تثير القضية ذاتها، وتؤكد على الفكرة عينها منذ أكثر من أسبوع، بل لقد سارع فالون وكاميرون إلى طرق الطبول، محذرين من أن حزب العمال بقيادة كوربين سيشكل “خطرًا حقيقيَا على أمن وطننا، وعلى أمننا الاقتصادي وعلى أمن عائلتك.”
لقد قيل لنا إن كوربين سيدعى إلى اجتماعات مجلس الأمن القومي في مقر رئيس الوزراء في شارع داونينغ ستريت، وسوف يتلقى تقاريرًا أمنية بوصفه عضوًا في مجلس برايفي، ولكن كانت هناك تطمينات حتى هنا بأن كوربين لن يعطى أي “معلومات استخباراتية حية” أو ما يمكن وصفه بالمعلومات التي تهم.
مثل هذا الكلام ليس غريبًا عن البلدان التي هي في صراع مع الديمقراطية، ومن هذه البلدان تركيا ومصر، حيث توجد طغمة عسكرية قامت بانتظام بالانقلاب على الحكم المدني في الماضي.
ينبغي الانتباه إلى أن الجنرال الذي تحدث مع صحيفة الصنداي تايمز لم يكن يفعل أكثر مما فعله رئيس المخابرات ونائب الرئيس المصري عمر سليمان حينما حذر في عام 2012 من أن انقلابًا سيقع ضد أي حكومة ديمقراطية منتخبة.
لقد كان محقًا فعلاً، عندما وقع الانقلاب بعد ذلك بعام في 2013 دعمته بريطانيا، وهي الآن تدعمه بحماسة تفوق كل حماسة سابقة، وبينما كانت مسرحية كوربين الأخلاقية تعرض على المسرح أمام عامة الشعب، شهدت خشبة المسرح دخولاً ثم خروجًا معبرين لوزارة الدفاع.
كان الجنرال محمود حجازي، رئيس هيئة الأركان المصري، في زيارة لبريطانيا استغرقت أربعة أيام، شعرت وزارة الدفاع البريطانية بثقة كبيرة إزاء هذه الزيارة لدرجة أنها أصدرت بيانًا للإعلام حوله واصفة زيارته بأنها “خطوة جديدة في التعاون العسكري المشترك بين بريطانيا ومصر”، وقد التقى حجازي خلال زيارته تلك بوزير الدفاع فالون وبالجنرال السير نكولاس هوتون، رئيس هيئة أركان القوات المسلحة للمملكة المتحدة، نفس أركان الدفاع الذين أعربوا عن سخطهم تجاه كوربين.
ولكي يتسنى لوزارة الدفاع الترحيب بضيفها القادم من مصر وإحسان وفادته وتكريمه، بادرت وزارة الخارجية إلى منح حجازي ما يسمى “وضع مهمة خاصة”، والغرض من هذه المنحة هو تحصين حجازي ضد أي مذكرة توقيف قد تصدر بحقه، سواء كانت عن طريق مواطنين عاديين أو عن طريق الشرطة، فلو أن حجازي أوقف واعتقل لتعرض للمساءلة حول ما يشك من تورطه في ارتكاب جرائم ضد الإنسانية، بموجب التفويض الدولي الذي تلتزم بتنفيذه المحاكم البريطانية.
يعدّ حجازي واحدًا من 25 عسكريًا ومسؤولاً مصريًا من ذوي المسؤوليات القيادية الذين يتحملون المسؤولية عن المجازر التي وقعت في مصر بعد سقوط مرسي، ورغم أن مذبحة رابعة داخل القاهرة، التي ارتكبت في أغسطس 2013، كانت أبشع هذه المذابح، إلا أنها لم تكن الوحيدة، بل وقع الكثير غيرها، لقد قتل ما يزيد عن ثلاثة آلاف مصري وغيب في السجون ما يزيد عن أربعين ألفًا في أجواء تواترت فيها الأنباء عن تعرضهم لألوان من التعذيب والامتهان.
عادة ما تمنح الحصانة بعد تفكير قانوني ملي، وهي في العادة تقتصر على مسؤولي الحكومات ممن هم على رأس عملهم، أو ممن كانوا في يوم من الأيام ثم تقاعدوا، ومن بين هؤلاء تقتصر على رؤساء الدول وكبار الوزراء.
إن منح الحصانة لعسكري رغم وجود كم هائل من الأدلة ضده بالضلوع في ارتكاب بعض أبشع الجرائم، لهو من الأمور التي ينبغي ألا يسكت عنها الحقوقيون، بل ينبغي أن يتحدوها أمام المحاكم، وبالفعل تم رفع قضية بهذا الشأن أمام المحكمة العليا.
وحجازي ليس مجرد جندي عاثر الحظ يتلقى الأوامر فلا يجد ملاذًا من تنفيذها، بل هو رجل يرتبط بالسيسي من خلال المصاهرة (حيث إن ابنة حجازي متزوجة من ابن السيسي)، وتراه يتبعه حيث ذهب، ويقتفي أثره كما لو كان ظلاً له، وهو الذي حل محله رئيسًا للمخابرات قبل أن يعين رئيسًا للأركان، والآن، يرغب السيسي في رؤية حجازي يحل محل وزير الدفاع الحالي الجنرال صدقي صبحي، ولكن هذا الأخير يقاوم محاولات استبداله، مستخدمًا في ذلك الحصانة الدستورية التي كان السيسي في يوم من الأيام قد ابتدعها لنفسه حينما كان يشغل منصب وزير الدفاع.
عسكر مصر ليسوا غرباء عن السياسة، فلقد حكمها العساكر منذ بداية تاريخها المعاصر، وبريطانيا ليست غريبة عن إغداق الاهتمام على الديكتاتوريين وتزويدهم بالحراسة الشخصية.
لقد زار حجازي معسكر التدريب العسكري في لونغمور، حيث يتلقى حاليًا خمسة عشر ضابطًا مصريًا تدريبًا على الحماية الحثيثة على أيدي خبراء في الجيش البريطاني، بالطبع، تأتي مباشرة بعد العلاقات العسكرية والصلات التجارية؛ فبريطانيا اليوم هي أكبر مستثمر أجنبي في مصر، وكما ذكر فالون مضيفيه المصريين عندما شارك في الاحتفال بافتتاح المقاطع التي جرى توسيعها من قناة السويس، كان استثمار بريتيش بيتروليوم البالغ 12 مليار دولار هذا العام هو الاستثمار الأضخم في تاريخ مصر.
ناشد كوربين الساسة البريطانيين بأن يحرصوا على أن تقف بريطانيا إلى الجانب الصواب من التاريخ حينما يتعلق الأمر بالترويج للسلام والعدل والعالمية، وهو إذ يفعل ذلك فإنما يضع يده على الوتر بالحساس في الحالة السياسية البريطانية، وينسجم في الوقت ذاته مع المزاج العام الذي يعود إلى أبعد من العقدين الماضيين من الحرب المستمرة، طبعا ليست هذه هي الطريقة التي تعمل من خلالها الدبلوماسية حسبما يعتقد واقعيو السياسة الخارجية.
ولكن حينما يكون “عالم الواقع” في مثل هذا الوضع المأساوي والفوضوي والموبوء بالقلاقل فإن حجج الواقعيين تبدو واهنة، وسرعان ما يمنح الشعب عبر صناديق الاقتراع تفويضًا لانتهاج سياسة خارجية تقع المبادئ والأخلاق في القلب منها.
وهنا أنقل ما كتبه ريغ كيز، الذي قتل ابنه البكر طوم في الحرب على العراق، حيث يقول:
“إن الوطني الحقيقي هو الذي لا يضلل أبناء وطنه ولا يخدعهم، وهو الذي لا يمكن أن يتسبب لهم بالضرر بلا سبب وجيه، إن الوطني هو الذي يتمنى أن يرى بلده في أعلى المراتب على الساحة الدولية، وتحظى بدعم باقي أعضاء الأمم المتحدة لها، نحن نعلم من هو جيريمي كوربين، نستدل عليه من أقواله ومن أفعاله من المحزن في المقابل أننا منينا بوطني زائف في مقعد القيادة، إنه طوني بلير الذي كان سيبتسم بكل غبطة وانشراح وهي يترنم بالنشيد الوطني بكل ما أوتي من حماسة حتى يراه الناس في حالته تلك، ولكنه في الوقت ذاته كان يضلل البرلمان بشأن العراق، وكان يضلل الشعب، والأسوأ من ذلك أنه كان يضلل هؤلاء الجنود الشجعان الذين دفعوا ثمن هذا التضليل من أرواحهم”.
لا عجب إذن أن يشعر الجنرالات في بريطانيا بأن كوربين يهدد وضعهم ومستقبلهم، ولا عجب أن يرحبوا برفاقهم القادمين من مصر، ويفتحوا لهم أذرعهم ليأخذوهم في الأحضان.
المصدر: هافنغتون بوست / ترجمة: عربي 21