أولًا: مظاهر القطيعة مع الإرث النازي القديم في ألمانيا
لقد تمخضت للعالم كله عامةً والشعب الألماني خاصةً ذكريات مفجعة في أعقاب الحرب العالمية الثانية، تلك الحرب التي اندلعت نتيجة لما روج له الفوهرر و زعيم حزب العمال الاشتراكي الوطني الألماني (النازية) أدولف هتلر من أفكار عنصرية ترمي إلى تدمير العالم في سبيل تتويج مجموعة من الأفكار الزاعمة بأن العرق الآري متفوق على باقي العروق والأجناس الأخرى وأن لألمانيا الحق المشروع في قيادة العالم كدولة مركزية قوية، فكانت النتيجة خرابًا مستحكمًا أودى بحياة أبرياء كُثر، الأمر الذي أدى إلى تضافر الجهود والقرارات الساعية إلى القطيعة مع الإرث النازي من كافة الأطراف بدايةً من الفترة التي تلت استسلام ألمانيا في الحرب العالمية الثانية، ويتضح ذلك من خلال مظاهر شتى؛ فتعهد الحلفاء بتدمير العسكرية الألمانية والنازية عقب استسلام ألمانيا في الحرب وبالفعل وضعوا حجر الأساس لإصلاح ألمانيا في (مؤتمر بوتسدام) والذي تقرر عقده خلال شهري يوليو وأغسطس من عام 1945م، حيث تجمع فيه ممثلو الحلفاء (ونستون تشرشل – جوزيف ستالين – هاري ترومان) ووضع هذا الحدث مبادئ تضمنت نزع السلاح الألماني وإلغاء قواتها المسلحة والقضاء على النازية ونشر المبادئ الديمقراطية وإعادة تعليم وتوعية الشعب الألماني من جديد، وبناءً على ذلك تم إعادة تسمية الشوارع والحدائق التي حملت اسمًا له علاقة بالحركة النازية، وتدمير التماثيل والشعارات الوطنية النازية وتمت مصادرة ملكيات الحزب النازي.. إلخ من الإجراءات التي سعت إلى القطع بين العالم وبين كل ما يمت بصلة إلى النازية.
أما في نوفمبر من نفس العام؛ فقد عُقدت محاكمات نورنبيرغ والتي استمرت حتى أكتوبر 1946، وفيها تم محاكمة مجرمي حرب القيادة النازية الذين ارتكبوا جرائم الحرب.
وفي عام 1949، تم تقسيم ألمانيا إلى جمهورية ألمانيا الديموقراطية (ألمانيا الشرقية) وجمهورية ألمانيا الاتحادية (ألمانيا الغريبة) وبدأت هنا “مرحلة الإنكار”، أي أن الشعب الألماني والسلطات آنذاك بدأت لا شعوريًا تُنكر تأييدها للحكم النازي القديم، فمثلًا بدأت السلطات في الشطر الغربي بنعت مرحلة الحكم النازي بمرحلة الحكم التسلطي كنايةً على أنه تم فرضها بالقوة على الشعب وأخذ العوام يتبرأون من دعمهم لهتلر ولحكمه، بينما في الشطر الشرقي أصبح اللوم يُلقى بشكل واسع على التجار الكبار والعسكريين بوصفهم داعمين سابقين للحكم النازي في ألمانيا ليخلصوا الحشود الواسعة من الشعب من عبء الاتهام بدعم النازية.
أما عقد الستينات، فقد كان عقدًا ثريًا بالملاحقات القضائية للمتورطين في قضايا الحكم النازي، ففي عام 1963 عُقدت محاكمات في قضايا عُرفت باسم “قضايا أوشفيتز” نسبةً إلى معسكر الاعتقال والإبادة الشهير “أوشفيتز بوركينو” الذي بُني من قِبل ألمانيا النازية كحل للقضاء على توغل اليهود في أوروبا من خلال القيام بحرقهم وإعدامهم هناك، وفي أثناء المحاكمة قام المتهمون بالدفاع عن أنفسهم تحت ذريعة أنه تم إجبارهم على تنفيذ الأوامر التي وكلت لهم من خلال تهدديهم بالقتل، نلاحظ هنا أن معظم المتهمين لم يقوموا بتبرير ما ارتكبوه من جرائم ولم يقوموا بالدفاع عن أحقيته ومشروعيته، بل على العكس حاولوا تبرئة أنفسهم تمامًا من تورطهم الحر فيه، الأمر الذي يوضح فكرة السخط العام والنبوذ من النازية التي برزت آنذاك، بحيث أصبحت فكرة أن “النازية شرٌ مستحكم” مفروغ منها ولا مجال للنقاش فيها.
نجد أيضًا أن ألمانيا قامت بالتوقيع على “الاتفاقية الدولية للقضاء على جميع أشكال التمييز العنصري” خلال هذه الحقبة أيضًا، مما يعكس تضافر جهود السلطة للقطيعة مع الإرث النازي القديم.
علاوةً على ما سبق ذكره؛ نضيف إلى هذه الحقبة ما شهدته ألمانيا من مظاهرات طلابية بالغة الشدة نددت بالحكم النازي وطالبت بتغيير العالم وأنظمة الحكم الطاغية وكان ذلك في عام 1968 حيث عُرف هذا الجيل فيما بعد بـ “جيل 68″، وفي عام 1998 وصل إلى سدة الحكم المستشار الألماني “غيرهارد شرويدر” المنتمي للحزب الاشتراكي الديموقراطي ووصل أيضًا “يوشكا فيشر” والمنتمي لحزب الخضر ليترأس وزارة الخارجية الألمانية آنذاك، ومما هو جدير بالذكر أن يوشكا فيشر كان من الشخصيات الهامة ضمن “جيل 68” فطالب عند وصوله إلى حقيبة الخارجية بمراجعة النظر في الإرث الألماني بطريقة نقدية وندد بعادة تبجيل الموظفين النازيين السابقين.
ثانيًا: صعود تيارات اليمين المتطرف الجديد في أوروبا وألمانيا
يتضح من الأمثلة القليلة السابقة كيف عملت ألمانيا حكومةً وشعبًا على قطع صلتها بالإرث النازي، إلا أنه كان يبرز بين الحين والآخر أحزاب وتيارات يمينية متطرفة تحمل في طياتها شعارات عنصرية ضد مجموعة فئات مستهدفة في أوروبا، وتعدى الأمر مجرد حمل الشعارات المتطرفة ليشمل ارتكاب جرائم بحق أقليات تعيش في المجتمع الأوروبي والأمثلة على ذلك كثيرة لعل من أشهرها في عالمنا العربي حادثة مقتل المصرية “مروة الشربيني” في مدينة دريسدن الألمانية عام 2009 حيث طعنها الألماني “أليكس فينز” بعدما وصفها بالإرهابية بسبب ارتدائها الحجاب، في السطور التالية نتناول نظرة عن اليمين المتطرف في أوروبا وفي ألمانيا تحديدًا من خلال عرض معتقداتهم وأبرز أسباب ظهورهم في القارة البيضاء.
إن جماعات اليمين عمومًا هي تلك التي تدعو إلى حماية التقاليد والأعراف القديمة داخل المجتمع كحركة المحافظين مثلًا، إلا أنّ الفرق بين حركات اليمين المعتدلة وحركات اليمين المتطرفة هو أن الأخيرة تدعو إلى استخدام العنف واستعمال السلاح لفرض القيم والتقاليد المجتمعية بالقوة، فاليمين المتطرف يكره الحداثة السياسية والفكرية والأخلاقية، وهو ضد الديمقراطية، إلا أنه قبل بها مؤخرًا رغمًا عنه كي يجتذب أكبر عدد ممكن من حشود المواطنين الذين يؤمنون بالديمقراطية كأسلوب حكم.
بدأ اليمين المتطرف بالظهور في أوروبا في صورته الحديثة في تسعينات القرن الماضي في بادئ الأمر بالولايات المتحدة الأمريكية عقب تفجير مدينة أوكلاهوما في أبريل عام 1995م على يد المتطرف الأمريكي تيموثي ماكفاي، حيث أعقبت هذه التفجيرات ظهور جماعة النازيين الجدد في ألمانيا وأعقبتها جماعات متطرفة أخرى في فرنسا وفي أوروبا الشرقية.
ومن أبرز أسباب ظهور حركات اليمين المتطرف حديثًا ما يلي:
1. أسباب عرقية وإثنية
حيث إن معظم حركات اليمين المتطرف تؤمن بتفوق العنصر الأوروبي الأشقر على سائر الأجناس الأخرى، مما يدفعهم إلى الاعتقاد بأن وجود المهاجرين من غير الأوروبيين في بلادهم قد يسبب خللًا في التركيبة السكانية وفي النسل، ومثال على ذلك النازيين الجدد في ألمانيا وحركة “جان ماري لوبن” في فرنسا.
2. أسباب دينية
إن النزعة اليمينية المسيحية المتطرفة في أوروبا قديمة وترجع في أصلها إلى موجة الحروب الصليبية إلا أننا نلاحظ نموها مؤخرًا بسبب مفاوضات تركيا “المسلمة” والتي تسعى إلى الانضمام للاتحاد الأوروبي “المسيحي”، علاوة على أحداث 11 سبتمبر والتي روجت لفكرة “الإسلاموفوبيا” حيث تشير مراكز البحوث والرصد الأمريكية المتخصصة في هذا المجال إلى أن عدد المجموعات المتطرفة والعنصرية ازداد بنسبة أكثر من 60% منذ عام 2000، فارتفع عددها من 602 مجموعة إلى أكثر من ألف مجموعة بحسب تقديرات مركز ”ساوذرن بوفرتي لوو سنتر”، بالإضافة إلى زيادة أعداد المهاجرين العرب المسلمين إلى أوروبا والذين يسعون إلى فرض أنماط حياتهم كالنقاب والحجاب على المجتمعات الغربية “المسيحية”.
3. أسباب اقتصادية
فمثلًا يدعي حزب “التقدم النرويجي” اليميني المتطرف أن زيادة نفقات الدولة نجمت عن زيادة الهجرة ومشاركة النرويج في تقديم المساعدات الدولية وأن فتح الباب أمام المهاجرين سبب تناقص فرص العمل وارتفاع البطالة بين الشباب الأوروبيين بشكل خاص بعدما اعتمد أصحاب الأعمال على العمالة الوافدة الرخيصة.
4. بعض التطورات على الساحة العالمية
كتنامي قوة الجاليات المسلمة والمهاجرة في القارة البيضاء والتي من المتوقع زيادتها بشكل جلي في ظل ثورات الربيع العربي وما تمخضت عنه من دمار لبلدان يلجأ مواطنوها شمالًا لأوروبا، وتعرض عدد من دول القارة لمخاطر التطرف الديني المنسوب إلى الإسلام ، فضلًا على صعود أوباما إلى سدة الحكم الأمر الذي اعتبره الغرب حربًا على جنسهم الأبيض، بالإضافة إلى تنامي التيارات الأصولية الإسلامية في إيران مثلًا، فالتزمت عندنا يولد تزمتًا عندهم.
انفوجرافيك: حركات اليمين المتطرف في أوروبا (اضغط على الصورة للتكبير)
تيارات اليمين المتطرف في ألمانيا
تنتشر تيارات اليمين المتطرف في ألمانيا أيضًا، فيعد الحزب الوطني الديمقراطي في ألمانيا من أبرز الأحزاب اليمينية المتطرفة التي تؤمن بالنازية الجديدة هناك، وتم تأسيسه عام 1964، ومنذ ذلك التاريخ وإلى يومنا هذا لم يحصل على النسبة الدنيا لعبور البوندستاج الألماني، إلا أنه قد حصل على مقعد واحد من 96 مقعدًا في البرلمان الأوروبي عام 2014، ويؤمن هذا الحزب بأن البشر خلقوا متفاوتين، فالجنس الأوروبي هو أسمى الأجناس، مما دفعه لمعارضة صعود أوباما لرئاسة الولايات المتحدة الأمريكية واصفًا هذا الحدث بالمؤامرة على الجنس الأبيض.
بالإضافة إلى هذا الحزب نجد بعض الحركات اليمينية المتطرفة كحركة “بيجيدا” أو حركة “وطنيون أوروبيون ضد أسلمة الغرب” والتي تندد بتنامي أعداد المهاجرين المسلمين في ألمانيا مما يهدد أوروبا المسيحية فيحولها إلى قارة أغلبها مسلمين.
وهناك بعض المروجين لأفكار من قبيل أن اليمين المتطرف سيؤثر على قرارات لها علاقة باللاجئين في ألمانيا مستقبلًا، ونحن لا نؤيد ذلك بشكل تام، فمما هو جدير بالذكر أن اليمين المتطرف الأوروبي يشكل حتى وقتنا هذا أقلية في أوروبا حيث لا تتجاوز نفوذه في ألمانيا الـ 5%، ولا يزيد نفوذه بشكل كبير عن ذلك في باقي أوروبا، ونحن نتوقع أن يزيد أعداد المؤيدين لتيارات اليمين المتطرف، لكن ليس بالحد الكبير الذي يجعل منهم فاعلين ومؤثرين في قرارات السلطة ويرجع ذلك إلى ما تركته هذه التيارات المتطرفة قديمًا من خراب حل بالعالم كله ظل وسيظل محفورًا في أذهان البشر.