تقع مدينتا مكة المكرمة والمدينة المنورة في المنطقة الأوسع المعروفة بالحجاز، وهي الأراضي الممتدة بطول غرب الجزيرة العربية بين شاطئ البحر الأحمر من ناحية، وجبال الحجاز الواقعة خلفها، وقد سميت المنطقة بالحجاز، كما يقول لنا معجم لسان العرب، لأنها حجزت وفَصَلت بين اليمن ونجد، أو بين اليمن والشام.
تتسم السرديات الحديثة في وصف الجزيرة العربية بالحديث عنها ككُتلة واحدة هي Arabia، لا سيما وأنها تقع بالفعل اليوم في مُعظمها داخل المملكة العربية السعودية، بيد أن العرب عادة ما أشاروا لمناطق بعينها داخل الجزيرة العربية، كاليمن والحجاز والشام والبادية (بادية الشام أي الصحراء الواقعة في شرق سوريا وغرب العراق اليوم)، وقليلًا ما تحدثوا عن “الجزيرة العربية،” والأسباب منطقية للغاية إذا ما نظرنا للخريطة.
جغرافيًا، انفصلت منطقة “الحجاز” عن بقية الجزيرة نتيجة للجبال الحاجزة بينهما، كما أن صحراء الربع الخالي في الجنوب قد حالت دون اتصالهما إلا بالمرور عبر اليمن وعُمان جنوبًا، أو الالتفاف عبر الشام ومن ثم البصرة شمالًا، وهو ما يفسر لنا قبلة الحجاز التقليدية باتجاه البحر الأحمر والتجارة عبره مع مصر والحضارات المتوسطية شمالًا، والأفريقية والفارسية والهندية القادمة من الجنوب، وكونها أكثر انفتاحًا على العالم كمنطقة طوال تاريخها مقارنة بنجد الواقعة خلف الحجاز مباشرة.
صورة لجغرافيا الجزيرة العربية من جوجل تُظهر منطقة الحجاز الجبلية في الغرب، الربع الخالي في الجنوب، ودائرة نجد في القلببشكل عام، كان ظهور الحجاز على الساحة العالمية حتميًا، فهي بعيدة عن توسعات الروم والفُرس المباشرة ومحمية بالبحر الأحمر الضيق، على العكس من الشام الذي تعرّض كثيرًا للهجمات نتيجة وجوده على البحر المتوسط الواسع والمفتوح، كما أنها عبر البحر الأحمر أيضًا قد تمتعت بسواحل تصلها بالروم والفرس تجاريًا، ليعطيها البحر مميزات الاتصال بهما وينأى بها عن مساوئ الجيرة المباشرة لهما في نفس الوقت.
تجارة البهارات والعطور هي أشهر ما عُرِفَت به الحجاز في العصور القديمة، فعلاوة على ما جادت به للشرق والغرب، كانت طرق التجارة المارة عبر الحجاز تنقل خيرات الشرق القادمة من الصين والهند لمصر والروم والشام، والعكس صحيح أيضًا، وكان هذا الطريق الأكثر أمنًا نتيجة لعُزلة الحجاز النسبية وبُعدها عن مناطق الحروب المستمرة.
ظهور مكة في قلب الحجاز
يحفظ الكثير منا الرأي القائل بأن مكة ظهرت على الساحة العالمية قبل أن تتحول لمكان مقدس بفترة طويلة، نتيجة لموقعها المميز على مفترق طرق التجارة العالمية قديمًا، ونتيجة لقُربها من ساحل البحر الأحمر، بيد أن الحقيقة التي حيّرت الكثير من علماء الجغرافيا والتاريخ حديثًا هي أن مكة ليست مناسبة كما نتصور كموقع لمدينة تجارية كبرى، وأن الطريق الطويل من اليمن إلى سوريا يمر في أقصر الأحوال عبر موقع يقع إلى الشرق قليلًا من موقع مكة اليوم.
حين زار الرحالة الإيطالي المعروف بعلي باي العباسي (وقد سمى نفسه بهذا الاسم تخفيًا ليتمكن من الدخول لمكة في القرن التاسع عشر) وصف المدينة بكونها شديدة الجفاف حتى أنه لم يقابل نبتة واحدة فيها ولو صغيرة، وقال بأن أهلها لا يمارسون الزراعة على الإطلاق، وأن أي بذور مهما كانت لن تقبلها تربة المدينة، على العكس من المدينة المنورة والتي تمتلك بعض الآبار وتُعرَف بتمورها، وعلى العكس من الطائف أيضًا صاحبة الجو الأكثر برودة نتيجة ارتفاعها عن سطح البحر، ففي زيارته كلها لم يرى علي باي من الأخضر سوى أربعة شجرات عند بيت أبي طالب عم النبي كما قيل له.
لماذا كانت مكة إذن؟ يبدو وأن العكس هو الصحيح، فبعد أن أصبحت مكة مدينة مقدسة ببناء الكعبة أيام سيدنا إبراهيم، واكتشاف بئر زمزم فيها، وعلى الرُغم من جفافها الشديد، إلا أن قدسيتها جعلت موقعها الذي وفد إليه الآلاف مع الوقت موقعًا مناسبًا للتجارة ومن ثم الإقامة وبناء البيوت حول الكعبة والبئر، وهو ما يرد بالفعل في إحدى الروايات اليونانية قبل ميلاد المسيح، حيث يصف المؤرخ ديودورس سيقولس المدينة قائلًا أنها تحوي “معبدًا” يقدسه العرب كافة.
مع القرون الأولى ميلادية، كانت الكعبة بالفعل تحوي آلهة القبائل العربية الكبرى والتي قطنت في مكة نتيجة رمزيتها الدينية وأهميتها السياسية بالتبعية، وكانت قريش تهيمن على التجارة فيها بشكل كبير، والتي ظلت مرتكزة بالأساس للبهارات والعطور ونقلها شرقًا وغربًا (أو جنوبًا وشمالًا)، كما أن التجارة عبر الحجاز ازدهرت أيضًا نظرًا لصعود الإمبراطورية الفارسية، والتي هددت طرق التجارة البرية عبر بلاد الرافدين نتيجة حملاتها المتكررة هناك، مما جعل التجارة عبر البحر الأحمر أكثر أمنًا.
مكة بين الفرس والروم
بينما سطع نجم مكة في تلك الفترة، تظهر لنا في المصادر العربية بعض التفاصيل عن السياق السياسي والتجاري الأوسع الذي بدأت تتفاعل معه بشكل أكبر من ذي قبل، وهي نفس الفترة التي تظهر فيها الأراضي العربية والعرب في المصادر الرومانية، حيث اهتمت الإمبراطورية الرومانية آنذاك بمكة والحجاز كنتيجة لرغبتها في السيطرة على طرق التجارة.
الغساسنة هو الاسم الرئيسي الذي تعج به المصادر الرومانية والعربية آنذاك، حيث عُهِد إليهم من قِبَل الرومان، كدولة تابعة، بتأمين الشام وما وراءها حتى الحجاز، حيث يروي لنا العلامة الروماني بروكوبيوس تفاصيل رحلاته للحجاز وشواطئها على البحر الأحمر، وهو يعرف جيدًا بنو غسّان الذين امتد مُلكهم حتى العقبة اليوم، كما يعرف الكثير عن الدولة الحيميّرية في الجنوب ناحية اليمن، وإن لم يرد اسم مكة بالتحديد في رواياته.
مواقع بني غسان وبني لخم في كل من سوريا والعراق، كحليفَين لكل من الروم والفرس
على الناحية الأخرى، لم تقف الإمبراطورية الفارسية مستسلمة أمام تحرّك الرومان وحلفائهم في الشام، فاتخذت لها أيضًا حليفًا هو مملكة الحيرة في بلاد الرافدين، والتي أسسها بنو لخم، لتصبح هي رأس الحربة الفارسية في الجزيرة العربية باسطة سلطانها على القبائل العربية في غرب الجزيرة لكيلا تؤثر على سير التجارة من وإلى فارس، والتي حاولت فارس توسيعها على حساب الرومان بالوصول بأسطولها حتى سواحل اليمن في فترات متقطعة من تاريخها (وقد وصلت بالفعل مرات عدة.)
مع نزول الإسلام وظهور القوة العربية المرتكزة لمكة والمدينة، تبدلت الأحوال كما نعرف، إذ دخل العرب فارس والشام ومصر، وأعادوا رسم الخارطة الإقليمية برمتها، وهو ما أعطى مكة مركزية سياسية غير مسبوقة، مضافة للمركزية الدينية التي حظيت بها بفريضة الحج، والتي بموجبها صار لزامًا على آلاف من المسلمين الاحتشاد في تلك المدينة الجافة مرة كل عام، في تجمّع تحوّل تلقائيًا ليكون نقطة التقاء تجارية سنوية، كما أن طرق التجارة التقليدية المارة عبر مكة أصبحت تتمتع بتأمين شديد نظرًا لأهميتها في وفود الحجاج سنويًا، وهو ما أكسب الدول المتعاقبة شرعيتها بين الرعية.
من يحكم مكة والحجاز؟
استطاع المسلمون بالطبع تغيير الخارطة الدينية للمنطقة بأسرها، بيد أنهم لم يكسروا قواعد الجغرافيا، والتي عادت لتُملي نفسها من جديد خلال التاريخ الإسلامي، فالأمويون ما إن استلموا زمام الحُكم وتمددوا حتى كان حتميًا أن ينقسم ملكهم الواسع، وهو ما حدث بالفعل بظهور العباسيين في الشرق مرتكزين لبغداد وفارس، وبقاء بني أمية في المغرب العربي والأندلس، ثم ظهور قوة مستقلة جمعت بين مصر والشام والحجاز والتي لم يكن بإمكان قوة العباسيين البعيدة أن تُبسَط فيها.
على مدار حوالي ألف عام، كانت الحجاز بدءًا من الفاطميين والأيوبيين وحتى المماليك والعثمانيين، جزءًا من مُلك مصر والشام، فمن ملك مصر ملكها، وهو ما يفسر تحوّل سلطان الدولة العثمانية إلى “خليفة” يتمتع بشرعية واسعة بين المسلمين حين دخل العثمانيون مصر وفقط، وقبل أن تطأ أقدامهم أرض مكة، فقد كانت الروابط الجغرافية والتاريخية حينئذ تُملي تبعية الحجاز للجيران الأقرب، مصر الواقعة على الناحية الأخرى من البحر الأحمر، والشام القريبة والأكثر ارتباطًا بمصر.
لم تتبدل تلك السُنة سوى بظهور النُظُم الحديثة وتأسيس المملكة العربية السعودية، والتي حملت فكرة توحيد الجزيرة غير المسبوقة ربما في التاريخ، لتنجح بالفعل في بسط سلطانها في الحجاز غربًا وتحوز الشرعية الدينية، وفي الأحساء شرقًا لتستحوذ على ثرواتها وقوتها الاقتصادية، مرتكزة لنجد حيث عاصمة الدولة السعودية الأولى، الدرعية، والحالية، الرياض.
على الرُغم من النجاح الواضح لآل سعود في إدارة ذلك المُلك، إلا أن هناك هشاشة جغرافية ما تظل كامنة في النظام السعودي الذي يجمع بين الحجاز والأحساء في دولة مركزية واحدة بشكل لم يتسنى لأحد من قبل أن يقوم به، وهي هشاشة يمكن أن تظهر بسهولة مع أي أزمة تعلق بالشيعة في الشرق، أو باليمن في الغرب.