قبل ألفي عام خص الله مدينة بيت لحم بالبركة، فاحتضنت ميلاد المسيح، واليوم يخصها الله بالبركة ثانية؛ لتكون حاضنة الانتفاضة الفلسطينية ضد الصهاينة، وضد عناصر الأجهزة الأمنية، الذين أظهروا وحشية وقسوة في قمع الشباب الرافض لتهويد القدس، بشكل لا يختلف عن العدوانية التي شهدها المواطن الفلسطيني على يد الجيش الإسرائيلي، وفي هذا القمع إشارة إلى انعدام الفرق بين الجيش الإسرائيلي الذي قتل الطفل الكسبة في القدس وبين المستوطنين الذين أحرقوا الطفل الدبابشة في دوما، وبين عناصر الأجهزة الأمنية الفلسطينية الذين كسروا عظام الطفل “الحمامرة” في بيت لحم، ولا سيما أن الهدف الذي من أجله تم الاعتداء على الأطفال الثلاثة هو كسر شوكة الشعب الفلسطيني، ومنعه من الدفاع عن وطنه ومقدساته حفاظًا على أمن المستوطنين.
ومن المفارقات المثيرة للانتباه أن السبب الذي من أجله تم الاعتداء على أطفال الضفة الغربية الثلاثة؛ هو صدق وطنيتهم، وحبهم للقدس، وخروج الطفل الكسبة قتيل الصهاينة، والطفل الحمامرة قتيل الأجهزة الأمنية، في مسيرات تضامنية ضد تهويد المدينة المقدسة.
حين يتوحد السبب ويتوحد الهدف تذوب المسافة الفاصلة بين الأمن الفلسطيني والأمن الإسرائيلي، وهذا ما حرض شباب بيت لحم على محاصرة مقرات الأجهزة الأمنية، ورجمها بالحجارة والزجاجات الحارقة، وعدم الاقتناع بمسرحية الإقالة لبعض القيادات والحبس لبعض العناصر؛ لأن الحس الوطني لدى شباب بيت لحم يدلل على أن الذي يجري في الضفة الغربية هو انتفاضة ضد كل أعداء الشعب الفلسطيني، انتفاضة تعبر عن حجم الحقد والاحتقان في قلوب شباب فلسطين ضد سياسة عباس بشكل عام، وضد ممارسات أجهزته الأمنية.
لقد فاجأت انتفاضة شباب بيت لحم الفصائل الفلسطينية نفسها، والتي كانت قد التقت مع بعضها قبل يوم، واتفقت فيما بينها على التهدئة وتطبيب الخواطر، ولكن مواصلة الانتفاضة لليوم الثاني قد جاءت لتؤكد أن الذي يجري في شوارع الضفة الغربية لم يعد محكومًا للتنظيمات الفلسطينية، وإنما الذي يجري هو رد فعل شعبي على مجمل السياسة الفلسطينية، وعلى مجمل الحالة الأمنية التي تعمل ضد مصالح السواد الأعظم من الفلسطينيين.
انتفاضة بيت لحم لا يمكن فصلها عن انتفاضة جنين قبل أيام، حين تمرد أهل جنين وشبابها على الأجهزة الأمنية وأمطروهم بالغضب الفلسطيني اللاهب، وهذا كله لا يبتعد كثيرًا عن غضب أهل نابلس، ومواجهتهم للأجهزة الأمنية في مخيم بلاطة في تاريخ 25/ 5 من هذا العام، وكل ذلك لا يبتعد عن أحداث مخيم قلنديا، ومن قبل ذلك مسيرات مدينة رام الله الرافضة للتنسيق الأمني، ومن قبلها مظاهرات مدينة الخليل.
إن ما يميز انتفاضة بيت لحم عن بقية مدن الضفة الغربية هو مهاجمة مقرات الأجهزة الأمنية الفلسطينية وكأنها مقرات معادية، بعد أن تم محاصرتها بالهتاف الذي يتهم عباس بالخيانة والعمالة لأمريكا ويطالبه بالرحيل، وربما يكون هذا الهتاف الوطني هو السبب الذي دفع بعض قادة السلطة للقول “إن ما جرى في بيت لحم عمل إسرائيلي يهدف إلى التشويش على القنبلة التي سيلقيها الرئيس في الأمم المتحدة”.
ونسي المسؤول أن هذا المنطق المنحرف قد سخر منه أطفال فلسطين، وهم يدركون أن إسرائيل لن تطفئ نور عينيها، وأن إسرائيل لن تكسر العصا التي تتوكأ عليها في مدن الضفة الغربية وتهش فيها على أحلام الشعب الفلسطيني.
انتفاضة بيت لحم ستتواصل، وستنتشر، وستمتد إلى كل مدن وقرى ومخيمات الضفة الغربية، لأنها تؤكد أن الفلسطيني الجديد الذي أراده الجنرال “دايتون” قد مات، وداست على عنقه المقاومة، التي أنجبت الفلسطيني الحر الجديد، الفلسطيني الرافض للمذلة، والذي تأسس على معاداة التنسيق الأمني، إنه الفلسطيني الذي يحلم بفلسطين الحرة العربية الكريمة التي ستلفظ من تاريخها كل خائن، فلسطين التي يصطف فيها أبناء حركة فتح مع إخوانهم أبناء حركة حماس في خندق واحد ضد العدو الإسرائيلي.