في عام 2010 شاركت في دورة قائد تدريب دولي مع جمعية الكشافة المرشدات الأردنية في عمان، قضينا فيها عشرة أيام من الجهد والتعب في مخيم الكرامة الكشفي، في أكثر المناطق انخفاضًا عن سطح البحر وعلى وجه الأرض، في غور الأردن.
كانت التجربة أكثر من رائعة والرفقة أكثر من جميلة، قضينا الأيام والليالي نعدّ ونجتهد مع أخوة لنا تعرفنا عليهم من كافة أطياف الوطن العربي، من المحيط إلى الخليج، تحت لواء المنظمة الكشفية العربية، فكانت مجموعتي من القائد السعودي والليبي والتونسي والسوداني والأردني، وفي المجموعة الثانية الفلسطيني واللبناني والمصري والجزائري والأخرى الإماراتي والعٌماني والـ…
اجتمعنا وتآلفنا، تآخينا وتحاببنا، لا لشيء، فقط حبًا في نهضة هذه الأمة ونهضة أبنائها، مرضاةً لله الواحد الأحد.
حتى لا أطيل، انطلقنا من عمان عاصمة الأخوة والجمال في سيارة أجرة، كنا قد حجزنا مقعدين لنا فيها، لي ولأخي القائد الحبيب المحب لؤي الصغير الذي كان رفيق دربي في هذه التجربة الكشفية الرائعة، إضافة إلى رفقته لي ورفقتي له في كثير من التجارب والمغامرات الكشفية العربية والدولية.
انطلق السائق ناصر بكل ثقة عارف دربه ووجهته، إلى لبنان، هذا البلد الجميل القبيح، هذا البلد المعطاء البخيل، هذا البلد المقاوم العميل، هذا البلد الكبير الصغير، هذا البلد الذي يختصر العالم، يختصر الكون، يختصر الدنيا والآخرة.
انطلق ناصر يشق طريقه، وكانت شمس ذلك اليوم قد فارقتنا من ساعات، ومدة الطريق بين عمان وبيروت لا تتجاوز ساعاتها أصابع اليد الواحدة، ومع نغمات أم كلثوم وطربها، ومع أحاديثنا وذكرياتنا ونعسنا وصحونا، وصلنا إلى الحدود الأردنية السورية، لننزل كالأنعام إلى مكتب الجوازات، كلٌ يعرف طريقه، نصطفّ في طابور طويل أو قصير، ننتظر دورنا لكي نصل إلى حبيب الجماهير وحبيب الآلاف والملايين، الذي بدون ختمه ورضاه وبدون خبطته المباركة على جواز سفرك، لا يمكن لك أن تغادر الأرض الطيبة التي مكثت فيها الأيام الجميلة، وبدون ختمه الأحمر لا يمكنك أن تعود إلى حبك وولدك وأرضك وعرضك، بدون رضاه تبقى أسير اللحظة، تبقى أسير الموقف، تبقى أسير المكان والزمان.
وأنا أبحث وأسرح في أفكاري، أسمع ضربة قوية يتعرض لها جواز سفري، أشعر فيها في داخل أحشائي كإعلان القاضي لي وأنا تحت قوس العدالة “اذهب أنت حر”، وبعبسته المعهودة يسلمني جواز السفر دون أن ينطق بكلمة، وبنظرة أخرى للمترقب دوره خلفي يفهم أنه أصبح دوره، وأفهم أن دوري قد انتهى.
في قرارة نفسي حمدت الله تعالى على التيسير، متوجهًا بكل فخر إلى سيارة التاكسي لأنتظر رفاق رحلتي الذين يخوضون تجاربهم الشخصية مثلي تمامًا.
وينطلق ناصر بعد أن قضينا ما يقارب الساعة على الحدود الأردنية.
الوجهة الآن إلى الحدود السورية، وبعد دقائق من السير نذهب جميعنا لنختم الجوازات، والأمر هنا كما هنالك، وكل حدود بين دولنا لها خصوصية وأحاسيس، لها ثمن معروف أو إكرامية مبطنة وقيل قديمًا: “من تعرف قيمة ديته أقتله وامش”، ودية ذلك الشرطي كانت لا تتجاوز الخمسين ليرة في حينها، تضعها داخل جواز السفر حتى تصبح أمورك كلها بالسليم، وطريقك إلى أهلك وولدك معبدة بالزهور والرياحين.
تستلم الجواز وتنطلق مسرعًا إلى سيارة الأجرة، لتجد رفاقك ينتظرونك، وأنا الذي كنت ظننت أني فعلت ما لم يفعله غيري لأكون الأول وفي المقدمة، فأنا الذي دفعت الخمسين قد وقفت بالدور أنتظر دوري، أما رفاقي فقد دفعوا المئة وجاءهم جواز سفرهم إلى عندهم في السيارة.
على كل حال الدنيا تجارب ودروس، وفي المرات القادمة أصبحت أعرف مفاتيح النصر وأدواته.
وانطلق ناصر إلى إدارة الجمارك التي لا تبعد إلا أمتارًا قليلة، ويركن السيارة في المكان المخصص لها، يأتي شرطي الجمارك من خلف، ويطلب من ناصر فتح صندوق السيارة الخلفي وإنزال ما فيها، وكل شخص يقف أمام حقيبته للتفتيش.
أنزلنا حقائبنا بكل روح طيبة، لعلمنا أنه لا يوجد فيها، وأنا الذي لا أملك إلا حقيبة واحدة ملئت ثيابًا بحاجة لغسيل وتنظيف، فلقد أمضيت عشرة أيام في مخيم كشفي، وما أدراك ما المخيم الكشفي، أغسل ثيابي بيديّ، أنشرها في الليل لتنشف وألبسها في النهار، لدرجة أني خجلت أن أفتح حقيبتي لسوء الرائحة التي أتوقع أن تخرج منها، لكن التعليمات تعليمات، والأوامر يجب أن تنفذ، وجولة الشرطي بدأت من اليمين إلى اليسار.
الشرطي (وهو يفتش بين الأغراض): شو في معك؟
أنا: لا شيء، فقط ثيابي.
الشرطي: وشو في بهيدي الشنطة؟
أنا: ما في شي، إنها كاميرتي.
الشرطي: شو؟! كاميرا؟!
أنا: نعم كاميرتي!
وكان معي في رحلتي، وكان ذلك قبل انتشار الهاتف الخلوي وكاميرته فائقة الجودة، كنت قد اشتريت كاميرا من نوع (CANON 1000D)، ويمكن أن تعتبرها في ذلك الوقت من الكاميرات الجيدة إضافة إلى عدستها المتطورة التي كنت قد اشتريتها لها، وكل من يعرفني يدرك شغفي وحبي للتصوير، حتى إن من يراني في أيّ حفل أو مهرجان أو احتفال لا أحمل كاميرا أو هاتف أقوم بالتقاط الصور، يتفاجأ أو يكاد يُصدم.
والطريف في هذا أن بعض الشخصيات المهمة في بلدنا تطالبني بصور التقطها لهم خلال بعض فعاليات ومهرجانات متعددة، وهناك صديق منهم كلما ألتقيه يقول لي: “ما في أشطر منك بالتصوير، بدي شي مرة تبعتلي شي صورة منهم”.
نعود للشرطي على حاجز الجمرك الذي كان يقتش بين أغراضي، حيث عاد وقالها بصوت من اكتشف جريمة نكراء: معك كاميرا؟!
أخذ حقيبة الكاميرا وركض مهرولًا إلى مكتب الضابط المجاور: سيدي، سيدي، كمشت واحد معه كاميرا!
هنا توقف الزمان عندي، ووقفت معها عقارب الساعة في يدي، وأحسست أن الدم في عروقي توقف عن الجريان، قلبي، أين أنت يا قلبي؟ أنا في أمس الحاجة إليك الآن، لماذا لا أشعر بخفقانك؟ لماذا هذا الخذلان؟
نظرت إلى من حولي، فإذا بهم يرمونني بنظرات البائس المستسلم، عيونهم تقول لي: كان الله في عونك، أنت من جلبت الأسى والشقاء لنفسك، أنت من أمتلك كاميرا لتوثق فيها أجمل أوقات عمرك، هذا ذنبك، ذنبك أنك تحب الحياة، ذنبك وقدرك، فاحصد ما زرعت واقطف ما رويت.
وتعلو صيحة من بعيد: أنت يا تبع الكاميرا، تعا لعند الضابط.
لو أطلق عليّ الرصاص في حينها لما أحسست، ما هي جريمتي لأذهب إلى الضابط؟ إنها كاميرا تشتريها بدون ترخيص، وتصور فيها أينما كان وكيفما كان، ما هذا الذنب الذي أُساق إليه؟ ما أصعبها من لحظات أن ينادى عليك لتقابل الضابط بتهمة أنك تمتلك كاميرا!
ترددت، ماذا أفعل، أسمع كثيرًا عن سوء معاملة الأجهزة الأمنية والمخابرتية السورية وظلمها، ماذا افعل، أأهرب، أأركض، أأبكي، أأشكو، أأدعو، والله إنها كاميرا لا تقدم ولا تؤخر.
توكلت على رب العباد الله العزيز الجبار وقررت التوجه إلى قدَري..
توجهت بخطى مرتجفة إلى حيث المجهول، إلى حيث الشيطان يوسوس لي باقتراب أجلي، إلى حيث اللاعودة، إلى قصص كنا نسمعها عن إخوان ماتوا في السجون، إلى إخوان انقطعت أخبارهم في المعتقلات، وأصبحت لديهم إعاقات جسدية ونفسية من جراء التعذيب، أسير إلى قدَري بإرادتي.
حاولت أن أشدّ من عزيمتي، أن أضبط أعصابي، أنا لم أمرّ سابقًا بمثل هذه المواقف، وأنا ابن البلد الذي حكمته المخابرات السورية لأكثر من ثلاثة عقود بالحديد والنار، حتى أصبحنا مواطنين مدجّنين نسمع ونطيع نعرف الخطوط الحمر ولا نتخطاها، ونسير بين الألغام بحذر خوفًا من انفجارها.
بعد هذا كله يا وسام يا ذكي يا فهمان تخطئ هذا الخطأ الذي لا يغتفر وتحمل كاميرا، الله يكون معك ويخفف عنك ويكون عونك في هذه المحنة الصعبة.
لا أدري لماذا خطواتي ثقيلة! لا أدري من أين جاء هذا الحِمل الثقيل على أكتافي، أمتار قليلة شعرت أنها كيلومترات طويلة، ومع كل خطوة أخطوها أستذكر الكاميرا واللقطات التي التقطها، هل فيها أيّ لقطة ممنوعة؟ هل فيها أيّ لقطة غير مسموح بنشرها؟ هل أصحابي ورفقائي الكشافون الذين كنت أصوّرهم وأتصور معهم مطلوبون إرهابيون مجرمون؟ ماذا يوجد فيك أيتها البائسة التعيسة؟ ماذا تحفظين في ذاكرتك الكبيرة التي حرصت ألا أمحو منها ولا صورة، لأحتفظ بهم جميعًا وأستذكر جميع اللحظات والمواقف، لأعيش تلك الأيام والليالي بنفس الشعور والأحاسيس، كلما عدت إليها، لأذكر إخواني القادة الذين جمعتنا بهم الكشفية على منابر من نور، لتكون هذه الصور البصمة الجميلة التي حفظتها لهم.
آه منك ومن ذاكرتك المشؤومة، آه من تلك الساعة التي قررت فيها المشاركة بتلك الدورة الكشفية التعيسة، آه وآه وألف آه.
وصل الفارس المهزوم إلى باب المكتب، لأجد الشرطي المزهوّ بانتصار لا أعرف له معنى، يقف أمام رجل بقليل من نجوم تعلو كتفيه، يبتسم ابتسامة عريضة مع شماتة ظاهرة، وعند وصولي يقول للضابط: ها هو سيدي صاحب الكاميرا.
وساد الصمت، وتعالت النظارات، وقام المارد الهمام عن كرسيّه، وبشهيق طويل وزفير أطول تمنيت بأن الأرض تنشق وتبتلعني، أهون عليّ مما أنا فيه.
الضابط: إلك هيدي الكاميرا؟
أنا: نعم إلي.
الضابط: شو فيها؟
أنا: صور
الضابط: شو مصوّر فيها؟
أنا: كنت بالأردن ومصور الرحلة إلي كنت فيها.
الضابط: شغلها لشوف! (وتبين أن صاحبنا حاول تشغيلها مرارًا قبل وصولي ولم يفلح)
وهنا أخذت الكاميرا وشغلتها، وأعطيته إياها.
ولاحظت أن الضابط يحاول جاهدًا أن يعرف كيفية تشغيل الكاميرا، فسألني: وين الفيلم تبعها؟ شيلي الفيلم. (طلع صاحبنا بعده على أيام كاميرات الفيلم 36 صورة).
وهنا بدأ ينكسر حاجز الخوف لدي، فعندما تعلم أن خصمك بكل هذه النجوم جاهل، تعرف قيمة نفسك، وبدأت أعطيه دورة مصغرة عن الكاميرا، وكيف تعمل، وشرحت له عن بطاقة الذاكرة التي تحفظ الصور بداخله.
وعندما بدأ صاحبنا يتعرف على تشغيلها، أخذ يقلب الصور ولا يرى إلا صور الدورة الكشفية والقادة الكشفيين والفعاليات والأنشطة التي شاركنا فيها.
سألني: شو كنت عم تعمل في الأردن؟
أنا (بثقة): كنت عم شارك بدورة بالكشاف.
هنا تدخّل الشرطي مقاطعًا: نلقي القبض عليه سيدي بتهمة المشاركة بدورة بالأردن وبحوزته كاميرا.
الضابط: لا يا أهبل، هاد كشاف.
الشرطي: شو يعني كشاف؟
الضابط: هدول شغلتهم يلعبوا الولاد، اتركه يروح.
هنا في هذه اللحظة عادت الدورة الدموية للعمل في شراييني من جديد، وعادت إليّ روحي بعدما كانت قاب قوسين أو أدنى من الانخطاف، وعادت إليّ أحاسيسي وقوة عضلاتي،عايشت شعور المظلوم المعتَقل وبشعور الظالم المعتقِل، أحسست بقيمة الحرية التي نعيشها في بلد لا تتجاوز مساحته مساحة حي في نيويورك، وفيه طوائف وملل بمساحة خمس أو ست قارات مجتمعات، علمت كم نحن محظوظون أننا في لبنان بلد الحرمان وقلة الموارد والماء والكهرباء، ننعم بنعمة لو عرفها إخواننا في الوطن العربي لقاتلونا عليها، إنها نعمة الحرية بكل مساوئها ومضارها وفلسفاتها، إنها الهواء الملوث الذي نتنشقه، إنها مرض السرطان الجميل الذي يعشعش في أحشائنا ونتعايش معه، إنها العشيقة التي يتقاتل الجميع للحصول عليها ومستعد للموت لأجل رضاها، نموت لأجلها، ونحيا تحت لوائها.
استلمت الكاميرا من الضابط بهدوء حتى لا أوقظ فكرة أو نظرة لديه، مشيت إلى سيارة الأجرة على مهل، جمعت أغراضي بسكون، وضعتهم في صندوق السيارة الخلفي، وصعدت إلى مقعدي بصمت، وصعد الجميع بعدي دون سؤال أو استفسار.
ركنت برأسي إلى الباب، حاولت النوم، لكن المشهد لم يفارقني، حاولت البكاء لأريح نفسي، كرامتي لم تسمح لي، غفوت قليلًا، استيقظت على الحدود السورية اللبنانية، طلب منا ناصر النزول لختم الجوازات، انتقلنا بعده إلى مركز الجمارك.
ومغامرة جديدة، وشرطي جديد وضابط أمن جديد برفقة كاميرتي الحبيبة سبب كل مصيبة.