لم تشف ذاكرة التونسيين بعد من رواسب الدكتاتورية التي فُرضت عليهم سنين طوال، أيام كان الحزب الحاكم هو الدولة وكانت الدولة في خدمة الحزب الحاكم، فرغم ما قيل عن أن ذاكرة الشعوب قصيرة، تبقى تلك السلوكيات، التي حولت منتسبي الحزب الحاكم إلى جهاز وشاية موازي، وحولت مرافق الدولة إلى أدوات بيد السلطة لتثبيت نفوذها، حاضرة في الأذهان، كابوسًا يأبى أن يغادرها رغم الثورة وما فلحت في تغييره.
مع نجاح تونس في تنظيم ثاني انتخابات ما بعد الحراك الشتوي سنة 2011، خيل للجميع، مراقبين ومواطنين على حد سواء، أن تلك السلوكيات ولت بلا رجعة، وأنها لن تعد مستقبلًا سوى أن تكون كوابيس مزعجة قد تساهم الأيام في محوها، إلا أن نتائج الانتخابات، التي نصبت الحزب الذي لا يخفي أن قاعدته الصلبة تتكون أساسًا من بقايا حزب التجمع المنحل، حزب المخلوع بن علي، ساهمت في إحياء تلك الممارسات في بيان واضح لذلك المثل العربي القائل “ما بالطبع لا يتغير”.
إن المتابع ليوميات الساحة السياسية، والمهتم أساسًا بحركات وسكنات الحزب الحاكم في تونس لا يصعب عليه أن يستنتج أنه – الحزب – لم يقدر بعد على تحديث سلوكه بما يتلاءم مع مقتضيات الوضع الجديد الذي فرضته الثورة، وأنه إلى اليوم لم يقدر أو لم يحاول حتى أن يحقق ذاك التمايز المطلوب بين الحزب بما هو مكون ضمن مكونات أخرى تشكل المشهد السياسي التونسي من جهة، وبين الدولة بما هي ذاك الجذع المشترك الذي يجب أن تتجمع حوله كافة الحساسيات الحزبية والفئات الاجتماعية سمته الحياد، والذي يبقى ويتواصل حين تتغير الأحزاب الحاكمة مع كل انتخابات، من جهة أخرى.
فمنذ أيام، تحول أمين عام نداء تونس، محسن مرزوق، وهو الذي لا صفة له اليوم سوى صفته الحزبية، إلى إحدى المدارس الريفية في منطقة الشمال الغربي، ليحظى باستقبال رسمي من طرف القائمين على تلك المدرسة يرافقه كوادر حزبه في تلك المنطقة وبفريق إعلامي، معاينًا لحالتها ومقدمًا “هبات” لتلاميذها مستغلًا حالة الفقر التي يعيشونها، ضاربًا عرض الحائط بفصل من فصول الدستور، الذي نص صراحة على ضرورة تحييد المؤسسات التربوية عن الدعاية الحزبية، ومعيدًا لمشهد طالما كان بن علي بطله خلال الحقبة السوداء الماضية.
قبل ذلك، أدى وزير التربية والقيادي الندائي، ناجي جلول، زيارة إلى مدرسته التي زاول فيها تعليمه الابتدائي، المدرسة الابتدائية بالبقالطة وذلك في إطار شهر المدرسة، ونشرت وزارة التربية صور هذه الزيارة وقد ظهر في إحداها أنه تم تعليق لافتة لحركة نداء تونس في مدخل المدرسة، ما أثار جدلًا واسعًا حول مبدأ حياد المؤسسات التربوية، فإن كان من الطبيعي أن يزور وزير التربية التونسية إحدى المدارس، فإنه من غير المقبول أن يزورها بصفته الحزبية وليس بصفة المسؤولية الممنوحة له في الحكومة.
وفي السياق ذاته، ظهر القيادي بحركة نداء تونس، عبد العزيز القطي، في صورة تم التقاطها مؤخرًا بإحدى المدارس بالعاصمة تزامنًا مع العودة المدرسية، وظهر القطي في الصورة مبتسمًا للكاميرا وهو يصافح امرأة ويمنحها باليد اليسرى محفظة مدرسية على الأرجح لابنتها، في مشهد اعتبره البعض تجارة بظروف الناس وآلامها تحت عنوان “صوروني وأنا أعمل في الخير”، وبغض النظر عن البروباغندا السمجة المرتكزة على المتاجرة بفقر الناس، أقيم الدليل مرة أخرى على استباحة أكثر مؤسسات الدولة التي يجب أن تبقى بعيدة عن الاستثمار الحزبي الضيق، المدرسة.
وفي الحقيقة لم يقتصر الأمر على المدرسة، فما إن تمكن نداء تونس من الحكم، حتى شرع في عملية اجتياح للإدارة التونسية من خلال عزل كل من تم تنصيبهم سابقًا وتعويضهم بموالين له، وهو ما يتعارض مع أبجديات تسيير الدول، خاصة إذا ما كان العنصر المحدد لهذه التسميات هو الولاء الحزبي وليس الكفاءة، ورغم احتجاج شركاء الحكم وخاصة حركة النهضة على هذا النهج الذي يتعارض مع مبدأ التشاركية، يواصل نداء تونس تعامله مع الدولة وإداراتها على أساس أنها فناء خلفي للحزب، في اجترار لسلوك التجمع المنحل، وبلا خجل.
“من شابه أباه ما ظلم”، هذا ما قاله الشاعر محسن الهزاني في حادثته المعروفة مع ابنه، وهكذا يستقيم القياس بين سلوك نداء تونس وسلوك الحزب الذي جثم على صدور التونسيين لمدة تجاوزت العقدين، فكيف لمن ورث عن ذلك الحزب كوادره ورصيده الانتخابي ألا يرث سلوكه المعوج، فالتشبع بثقافة الدولة وقيم الديمقراطية والمواطنة ليس يسيرًا لدى من حاربها وحارب من يناضل من أجلها.
و”المؤمن لا يلدغ من الجحر مرتين”، و”الساكت عن الحق شيطان أخرس” هو ما يليق بباقي الطيف السياسي الذي يزكي بصمته هذا التغول الذي يقوده الحزب الحاكم في تونس، فبعض مكونات الساحة السياسية في تونس اكتوت بنار “الحزب الدولة والدولة الحزب” فيما مضى، لكنها تكتفي اليوم بالمشاهدة، وفي أقصى الأحيان ببعض الأنين، ناكصة بوعودها التي قطعتها على من انتخبها أنها ستسهر على احترام الدستور، وتحييد مؤسسات الدولة إحدى بنوده، وأنها ستحمي الديمقراطية، وهي التي سيضيق مجالها تدريجيًا مع هيمنة حزب الرئيس على مفاصل الدولة بمنطق الغنيمة، فمتى يستفيق هؤلاء من غفلتهم ويكفرون عن صمتهم السابق؟