تعيش قوى الثورة السورية جدلاً كبيراً، سواء في أوساطها السياسية أو فصائلها المسلحة، حول المشاركة في مؤتمر جنيف 2، يتعلق في معظمه بالشروط التي يعقد المؤتمر على أساسها. من وجهة نظر الدولتين الكبريين، الولايات المتحدة الأميركية والاتحاد الروسي، اللتين تقفان منذ صيف العام الماضي خلف جنيف، يستهدف المؤتمر جمع أطراف الأزمة من معارضة ونظام حكم لإيجاد حل تفاوضي للأزمة السورية، بعد أن أصبح واضحاً أن حلاً عسكرياً بات غير ممكن. ولكن المعارضة السورية، ومنذ انطلقت الفكرة، أصرت على أن نهاية نظام الأسد ليست محل تفاوض، وأن التفاوض بين أطراف الأزمة يجب أن يبدأ من بحث كيفية تخلي الرئيس السوري ونظامه عن الحكم، وليس شيئاً آخر.
روسيا، الشريك الرئيسي في فكرة المؤتمر والتي تقف بقوة خلف نظام دمشق، تقول إن المؤتمر لابد أن يعقد بلا شروط مسبقة، وأن مستقبل نظام الحكم يمكن أن يكون مسألة من مسائل التفاوض. بصورة عامة، لا يقتصر الجدل على الإطار المرجعي للمؤتمر، بل ويطال أيضاً الأطراف التي يفترض مشاركتها في أعماله، سورية كانت أو غير سورية. ثمة قوى سياسية، قريبة من النظام، يعتبرها الروس معارضة أيضاً، ويرغبون في مشاركتها ضمن معسكر المعارضة. هذا، إلى جانب معضلة إيران، التي تراها أغلب القوى السورية المعارضة باعتبارها شريكاً في الحرب ضد الشعب السوري، ولا تفترق عن النظام في صغيرة أو كبيرة.
النظام، من جهته، ليس متحمساً لانعقاد المؤتمر، وإن كان يتمنى أن يأتي إفشاله من المعارضة. أحد الأسباب الرئيسية حول مخاوف النظام أن من المفترض أن يعقد جنيف 2 على أساس التفاهمات السابقة، الغامضة، التي تم التوصل إليها بين روسيا وأميركا في جنيف 1، والتي تقول بأن هدف المؤتمر هو توصل الأطراف السورية، بمساعدة إقليمية ودولية، إلى تشكيل حكومة انتقالية كاملة الصلاحيات. ما الذي تعنيه حكومة انتقالية كاملة الصلاحيات، هو بحد ذاته مادة جدل وخلاف كبير، تحتاج مؤتمراً خاصاً لإيضاحها. ولكن ثمة مؤشرات في الأسابيع القليلة الماضية على أن روسيا، وربما حتى إيران، قد تضحي بالرئيس السوري فعلاً، وعدد من مساعديه والمقربين منه، مقابل التوصل إلى حل يحافظ على الجسم الأكبر من النظام وعلاقته الوثيقة بموسكو. وبالرغم من أن النظام يخطط في حال انعقاد المؤتمر لجر أعماله إلى مدى زمني مفتوح، فإن قادة النظام يعرفون أن السذج فقط من يثقون ثقة كاملة بالحليف الروسي.
هذه، ربما، أبرز قضايا الجدل حول جنيف 2، والتي بات من المحتمل أن تجهض المؤتمر وتمنع انعقاده. ولكن الحقيقة أن خلف هذا الجدل، سواء في صفوف المعارضة أو بين القوى الدولية، ما هو أعمق وأبعد من مجريات وشروط وأطراف التفاوض. خلف هذا الجدل يقف مصير الدولة، وما إن كان الصراع على سورية سينتهي باقتلاع هذه الدولة، أو أن من الممكن إنقاذها ومنع انحدار البلاد إلى حالة فقدان السيطرة المركزية، والذهاب إلى دائرة احتمالات لا حد لها.
لم تكن الأطراف السورية، وغير السورية، تتصور في البداية أن يمتد الصراع كل هذا الوقت. اندلعت الحركة الشعبية في سياق حركة ثورة عربية واسعة، أطاحت بنظامين سياسيين، في تونس ومصر، خلال أسابيع قليلة فقط. وحتى في ليبيا، التي شهدت رد فعل عسكرياً وبالغ العنف من النظام على الحركة الشعبية، لم تلبث القوى الغربية أن تدخلت وساعدت على إيقاف النظام عن ارتكاب مجزرة بشعبه، ومن ثم على الإطاحة به. سلك النظام السوري سلوكاً مشابهاً لسلوك النظام الليبي، ولكن الحركة الشعبية السورية كانت هائلة وواسعة النطاق، وظن كثيرون أن النظام لن يستطيع مواصلة حملة القمع الدموي طويلاً، وأن تصميم الشعب، والضغط الدولي، ربما، سيطيح به في النهاية. ولكن النظام كان لديه فكرة أخرى. طور النظام حملة القمع التي تعهدها للحركة الشعبية في شهور الثورة الأولى إلى حرب معلنة على الشعب، مستخدماً كافة وسائل الحرب.
وسرعان ما دُفع عدد من السوريين إلى حمل السلاح، سواء بفعل الضغوط التي مثلتها حملة القمع أو بتشجيع من طلائع الضباط والجنود الذين قرروا الانشقاق مبكراً عن النظام. أوقعت قوى الثورة المسلحة خسائر هائلة بآلة النظام القمعية وجيشه، وحررت قطاعات كبيرة من سيطرته، بما في ذلك مدن وبلدات هامة؛ ولكن البنية الطائفية للجيش، والدعم المستمر من إيران والعراق وروسيا، جعل انهيار الجيش، أداة النظام الباطشة، هدفاً عسيراً، يتطلب مزيداً من النضال والزمن. ما انتهى إليه الوضع، أن أصبح استمرار الصراع مصدر تهديد فعلي لبقاء واستمرار الدولة السورية، ليس بمعنى تعرض سورية لخطر التقسيم وسيناريوهاته الشائعة، بل بمعنى وجود الدولة المركزية، وقدرتها على توفير الحد الأدنى من مقدرات التحكم والسيطرة. بوتيرته الحالية، يقوض الصراع على سورية مؤسسات الدولة، الواحدة منها تلو الأخرى، في الوقت الذي تعاني أجهزة الدولة العسكرية والأمنية من نزيف بطيء وحثيث؛ بينما تفتقد قوى الثورة والمعارضة إلى الوحدة والقدرة على طرح بديل سريع للدولة الماضية نحو الانهيار.
لا الولايات المتحدة، ولا الدول العربية التي تقف إلى جانب قوى المعارضة والثورة، تريد انهيار الدولة السورية. تحتل سورية موقعاً بالغ الحساسية والتأثير في المشرق العربي ذ الإسلامي، ليس فقط لحدودها الطويلة مع الدولة العبرية، بل أيضاً لإمكانية أن تصبح مصدراً للقلق في العراق والأردن ولبنان، إضافة إلى تفاقم المسألة الكردية. وبالنظر إلى أن تداعي الدولة السورية سيعزز من قوة الفصائل الإسلامية المسلحة، وقد يؤدي إلى تمدد الصراع من سورية إلى جوارها، تسعى القوى الدولية الرئيسية إلى انتقال سياسي وسريع للحكم، يحافظ على ما تبقى من مقدرات الدولة المنهكة. إن أمسكت بمقاليد الحكم في سورية قوى صديقة لروسيا أو الولايات المتحدة، أو حلفاء الثورة العرب، فليس من الصعب إعادة تأهيل مؤسسات الدولة، بحيث تصبح حائطاً كافياً أمام سعي الإسلاميين للسيطرة على سورية، ومحاصرة التأثيرات السلبية المحتملة لسورية على جوارها العربي والإسرائيلي. وليس القوى الدولية والعربية فقط من يريد الحفاظ على الدولة، بل أن دوائر سورية سياسية معارضة متعددة تخشى هي الأخرى استمرار الصراع الدموي المسلح إلى أن يؤدي لانهيار كامل للدولة. بالنظر إلى انقسام الساحة السياسية المعارضة، كما معظم الساحات العربية الشقيقة، إلى إسلاميين وغير إسلاميين، وإلى القوة المتصاعدة للإسلاميين، سواء في معسكر المعارضة السياسي أو دوائرها المسلحة، فإن انهيار الدولة سيفتح سورية على مصراعيها للقوى الإسلامية. البعض الآخر من شخصيات المعارضة السورية لا يتصور أن من الممكن أصلاً المحافظة على سورية بدون المحافظة على استمرارية الدولة.
أين المشكلة إذن؟ لماذا لا تضحي المعارضة السورية وفصائلها المسلحة ببعض شروطها وتقبل الذهاب لجنيف 2 وتعمل على التوصل إلى حل تفاوضي مع أركان النظام، يساعد على حماية سورية من الانهيار والمحافظة على ما تبقى من أداة الدولة السورية؟
المشكلة أن الدولة السورية، كما كل الدول العربية الأخرى، ليست جهازاً محايداً؛ ومن الصعب، إن لم يكن من المستحيل، الثقة بإمكانية الجمع بين وجودها والانتقال بسورية إلى الحرية والديمقراطية. شهدت سورية منذ ستينات القرن الماضي سيطرة حثيثة من نظام الحكم على الدولة، وصلت إلى أن أصبحت الدولة، جيشاً وقضاءً واقتصاداً وإعلاماً وأجهزة أمن وخدمات، مجرد أداة بيد النظام الحاكم. عملت الطبقة الحاكمة في البداية على استخدام الحزب والأيديولوجيا البعثية من أجل خلق هذا التماهي بين النظام والدولة؛ ولكن شيئاً فشيئاً، ونظراً للجوهر الطائفي للنظام، تطور وضع الدولة السورية البائس ليجعل منها أسيرة للحزب والطائفة والنظام في وقت واحد. وبالرغم من خصوصيتها، ليست الحالة السورية فريدة. كل دول ما بعد الاستعمار المباشر في المجال العربي شهدت هذا التطور الخطر في وضع الدولة وموقعها، بداية من عقد الستينات، عندما أصبح من الواضح أن الدولة العربية الحديثة عجزت عن تلبية طموحات شعبها. لعب الاتحاد الاشتراكي في مصر الناصرية، وحزب جبهة التحرير في الجزائر، والحزب الدستوري في تونس، دوراً رئيسياً في إخضاع الدولة لنظام الحكم. وما إن تحقق هدف الإخضاع حتى أصبح من المستحيل تخلي الفئات الحاكمة التالية عنه؛ بل أن هذه الفئات اعتبرته حقاً طبيعياً لها.
لم يكن خافياً عندما اندلعت حركة الثورة العربية أن مطالب الحرية والديمقراطية والكرامة الإنسانية لن تتحقق بدون عملية إصلاح عميقة لجهاز الدولة ومؤسساتها. كانت الملايين التي خرجت في شوارع المدن العربية تدرك أن الطبقات الحاكمة وأحزابها لم تصنع كل هذا الخراب منفردة، وأن مؤسسات الدولة، وزارات وقوانين وإدارات وثقافة وتقاليد، كانت الشريك الرئيسي في عقود القمع والنهب والخراب. وقد تصور كثيرون أن عملية إصلاح الدولة يمكن أن تنجز ببعض الصبر والتدرج، وبدون المخاطرة في تحمل عواقب الانهيار السريع أو المفاجىء. ولكن النتائج أصبحت أكثر من واضحة الآن: عندما يقام نظام حر وعادل وديمقراطي على أرضية من الدولة السابقة، المعادية للحرية والديمقراطية والعدل، تضع الدولة حدود الحرية وسقف الديمقراطية ومعنى العدل. ليس ثمة أداة أكثر مضاءً وقوة من الدولة الحديثة، وباعتبارها المؤسسة الاجتماعية الأكثر سيطرة وهيمنة، فإن من الصعب تأسيس علاقة تفاوض ومساومة عقلانية بينها وبين الشعب. في أغلب الحالات، وليس كلها بالضرورة، إما أن يطيح الشعب بالدولة ويعيد بناءها من جديد، على أسس جديدة، أو أن يقبل بالعلاقة غير المتوازنة والمتكافئة بمؤسساتها.
ليس لأحد بالطبع أن يملي على الشعب السوري إرادته وخياراته. هذا هو الشعب الذي خاض ويخوض أطول معارك حركة الثورة العربية وأعظمها تكلفة. ولكن ما ينبغي تذكره في حمى جدل التفاوض والحل، ربما، أن مصير الدولة لا يجب أن يكون مصدر قلق كبير للسوريين.