يأتي موسم الحج كل عام حاملاً آلاف الحجاج إلى الأراضي المقدسة، إلا أن هؤلاء الآلاف ليسوا إلا قلة قليلة من ملايين يشدها الشوق كل عام إلى بيت الله وقبر رسوله.
وإذ يبدأ الحجيج في التوافد على مكة والمدينة المنورة؛ يبدأ الشوق والحنين إلى بلاد لم يراها الناس في الاستعار في الصدور، تبدأ أمنيات السفر لبيت الله وإلقاء السلام على رسوله في اتخاذ مختلف الصور؛ من أمنية يتبعها تنهيدة يخبرها رجل لصديقه، أو بعض النميمة النسوية حول فرن من الطين؛ حيث يجري الحديث عن الحاجة المحظوظة التي استقدمها زوجها البناء الذي يعمل في السعودية لتأدية الحج، وحيث أيضاً إعداد الخبز الشمسي اللازم لإعداد “الفتة”.
وإذ يبدأ الحجيج في السفر، يدرك الأهل أنهم باقين، يدركون لأي مدى يصل شوقهم لبيت الله ورسوله؛ وفي نفس الوقت للأهل المسافرين. وتبدأ الاستعدادات لاستقبال الحجاج العائدين كما يليق بعظمة الشعيرة التي قاموا بتأديتها.
ليبدأ العمل مع بداية يوم عرفات، إذ يتوازى بدء تسلق الحجاج لجبل معرفة مع بدأ الأهالي في الإعداد لاستقبال الحجيج. ليبدأ خطاطي ورسامي القرى والنجوع المصرية في تزيين بيوت الحجيج القادمين في نفس اليوم الذي يتم تغيير كسوة الكعبة المشرفة فيه.
يبدأ الرسام أو الخطاط عمله برسم الكعبة المشرفة في مركز الصورة، ثم ينطلق في رسم الرحلة من الأطراف نحو المركز بالتدريج، راسماً وسيلة النقل التي استخدمها الحاج سواءاً كانت مركباً أم طائرة أو حتى بعيراً.
يبدأ الفنان الشعبي بعد هذه المرحلة في تخير ما سيكتبه على المنزل من نصوص، فيبدأ بالتأكيد على وجوب الحج على المستطيع مقتبساً آية “ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلاً”، ثم يبدأ في استمالة المشاعر بآيات مثل: “وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالاً”، ويستمر في استثارة مشاعر التوق للغفران والطاعة بأحاديث تؤكد غفران ذنوب الحجيج كافة كحديث “من حج ولم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه”.
ولا تتوقف الاستثارة عند ترغيب الناس في المغفرة فقط؛ وإنما تستمر بتشويقهم إلى رفقة وأماكن أحبوها فقط عبر الكلام والحديث؛ لا عبر الزيارة، رفقة كرفقة الرسول الذي لا ينازعه أي حبيب مكانته في الإيمان الشعبي، وأماكن كالروضة الشريفة بالمدينة المنورة وجبل عرفات. فتقرأ على الجدران الجملة الشهيرة “من زار قبري وجبت له شفاعتي” (وهو حديث ضعيف)، أو جملة أخرى تمتاز بصغرها وتركيزها لمشاعر كثيرة ومركبة وهي: “الحج عرفة”.
يمكن الإشارة هنا إلى الأهمية الاجتماعية والثقافية الفائقة لهذه الجدران، إذ تعبر هذه الجداريات البسيطة -والتي غالباً ما يقدمها أقارب وأصدقاء الحجاج العائدين كهدية لهم- عن شعور السعادة والغبطة تجاه تمكنهم من أداء الشعيرة، إذ غالباً ما يأتي أداء الحج متأخراً في حياة أصحابه لما فيه من مشقة مادية وصعوبة على الحجاج كبار السن، كما أنها تمثل علامة واضحة وباقية لحصول العائد على رتبة الحاج وتشرفه بلقاء النبي ورؤية بيت الله الحرام. إذ ينهي الخطاط عمله بوضع اللمسة الأخيرة وهي اسم الحاج مصحوباً بالعام الذي حج به.
وفي الصورة التالية يمكن أن نرى كيف أنهى الفنان عمله بشكل يشبه إطار الصورة أو الديكور السينمائي، إذ بمجرد أن يفتح الحاج “نصر” شباك بيته؛ لن يستطيع أحد أن يراه إلا بين السفينة والجمل اللذان استخدمهما للحج.
أو كيف يصبح الحج كله بالمسجدين المكي والنبوي إطاراً لصورة يبدأ فيها الحاج أحمد والحاجة سعدية في نزول سلم البيت.
كما تعمل هذه الجداريات على حفظ الوجود اليومي لشعيرة الحج في حيوات الناس ومخيلات الأطفال؛ تماماً كهدهدات الأمهات لأطفالهن بـ “حج حجيج بيت الله، والكعبة ورسول الله” أو “ميتى أشوفك يا نبي ياللي بلادك بعيدة”. بهذه الأشكال البصرية والموسيقية تتربع أهمية الحج في اللاوعي الجمعي للمجتمع، ويصبح التوق لبيت الله ورسوله شعوراً متصلاً لا ينقطع أبداً على طول حياة الفرد.
كما يمكن لهذه الجدران أن تستمر في ممارسة عادة الجدران المصرية القديمة المفضلة في تلاوة القصص والحكايات، في المثال التالي نرى تلاوة غير متحفظة لقصة تضحية سيدنا إبراهيم بسيدنا إسماعيل، ونرى جبريل عليه السلام حاملاً كبش الفداء ومبعداً السكين عن إسماعيل عليه السلام. وفي هذه الصورة تحديداً نرى كيف يتم تحويل تاريخ الإسلام بشكل تدريجي إلى قصص شعبي ساطع الألوان، وكيف لا يلقي الفنان الشعبي بالاً لبعض التحفظات على تصوير الأنبياء، إذ يرى في الأنبياء شخوصاً حية ومتواجدة على الدوام في الخيال والقصص الشعبي.