طل العيد على مصر وفرحته مغيبة، فالقتل مرتقب كما الاعتقال والاختطاف والإخفاء القسري مستمر، التعذيب والإهمال الطبي لا يزال منتهجًا، التضييق والمطاردة والمنع من السفر موجود بعد، ناهيك عن الغلاء والأزمات المعيشية اليومية، الوضع الأمني لم يتغير قيد أنملة عما كان عليه قبل حلول العيد ولا يوجد ما يبشر بتغيره بعد رحيله، وإن كان الاحتفاء به من نظر الدولة متمثلة في ذراعها الأمني الباطش كان بزيادة وطأة كل ذلك دفعة واحدة عساها تصنع بهجة خاصة للدولة في العيد، فياله من عيد يمر من جديد على المصريين!
ظهر مصعب واختفى عُبادة، اعتقل خالد واستوقف الطوبجي، ومثلهما العشرات، إذ تمكنت أخيرًا أسرة الصحفي مصعب حامد من التوصل لمكان إخفائه أول أيام عيد الأضحى بعد أكثر من شهرين ونصف على إخفائه قسرًا وذاك عقب عرضه على النيابة العسكرية في الإسكندرية، بينما وافق نفس التاريخ اليوم الرابع لمحاولة أسرة الطفل عبادة جمعة البحث عنه لمعرفه مكانة، إذ قامت القوات الأمنية بإخفائه قسريًا بعدما كان من المقرر إخلاء سبيله بعد شهرين من الاعتقال.
في تلك الأثناء علمت أسرة القيادي بجماعة الإخوان المسلمين محمد البلتاجي مكان احتجاز ابنها القاصر خالد، بعد ثلاثة أيام من الاختفاء القسري الذي أعقبه قرار اعتقال، ليكون الثالث المعتقل في نفس الأسرة بعد والده وأخيه، كذلك كان حال شاب أولتراس وايت نايتس والمشجع الكروي ياسر الطوبجي الذي لم يسلم من بطش الأمن، فتم توقيفه في مطار القاهرة ومنعه من السفر إلى تونس لمؤازرة فريقه في المباراة التي يلعبها هناك، حيث تم إلقاء القبض عليه بعد ذلك.
مشهد آخر من محافظة الإسكندرية التي شهدت يومًا عصيبًا في أول أيام العيد، فقبل صلاة العيد اعتقل الأمن ثلاث فتيات بالإسكندرية واستولى على أجهزتهن المحمولة قبل تركهن في الشارع، وعقب الصلاة لم يفت قوات الأمن التعدي على فتاة أخرى، كما قامت أجهزة الأمن بالتعدي على بعض الساحات والمساجد التي تجمع بها المواطنون لتأدية صلاة العيد، حيث اعتقل بعض الأفراد منها، ليسفر اليوم الأول من العيد عن اعتقال نحو 27 شخصًا توزعوا على أقسام شرطة ثاني الرمل، وأول المنتزة ومنيا البصل بالإسكندرية وحدها، في الوقت الذي شابهها فيه عمليات اعتقال متفرقة في عدة محافظات أخرى، أما في مدينة السادس من أكتوبر أٌطلقت الشرطة المصرية النيران على متظاهرين بعد دقائق قليلة من تجمعهم لمنعهم من التجمهر.
شبه جزيرة سيناء كان لها نصيب من احتفالات الدولة الخاصة بالعيد، إذ قامت قوات الجيش التابعة لمعسكر الزهور بمدينة الشيخ زويد بتصفية مواطن يدعى “محمد سالمان الحمادين”، عشية أول أيام العيد، بعد 4 أيام من اعتقالها له، وتحدث بعض النشطاء السيناويين عن تصفية 3 معتقلين من أبناء سيناء إبان انتظار أسرهم الإفراج عنهم خلال تلك الأيام.
وفي اليوم الثاني من العيد، انضم رجل معتقل إلى قائمة بها ما يزيد عن 300 شخص راحوا قتلى نتاجًا لعمليات الإهمال الطبي والتعذيب في السجون التي تتم منذ انقلاب الثالث من يوليو 2013، حيث توفي أحد معتقلي سجن العقرب ويدعى “عماد حسن” صباح اليوم الثاني من عيد الأضحى بعد صراعٍ مع مرض السرطان، إذ لقى الرجل حتفه داخل مستشفى القصر العيني التي تعسفت في إجراء عمليات جراحية له أو تحويله لمستشفى آخر، وقد كان نقل إليها متأخرًا جدًا بعد أن تمكن المرض منه، وذلك لرفض إدارة سجن العقرب نقله من فترة رغم أن أسرته تعهدت بتكبد مصاريف علاجه خارج السجن كاملةَ، إلا أن إدارة السجن سيء السمعة لم تسمح له بدخول الأدوية قبل ذلك، وتعنتت في تقديم الرعاية الطبية بعد تدهور حالته، واستمرت في تعقيد وإبطاء الإجراءات الروتينية اللازمة لعلاجه، حتى أهدرت من الوقت الكثير الذي لم يكن في صالح المعتقل المريض بالطبع.
كانت أبرز الحُجج المستخدمة لتأخير نقل الرجل في حالته المتأخرة من المرض لمستشفى خارجي ومن ثم مستشفى الأورام لإجراء جراحة له هي أنه لا يوجد تأمين كافٍ لنقله بين المستشفيات الخارجية، إذ لم يكن لدى إدارة السجن ما يكفي من القوة الأمنية لتخصيص بضع عربات لنقل ذلك الرجل المصاب بورم سرطاني داخل المعدة والإثنى عشر وانسداد في مخرج المعدة في حالة متأخرة والذي أضعفه كثيرًا حتى بات جلدًا على عظم وفقد 40 كيلو جرامًا من وزنه نتيجة عدم قدرته على تناول الطعام والشراب قبل ثلاثة أشهر من وفاته بسبب مرضه.
كان الرجل في بداية اعتقاله في إحدى قضايا جنايات أمن الدولة العليا قد تعرض للتعذييب والضرب والصعق بالكهرباء أدى إلى خلع في كتفه وكسر في الفك، كما تعرض كغيره من معتقلي السجن لظروف قاسية من تقديم طعام غير آدمي ومنع التريض والأدوية واحتجاز في زنازين لا تصلها أشعة الشمس تقطع عنها المياه أغلب ساعات اليوم ما أدى لإصابته بهذا المرض الذي حصد روحه كما فعل مع 5 معتقلين احتجزوا بنفس السجن.
ثالث أيام عيد الأضحى، قتل تسعة أشخاص برصاص قوات الأمن في منطقة أوسيم بالجيزة، وقالت الأجهزة الأمنية إنهم قتلوا في تبادل لإطلاق النيران، ونشرت مجموعة من الصور لهم وبجوارهم بعض الأسلحة، وخرج مسؤولون أمنيون يهللون بالإنجاز الوطني العظيم في التخلص من عدد من العناصر الإرهابية التي كانت تنتوي تنفيذ بعض العمليات، وقد بدا أن الخيار الأسهل لدى الأجهزة الأمنية هو القتل والتصفية المباشرة دون السعي في اتخاذ أية إجراءات قانونية تدين أو تبرئ الضحايا من التهم التي تلصق بهم بعد قتلهم.
القتل خارج إطار القانون بات أمرًا عاديًا ومستساغًا إلى حد كبير لدى الأمن المصري، بل أنه أصبح القرار الأسهل بالنسبة للأجهزة الأمنية توفيرًا لوقت الاعتقال وأماكن الاحتجاز والتحقيق وتلفيق التهم وإجراءات التقاضي التي تأخذ وقتًا طويلًا، فالأعداد متزايدة والقصص متشابهة والنهايات واحدة، فقبل يومين فقط من عيد الأضحى، قتل 20 مواطنًا بمنطقة جبل القوصية وديروط في أسيوط بواسطة قوات الصاعقة والتدخل السريع وطائرات الهليكوبتر التي كانت تساعد من الجو، كما اعتقل 9 آخرين بزعم أنهم “عناصر إرهابية داعشية” تسللوا للاختباء بالمنطقة الجبلية المتاخمة لمركزي ديروط والقوصية، ولا يتسنى لأحد نشر ما يكذب ذلك فعقابه شديد، فبحسب قانون الإرهاب الذي صدر رسميًا في أغسطس الماضي يمنع الصحفي من عمله مدة عام مع تغريمه 500 ألف جنيه إذا نشر معلومات تخالف البيانات الرسمية بشأن “الإرهاب”.
سبق عيد الأضحى قرارين جمهوريين بالإفراج عن عدد من السجناء، في محاولة للتغطية على الجرائم السابقة وربما التالية التي ارتكبت خلال أيام العيد الأربعة ؛الأول كان قرارًا بالإفراج عن 358 من نزلاء السجون في قضايا جنائية، أغلبهم خرجوا لحسن السير والسلوك أو لقضاء جزء كبير من مدة العقوبة المفروضة عليهم، أما القرار الثاني الصادر ليلة العيد فجاء للعفو عن 100 سجين رأي محكوم عليهم في قضايا سياسية بينهم 16 فتاة وسيدة، من أصل نحو 50 ألف معتقل سياسي، وبمقارنة تلك الأعداد يتضح أن قرار الإفراج عن معتقلي الرأي لمجرد التغطية على الجرائم وتحسين صورة السلطة لا أكثر، خاصةً وأن أغلب المعفى عنهم كانوا قد أوشكوا على إنهاء مدد حبسهم ولم يبق على أغلبهم غير أسابيع قليلة لينالوا الحرية بعد قضاء فترات متفاوتة في السجن.
ورغم القرار الصادر الخاص بمعتقلي الرأي إلا أن 7 منهم لم يروا النور بعد، فأربع معتقلات وثلاثة رجال مازالوا محبوسين بحجج مختلفة رغم أنه من المفترض أن القرار الجمهوري نافذ، طالبتا جامعة المنصورة “منة الله البليهي”، “أبرار العناني” اللتين قضيا عام وتسعة أشهر في السجن من أصل عامين، رفضت إدارة سجن المنصورة إخلاء سبيلهن بحجة قبول النقض المقدم منهن على الحكم، وأكدت أنه يتوجب تقديم طلب إحياء عفو عنهن أمام مصلحة السجون لنظر إذا ما كان يصح تنفيذ القرار الرئاسي أم لا.
وهو نفس الأمر الذي حدث مع المعتقلة “أسماء شحاتة” المحتجزة بقسم الهرم بالجيزة حيث لم يصدر بحقها أي أحكام طوال فترة عام ونصف من احتجازها هي وولديها الذي لم يتجاوزأكبرهما سن العشرين، والثاني في الرابعة عشر من عمره، أما بالنسبة المعتقلة الرابعة التي لم يفرج عنها وهي “ناهد عبدالحميد” إحدى معتقلات مسيرة الاتحادية التي سبق أن أخلي سبيلها، فيُرجح أنها ستقضي شهرًا آخرًا في السجن وهو مدة عقوبتها، إذ إن قرار العفو يشترط كسر مدة المراقبة، وهكذا وبعد الإفراج عن 12 من أصل 16 فتاة وسيدة شملهن العفو الرئاسي يتبقى 72 أخريات محبوسات في السجون المصرية.
تلك أجواء الفرحة التي حاولت السلطة في مصر رسمها وصناعتها خلال العيد، وإن كانت تلك الأجواء هي غيض من فيض السلطات الغزير في هذا الجانب بالتحديد، وإن كانت أيضًا تحاول جاهدةً أن تصنع تلك الأجواء معظم أيام العام وليس فقط في أيام العيد، لتحقق ما تهفو إليه من تحقيق أمن ورخاء وسعادة وراحة المواطنين عبر إراحتهم من هذه الحياة.