كانت عاصمة مصر للعديد من العقود نابضة بحياة مختلف العقائد السماوية بين شوارعها، فقد احتوت على العديد من اليهود المتعايشين بين المسلمين والمسيحين، إلا أن التغيرات الديموغرافية والسياسية لم تجعل سوى القليل منهم يحيا في مصر، حيث يعانون من التهميش والتمييز العنصري.
يظهر في الصورة آخر من تبقى من يهود مصر، يجتمعون في معبد شعار هاشامايم في مركز القاهرة ينتظرون كسر صيامهم، حيث يُقدم المعبد الطعام اليهودي التقليدي، وهو التفاح والعسل، بالإضافة إلى حبات الرمان الموجودة في المعبد مع النبيذ الموضوع في أقداح صغيرة بجوار الفاكهة، أغلب من حضر قد تخطى الثمانين من عمره، حيث هاجر الشباب منهم إلى الدول الأوروبية.
يختلف المعبد اليهودي في مصر عن أي معبد يهودي في العالم، فتختلط فيه نجمة داوود المعلقة في سقف المعبد بصوت المؤذن الذي يؤذن لصلاة المسلمين في المسجد القريب من مكان المعبد، أغلبية من تبقى فيه هم من النساء، فقد ترك الرجال زمام الأمور منذ أن هاجروا، حتى اختفوا تمامًا منذ عام 1990، ومن قرر البقاء منهم في مصر منذ ذلك الحين قد وافته المنية منذ زمن، كما يختلف المعبد في أنه لا يحتوى على “ربان” أو من يتخذه اليهود مُعلمًا لهم لتعليمهم الشرائع اليهودية، لذا يتطوع في المعبد اثنان من الشباب الأمريكان اليهود الذين يستخدمون مزيجًا من الإنجليزية والعربية والعبرية لتعليم زوار المعبد الشرائع اليهودية.
تقول ماجدة هارون، المسؤولة عن المجتمع اليهودي في مصر، في تقرير لصحيفة “TIME” بأنها لا تعرف ما إذا ستجد يهود ليمارسوا معها الشعائر الدينية في المعبد في السنة المقبلة، حيث مات اثنان منذ سنتين ويظل ثلاث آخرون في الإسكندرية، فالعدد يتناقص بشدة، فتقول إن الأمر لن يكون منطقيًا إذا جاءت لأداء الشعائر في المعبد وحدها.
وصل عدد اليهود في مصر ما بين 65.000- 80.000 قبل عام 1948 وكان معظمهم يقطن “حارة اليهود” في القاهرة، كما كان لهم أكثر من تجمع في الإسكندرية ومدن الدلتا، كان الكثير منهم يعيش في مصر منذ القدم، والآخرون مهاجرون من أوروبا في الحروب العالمية في القرن التاسع عشر.
صورة قديمة ليهود مصر في الإسكندرية
لعبت مصر، والقاهرة بالتحديد، دورًا مهمًا في تاريخ اليهود، فمازلت القاهرة تحتوى حتى الآن على كنيس موسى بن ميمون أو معبد موسى بن ميمون، هو كنيس يهودي يقع في 15 شارع درب محمود بالموسكي بمدينة القاهرة في مصر، والكنيس به ضريح الحاخام موسى بن ميمون، وتم تجديده من قِبل هيئة الآثار والحكومة المصرية مؤخرًا في عام 2010 ، ويقع بالقرب منه مقبرة لليهود يعود تاريخها للقرن التاسع، إلا أن القبور اختفت منها تمامًا وأصبحت بحاجة ماسة للترميم.
فنانون يهود مصريون
على الرغم من اختفاء اليهود حاليًا، إلا أنه كان لهم مجتمع قوي وملحوظ على الساحة المصرية في أواخر الأربعينيات من القرن الماضي، حيث كان يُقدر عددهم في ذلك الحين حوالي 80.000 يهودي، وكان منهم الكُتاب والفنانون والنشطاء السياسيون المعروفون في الوسط الفني والإعلامي المصري.
فكانت “ليلى مراد” على سبيل المثال إحدى أشهر الرموز الفنية في السينما المصرية وعالم الفن الموسيقي، فهي من أشهر المغنيات المصريات اليهوديات، وكان أحد مساعديها هو توجو مزراحي، يهودي من أصل إيطالي، والذي قدم نفسه للسينما تحت ىسم مستعار وهو “أحمد المشرقي”، ويُعتبر أحد أهم أعمدة السينما المصرية ومن أفلامه فيلم “الكوكايين”.
استمر طرد اليهود من مصر لسنوات عديدة، حيث مُنح العديد منهم جواز مرور “Laissez-Passer” للسفر بلا عودة إلى مصر، حيث توضح الصورة نسخة قديمة من جواز المرور الذي حصلت عليه الطالبة “ألجيرا صوفير” للسفر إلى إيطاليا وفرنسا بلا عودة.
اختارت عائلة ماجدة هارون، البقاء مع العائلات اليهودية التي قررت البقاء في مصر منذ انتهاء حرب أكتوبر 1973، على الرغم من اختيار العديد من أفراد عائلة ماجدة الهجرة إلى أوروبا، إلا أنها قررت البقاء في مصر والتفرّغ لشؤون اليهود المتبقين فيها.
تعتبر ماجدة أن اليهود في مصر وقعوا ضحية صراعات المنطقة السياسية، تقول “أنا أمتعض من دولة إسرائيل، فهي السبب في حالتنا تلك، وأمتعض من سياسات حكام العرب كذلك”، فترى أن تكوين إسرائيل قد قلب سياسات المنطقة رأسًا على عقب، وتسبب في طرد وترحيل كل الأقليات اليهودية في البلاد العربية، لتترك إسرائيل تلك الأقليات بين خيارين صعبين، إما الانتماء لدينهم اليهودي، وإما الانتماء لأوطانهم، اختارت عائلة ماجدة البقاء، رغم صعوبة ذلك الاختيار وسط كره المصريين لليهود وطردهم وتهميشهم لهم، إلا أن ماجدة لا تحمل إلا الجنسية المصرية، وتحمل بطاقتها الشخصية الديانة اليهودية.
لا يُصدق الكثير من المصريين وجود يهود في مصر، فتواجه ماجدة العديد من المواقف المحرجة في التعاملات الرسمية والحكومية، فعند تعاملاتها النقدية مع البنك تجد موظف البنك يخبرها بعد إطلاعه على بطاقتها الشخصية: “يجب أن نأخذ إذن رسمي من السفارة”، لترد عليه ماجدة: أي سفارة، هل توجد السفارة المصرية في مصر؟
ليس اليهود هم الأقلية الوحيدة التي تعاني من التهميش في مصر، بل يعتبر الأقباط المسيحيون أنفسهم مواطنون من الدرجة الثانية في مصر، نظرًا لحرمانهم من الرتب العالية في الجيش، جهاز الشرطة، وتهديدهم في العديد من المناطق المصرية من قِبل الجهاديين، بالإضافة إلى الشيعة والبهائيين في مصر الذين يعانون من عدم اعتراف المجتمع المصري بهم.
تروي ماجدة بعضًا من تفاصيل حياتها الشخصية لصحيفة “TIME” قائلة بأن زوجها الأول كان مسلم وكذلك ابنتها، وبعد ذلك تزوجت من رجل مسيحي، لتعيش هي وابنتها المسلمة مع زوجها المسيحي، ليكون بيتها هو البيت الوحيد في مصر الذي تعيش فيه الأديان السماوية الثلاثة تحت سقف واحد وفي سلام.