بدأ الناخبون اليوم في إقليم كتالونيا الإسباني التوجه إلى مقار الاقتراع في الانتخابات البرلمانية المحلية الخاصة بالإقليم الذي يتمتع بالحكم الذاتي، حيث يتوجه نحو خمسة مليون ونصف المليون ناخب لهم حق التصويت في هذه الانتخابات التي وصفت أنها قد تكون بمثابة استفتاء حول انفصال قد يغير خارطة المملكة الإسبانية في المستقبل القريب.
احتمال الانفصال هذا نتج عن تشكيل تحالف بين الداعين لاستقلال الإقليم في هذه الانتخابات من القوى المختلفة، وهو ما يُشير إلى إمكانية استحواذهم على غالبية المقاعد البرلمانية في الانتخابات الحالية ومن ثم الدفع في اتجاه انفصال الإقليم نهائيًا عن التاج الإسباني.
حيث تظهر استطلاعات الرأي المحلية أن أكبر تجمعين يدعوان للانفصال وهما “معًا من أجل نعم”، وحزب “ترشيح الوحدة الشعبية” اليساري يُتوقع أن يفوزا بأكثرية مقاعد المجلس الإقليمي المؤلف من 135 عضوًا ولكن لا يشترط أن يتخطوا بذلك حاجز 50% من المقاعد، وبهذه الأكثرية يتوقع أيضًا أن يسعى التجمعان لإعلان استقلال إقليم كتالونيا من جانب واحد خلال الأشهر القليلة المقبلة.
أما من جانب الحكومة المركزية في مدريد فإنها أعلنت رفضها القاطع لهذا المشروع الانفصالي، وجاء ذلك على لسان رئيس الوزراء “ماريانو راخوي” الذي شدد على رفض عملية فرض الأمر الواقع على الإسبان من جانب الانفصاليين في إقليم كتالونيا، إذ ترفض حكومة راخوي من حيث المبدأ إجراء استفتاء على الانفصال ووصفت خطة الانفصال تلك بأنها مجرد “هراء”، كما توعدت الحكومة بإسقاط هذه الخطة في المحاكم.
يُذكر أن إقليم كتالونيا يقع في شمال شرق مملكة إسبانيا، وتبلغ مساحته حوالي ٣٢١٠٦ كم، وهو يعتبر بذلك سادس أكبر منطقة من حيث المساحة في إسبانيا، مدينة برشلونة هي عاصمة الإقليم التي يزيد عدد سكانها عن الخمسة ملايين نسمة من تعداد سكان الإقليم ككل الذي يبلغ 7.5 مليون نسمة وبذلك يعد الإقيلم ثاني أكبر مناطق إسبانيا من حيث عدد السكان.
وقد بلغت النزعة الانفصالية بالإقليم ذروتها في العام 2013 بعد أن بدأت الحملة الانفصالية في عام 2012 بالمطالبة بتنظيم استفتاء على غرار الاستفتاءين على سيادة “كيبك” كبرى المقاطعات الكندية في عامي (1980 و1995)، كما تجددت حملة المطالبة باستفتاء الانفصال مع اقتراب استفتاء إسكتلندا على استقلالها عن بريطانيا في العام الماضي، وقد قوبلت هذه المطالبات جميعها بالرفض من الحكومة المركزية في مدريد.
العداء بين الإقليم والحكومة في مدريد له خلفيات تاريخية بعيدة تعود إلى العام 1936 حينما دخل الإقليم في صراع ضد الجنرال “فرانسيسكو فرانكو” الذي أوقف العمل بنظام الحكم الذاتي للإقليم الذي حصل عليه في العام 1936، ومنذ ذلك الحين عمل أهل الإقليم على تعزيز قوميتهم الخاصة وازدهر الإقليم وأصبح منطقة اقتصادية رائدة في ممكلة إسبانيا، حيث نجح الإقليم في تحقيق ما يقرب من ٢٠٪ من الناتج القومي الإجمالي لإسبانيا بالرغم من كون مساحته لا تتعدى نسبة ٦٪ فقط من مساحة إسبانيا.
ومع سوء الحالة الاقتصادية في أوروبا في الآونة الأخيرة وخاصة التي ضربت إسبانيا بالتحديد، يعتقد سكان الإقليم الداعين للانفصال بأنهم لا ذنب لهم في سياسات الحكومة الإسبانية ودول أوروبا التي أدت إلى التدهور الاقتصادي هذا، كما يرون أن إجراءات التقشف التي فرضت على الإقليم هي إجراءات تعسفية بالمقارنة مع الخدمات المتردية في الإقليم.
من مظاهر هذه الإجراءات التعسفية التي يراها سكان الإقليم الكتالوني فرض الحكومة المركزية ضريبة تقدر بـ ١٠٪ من الناتج المحلي الإجمالي، في المقابل ليس هناك أي استثمارات أو خدمات اجتماعية توازي هذه الضريبة الباهظة في وجهة نظرهم، ويبرر الانفصاليون ذلك الأمر بأن الحكومة المركزية دائمًا ما تتجاهل التنمية الحقيقية في الإقليم لرغبة دفينة لديها تريد بها ألا تكون برشلونة عاصمة الإقليم أفضل من مدريد العاصمة المركزية وهو صراع تاريخي قديم بين المدينتين.
سياسة الإقليم الانفصالية تقول إنها لا تريد أن تُشارك في الفشل الاقتصادي للحكومة المركزية، حيث إن إجراءات التقشف تعود آثارها عليهم أكثر من غيرهم بالرغم من كونهم أغنى الأقاليم الإسبانية، وبحكم التبعية الاقتصادية لحكومة مدريد فإن الحكومة الذاتية لكتالونيا تضطر لتنفيذ سياسات مضرة بالإقليم واقتصاده الداخلي تنفيذًا لخطط التقشف العامة في إسبانيا لذلك بدأت كتالونيا في البحث عن الاستقلال بدوافع اقتصادية بجانب الجذور التاريخية القديمة.
هذا الحديث عن الانفصال يُعد كارثة مرتقبة تنتظرها إسبانيا، فالبرغم من كون الاقتصاد الإسبانى رابع أكبر اقتصاد فى أوروبا، إلا أنه ينافس الاقتصاد اليونانى فى المعدل المرتفع للبطالة والتردي والذى يصل نسبته في البطالة إلى حوالى 25% من القادرين على العمل، وبمجرد طرح الحديث عن احتمالية استقلال إقليم كتالونيا يثير ذلك اضطرابات فى الأسواق المالية الإسبانية والأوروبية نظرًا لأن الإقليم ينتج قرابة 20% من الصادرات الإسبانية، في الوقت الذي تصل حصيلة الضرائب فيه إلى نسبة 21% من حصيلة الضرائب على مستوى البلاد.
هذه الانتخابات الجارية يعتبرها سكان الإقليم بمثابة استفتاء جديد على رغبتهم في الانفصال بعد أن رفضت الحكومة المركزية في مدريد في السابق تنظيم استفتاء لتقرير مصير الإقليم، وحينها خرجت من مدينة برشلونة عاصمة منطقة الحكم الذاتي في كتالونيا مظاهرة ضخمة تنادي بالاستقلال، وقد قدر عدد المشاركين بها ما بين نصف مليون إلى مليون نسمة من إجمالي عدد سكان الإقليم وهو عدد ضخم للغاية يعكس رغبة شعبية في الانفصال، بالإضافة إلى تأييد غالبية الأحزاب السياسية في الإقليم لمطالب التظاهرة التي سارت تحت شعار “كتالونيا الدولة القادمة في أوروبا”.
وإذا ما سار الإقليم إلى خطوة الانفصال فإن إسبانيا تخشى العواقب الاقتصادية والديموغرافية له، وهذا ما جعل الحكومة المركزية تتعهد بالتصدي لهذه المحاولات الانفصالية مهما كلفها ذلك من ثمن بحجة أنه مخالف للدستور.
حيث تخشى المملكة الإسبانية من فقدان قرابة 6% من أرضها وكذلك 14% من إجمالي سكان البلاد الذين يمثلون عمودًا فقريًا للأيدي العاملة في إسبانيا، ناهيك عن خشية فقدان أحد أهم مصادر الضرائب والدخل القومي الإسباني في حالة انفصال الإقليم، كما يُتوقع أن تخسر إسبانيا في حالة تم هذا المشروع الانفصالي قرابة 26% من صادراتها التي تصنع معظمها في إقليم كتالونيا وتصدر إلى أوروبا عن طريق الإقليم نفسه الذي يتحكم في حركة النقل والمواصلات الخاصة بالتجارة الخارجية الإسبانية.
الأمر لا يتوقف عند التأثير على إسبانيا فقط بل يهدد منطقة اليورو ككل التي تعاني حاليًا من أزمة اقتصادية في العديد من دولها، وبما أن إسبانيا تشكل أحد أضلع الثبات في منطقة اليورو فإن تزامن الدعوة للانفصال مع الأزمة الاقتصادية في إسبانيا قد تعجل بانهيار الاقتصاد الإسباني ومن ثم دخول منطقة اليورو في أزمة ستكون أكبر من الأزمة اليونانية بمراحل.
كما سيفتح هذا الانفصال على إسبانيا وأوروبا ككل سيل من المشاكل الاقتصادية في مناطق كصقلية، وسيعاد فتح ملف التوترات بين الفلمنكيين والوالون فى بلجيكا، كما سينظر مرة أخرى إلى نتيجة الانتخابات الباسكية التى فازت فيها القوى السياسية المؤيدة لاستقلال إقليم الباسك عن إسبانيا.