ستون عامًا فقط تفصلنا بين المشاهد التي نراها الآن في شرق أوروبا، من تدفق الآلاف من اللاجئين السوريين، ومشاهد مماثلة وقعت أثناء الحرب العالمية الثانية، ولكن في الاتجاه المعاكس، حين اتجه عشرات الآلاف من البولنديين والأوكرانيين واليهود باتجاه أفريقيا وإيران والهند بحثًا عن اللجوء وهربًا من أهوال الهولوكوست وفظائع معسكرات ستالين السوفيتية، وهو لجوء فتحت له تلك البلدان ذراعيها بشكل أقل ما يُقال أنه أفضل كثيرًا مما تفعل بعض دول شرق أوروبا اليوم مثل المجر وبولندا.
اللاجئون البولنديون
بولندا هي بلد المأساة الأول والأبرز أثناء الحرب العالمية، حيث وقع بين قبضتي النازيين القادمين من الغرب والسوفييت الزاحفين من الشرق، وهو ما دفع جزءًا كبيرًا من سكان البلد للخروج منها، إما للولايات المتحدة للهجرة الدائمة، أو إلى المنطقة المجاورة لأوروبا والمرتبطة بها نظرًا لوقوعها تحت الاستعمار إن لم يستطع الحصول على الفيزا الأمريكية.
في كتاباته كمسؤول بريطاني في أوغندا، يحكي رِيني مونتاغ بيري عن معسكرات اللاجئين البولنديين في ذلك البلد الأفريقي الصغير، ويشير إلى وصول تعداد اللاجئين في شرق وجنوب أفريقيا إلى حوالي 35،000 معظمهم من شرق بولندا والقليل منهم من اليهود، وهو نزوح بدأ بوصول أول فوج منهم لمدينة مومباسا الكينية عام 1942 بتعداد يفوق 15،000، ليبدأ توزيعهم على كينيا وأوغندا وتنزانيا وزامبيا وزيمبابوي.
22 معسكرًا تم تدشينها للبولنديين ومعظمهم من النساء والأطفال، لتبدأ البولنديات في بناء حياة جديدة من الصفر لإطعام وتعليم أطفالهن، وتبدأ كذلك حكايات تفاعلهن مع محيطهن الأفريقي، كما تحكي باربرة بورايسكا، اللاجئة البولندية في السابق، في كتابها “من المرتفعات إلى السافانا” From the Steppes to the Savannah، حيث كانت تعيش في أوغندا مع والدتها في إحدى تلك المعسكرات بأوغندا وهي في التاسعة من العُمر قبل أن تسافر إلى بريطانيا.
وقع المخيّم الذي سكنت فيه باربرة إلى شرق بحيرة ألبرت المعروفة وفي منطقة نائية في القلب من غابة استوائية أثارت ذعر البولنديين ممن ظنوا أنهم سيقعون فريسة بسهولة للحيوانات المفترسة هناك، بيد أن قبائل البونيورو القريبة منهم قامت بتعبيد مساحة كبيرة من تلك المنطقة لتصبح أكثر قابلية للعيش فيها، وبناء أكواخ من الطين للاجئين، لتنشأ حوالي ست قرى بولندية في تلك المنطقة بتعداد حوالي ثلاثة آلاف، والذين بدأوا بالتبعية الزراعة وتربية المواشي، ثم تدشين مخبزًا أنتج يوميًا ألف رغيف.
قرية بولندية في قلب أفريقيا
بولنديون في مخيّم كوجا في أوغندا
تلقائيًا، ومع مرور الوقت، نشأت حياة “بولندية” ثقافيًا ببناء كنيسة كاثوليكية ثم تدشين مستشفى بطبيبَين وممرضتين بولنديين لرعاية المرضى، وبناء بضعة مباني ليتسنى للأطفال الدارسة فيها، ثم نشأة الورش التي مارس فيها الشباب الحرف اليدوية التي عرفوها والحياكة والنجارة والحدادة وغيرها لكسب قوت يومهم، وأخيرًا زيادة التنوع في الزراعة بشكل أتاح للبولنديين تبادل السلع مع الأفارقة من حولهم.
عام 1951، كانت سفوح التلال القريبة من البحيرات في شرق أفريقيا مزركشة بالمئات من تلك المباني التي عادت في الحقيقة للاجئين البولنديين، والذين شرعوا فيما بعد في بناء بيوت كاملة بدلًا من الأكواخ التي عاشوا فيها في البداية، وتوسعوا في نشاطاتهم ليصبح لديهم 12 مدرسة و30 مطبخًا (أو مطعمًا عامًا) وثلاثين سوقًا و15 مبنى إداري، ثم مدارس ثانوية اعترفت بها هيئة الامتحانات البولندية لتتيح للكثيرين العودة لبلدهم الأصلي في المستقبل واستكمال الدراسة بسهولة، ومجموعة من الجرارات وعربة إسعاف وأخيرًا محطة كهرباء.
بشكل عام، كيف نظر الأفارقة لتلك القرية البولندية الجديدة؟ طبقًا لروايات الأوغنديين، لم تقُم أم من الأسر البولندية بإحداث أي أزمات بينها وبين الأفارقة على مدار سنوات لجوئهم هناك، وهو ما يحكيه موسامبانسيكو، أحد حراس تلك المخيمات آنذاك، بل إن لجنة تنسيق وإدارة تلك المخيّمات كانت تمنح عادة رحلات للاجئين ليزوروا العاصمة كامبالا لمدة يوم كامل أسبوعيًا.
ظلت تلك المخيمات لتسع سنوات كاملة دون أن يلاحظها في الحقيقة سوى القريبين منها نتيجة اكتفائها الذاتي وتناغمها التام مع الإدارة الأوغندية، وهي مخيمات لم يتبقى منها أي شيء الآن سوى ألواح رخامية تشير للموتى ممن تم دفنهم، وقد كانوا كثيرين في الحقيقة نتيجة انتشار الملاريا بين البولنديين حينئذ، والذين نُقِشَت أسماؤهم على الألواح كما كُتِب عليها: “تخليدًا لذكرى البولنديين الذين عاشوا بين عامي 1942 و1951،” وهي مقابر يزورها القليل من البولنديين سنويًا إحياءً لذكرى أجدادهم.
أفريقيا لم تكن المكان الوحيد الذي استقبل اللاجئين رُغم فقره وبساطته واختلافه الشديد عن الطبيعة الأوروبية، فقد وفد آلاف أيضًا إلى الهند، والتي وافقت رسميًا على استقبال عشرة آلاف في ذلك الوقت، كما استقبلت كل من إيران والعراق وفلسطين، وهي أعداد إما عادت لبلدها الأصلي فيما بعد، أو تفرقت بين دول أوروبا الغربية الأكثر غنى واستقرارًا، أو إلى الولايات المتحدة.
***
لم تكن الحرب العالمية الثانية باستثناء، فقد اندلعت الاضطرابات في بلدان كثيرة بشرق أوروبا بعد بزوغ نجم السوفييت عقب الحرب مباشرة وبدء الحرب الباردة، أبرزها الثورة المجرية والتي حوّلت العاصمة بودابِست لكُتلة من النار بسبب حروب الشوارع بين الثوار وقوات الأمن والقوات السوفيتية، وهو ما تحكيه إحدى اللاجئات السابقات من المجر بعد نجاحها في الوصول للولايات المتحدة عام 1957.
“كنت طالبة بالسنة الثالثة للجامعة عام 1956 حين اندلعت الثورة، وكان بيت الطلبة الذي نسكن فيه مجاور لمنطقة اشتعلت فيها المعارك ودخلت إليها الدبابات لتُجبرنا على البقاء لثلاثة أيام دون خروج، ودون طعام بالطبع، وحين بدأ الرصاص يصل إلى المبنى، بدت الحياة هنا خطرًا علينا، لأبدأ في البحث عن كيفية الذهاب للنمسا بالحصول على تذكرة للقطار المتجه لآخر مدينة على حدود المجر.”
قد تبدو تلك الكلمات اليوم وكأنها منقولة من إحدى اللاجئين السوريين، بيد أنها في الحقيقة تعود لخمسين عامًا مضت لتلك اللاجئة المجرية، والتي توقف بها القطار في الحقيقة نتيجة اجتياح السوفييت، لتضطر معه للسير على أقدامها وسط المزارع المجرية وصولًا للحدود مع النمسا مع المئات من ركاب القطار مثلها، قبل أن تنجح أخيرًا في الحصول على تأشيرة لأمريكا والسفر لهناك في العام التالي.