قرار الجنرال السيسي الأخير بالإفراج عن قائمة بمائة شخص من بينهم نشطاء سياسيين وحقوقيين وأيضًا “صحفيي الجزيرة” بمناسبة عيد الأضحى، استغلالاً لما لديه من صلاحية العفو الرئاسي، أمر يستحق التوقف عنده ورؤيته بمنظور أوسع وأشمل، سواء من حيث ردود الفعل المصاحبة، أو ما يتعلق بالتوقيت والرسالة المستهدف إيصالها من وراء هذا القرار.
لا شك أن الإفراج قد لقى ارتياحًا لدى ذوي المحتجزين في ظل السمعة السيئة لأماكن الاحتجاز في مصر المختلفة، وطبيعي أن يبتهج الأهل لعودة أبناءهم بعد قرابة عام ونصف العام من الغم والفقد والقلق داخل البيوت المصرية، كما قوبل القرار بتهليل وإشادة من جانب المحسوبين على النظام وبعض المعارضين السابقين المؤيدين للجنرال، ورأوا في الأمر انفتاحًا وفتحًا لصفحة جديدة مع الشباب، وتأكيدًا أن النظام ليس لديه عدائية ضد أحد ولا يستهدف “أبناء يناير”، فيما تحفظ كثير من المعارضين، ولم يروا في الأمر شيئًا ذا قيمة، وكلها ردود فعل متوقعة تعكس مواقع كل طرف من السلطة الحاكمة.
فإطلاق سراح المحتجزين وليس المساجين، وهو المصطلح الأدق لأنهم تم سجنهم بلائحة اتهام عليها علامات استفهام، وبقانون مصنوع بخلفية سياسية ولخدمة السلطة، ومعظهم لم يرتكب جريمة بالمعنى القانوني الفعلي، حدث ليس بالأمر الكبير، خاصة مع بقاء الآلاف قيد الاحتجاز في ظروف سيئة، وأن من خرج قضى معظم المدة المقررة، كما أن ما ارتكبه “صحفيو الجزيرة” لو في ظروف أخرى غير التوتر مع قطر، كان سيدخل ضمن المخالفة الإدارية التى تستوجب دفع غرامة والمطالبة بالتوقف لحين توفيق الأوضاع.
ولا يمكن بأى حال، الفصل بين قرار الجنرال وتوقيت توجهه للجمعية العامة للأمم المتحدة، في ظل السمعة الدولية السيئة لملف مصر في مجال حقوق الإنسان، وإيلاء النظام أولوية قصوى لردود الفعل الدولية، خاصة أن وسائل الإعلام الغربية والمنظمات الحقوقية تواصل انتقاداتها ليل نهار للوضع في مصر، وتستخدم بشكل خاص قضيتي المحبوسين وفق قانون منع التظاهر من القوى المدنية، و”خلية الماريوت” أو “صحفيي الجزيرة”، كمنصة إدانة لسلطة السيسي واستهدافه لكل المعارضين، حتى الذين لا يرتبطون بدعاوى الإرهاب، ولا يتصارعون على السلطة مثل الإخوان، وتحسب تهمهم ضمن انتهاك النظام المصري لحريات وحقوق أسياسية كحرية الرأى والتعبير وحق الاحتجاج السلمي.
وعليه، فالجنرال أراد امتصاص حدة الانتقادات، وتجنب الإحراج لدى لقاء قيادات دولية أو مواجهة وسائل الإعلام الأجنبية له.
بالإضافة إلى محاولة توظيف هذا القرار دعائيًا بإرسال رسالة للداخل والخارج أنه على طريق الإصلاح والانفتاح حتى لو كان بطيئًا وتدريجيًا، خاصة أن هذا المنهج ما يلائم حسب خطابه المتكرر هو وأبواقه الدعائية، مصر ويحميها من الانهيار وتفكك المؤسسات والدولة ويتناسب مع الظروف الاستثنائية التى تمر بها البلاد، وحربها ضد الإرهاب والتصدي للمؤامرات الخارجية.
وإذا وضعنا هذا القرار بالعفو الرئاسي عن نشطاء سياسيين وحقوقيين وإعلاميين منتسبين للقوى المدنية، مع قرارات سابقة بالإفراج القضائي أو الصحي عن بعض القيادات الإسلامية وشخصيات محسوبة على الإخوان، نجد أن النظام يلاعب الجميع بمنطق “العصا والجزرة”، أى أنه يرسل رسالة لكل المعارضين أنه قادر على التنكيل بهم في أي وقت، كما أن بمقدوره أن يحمي من الملاحقة والاستهداف كل من يسير على صراطه، أو يلزم الصمت.
وأنه مثلما أراد، ونجح بدرجة كبيرة، أن يسكت كل الأصوات ويمنع التظاهر بعنف الدولة وبقانون غير دستوري، ويصادر المجال العام وكل المكتسبات التى انتزعها المعارضون خلال سنوات حكم الديكتاتور العجوز مبارك الأخيرة، وتكرست بانتفاضة يناير، فإنه هو وحده من يحدد سقف المعارضة الجديد ومداها، بحيث لا تخرج عن السيطرة مرة أخرى وتتسبب في إرباك النظام وهز أركانه، أو إظهاره أمريكيًا أنه ضعيف وعاجز، ومن ثم يتم البحث عن بديل له مثل سابقيه.
في كل الأحوال، إطلاق سراح أى محتجز أمر جيد، وإن كان مكسبًا خاصًا وليس عامًا، فتقييد الحرية جريمة كبرى وعار تحمله كل الأنظمة الاستبدادية، غير أن ما حدث ليس له قيمة ملموسة فيما يخص حدوث تطور في سجل مصر في مجال حقوق الإنسان والحريات، ولا يمكن بأى صورة من الصور اعتبار أن ثمة إجراءات إصلاحية تجرى في البلاد، في ظل القبضة الأمنية شديدة الوطأة على كل المناحي، والهيمنة على وسائل الإعلام ومؤسسات المجتمع المدني والأحزاب، وتشويه المعارضين واستهدافهم إعلاميًا وأمنيًا، كما أنه ليس منتظرًا من جنرال أن يكون مهيئًا لتقديم تنازلات مؤلمة، ويفتح الباب لبناء دولة مدنية ديمقراطية حديثة تحتكم للدستور والقانون، بعد أن انتزع السلطة بالقوة وبالخداع وبدعم إقليمي ودولي، ويطارده شبح إزاحة مبارك ومرسي من سدة الحكم، وإمكانية تكرار نفس الموقف معه، ومحاكمته على ما حدث من مجازر وانتهاكات دموية خلال العامين الماضين، كما أن الحقوق والحريات تنتزع بنضالات مفتوحة ومتواصلة، وليست منة أو منحة من حاكم مستبد.